أفغانستان الجريحة.. نعيم الملكية وجحيم العسكر ولعنة الغزاة

لعل أفغانستان من أكثر الدول في وعي جيلنا ارتباطا بالحروب والقتل والتشرد والبؤس، ذلك أنها دخلت قبل أربعة عقود دوامة الحرب دون توقف حتى اليوم، وهي منطقة صراع إقليمي ودولي مستمر للسيطرة عليها لموقعها الاستراتيجي الهام.

هذه قصة أرض جميلة جدا بقدر ما هي ملعونة، إنه بلد عالق في الحروب منذ وقت طويل، وقليل من يمكنهم أن يتذكروا متى بدأ ذلك أو لماذا، نظرا لمرور أكثر من أربعين عاما على اشتعال فتيل القتال والحروب دون أن يهدأ أبدا حتى اليوم.. وماذا يريد المتقاتلون الذين لا يتعبون من الحرب، أهو المال أم السلطان أم الدين؟! لا أحد لديه إجابة واضحة، فما الخطأ الذي وقع في أفغانستان، فأبقى على هذه الأرض القاحلة لغزا؟

أفغانستان الواقعة في قلب آسيا وتحيط بها حضارات قديمة، بقي أهلها معزولون خلف جبال هندوكوش الشهيرة، ورغم انقسام الأفغان إلى قبائل، فقد وحدهم دينهم الإسلامي ورغبتهم الشرسة بالاستقلال. فعلى مر التاريخ غزا فاتحون ذوو جيوش عظيمة هذه الأمة من الإسكندر الأكبر إلى الإمبراطورية البريطانية، لكنهم واجهوا جميعا المقاومة الأسطورية للأفغان.

ونظرا لأهمية التجربة الأفغانية على كل الصعد، أنتجت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما من أربعة أجزاء، يروي حكاية الجرح الأفغاني الدامي من نهاية العهد الملكي إلى اليوم.

 

علي صبري

يتناول الجزء الأول من الفيلم بعنوان “المملكة”، الحياة المنفتحة في كابل في عهد الملك ظاهر شاه، وحتى الغزو السوفياتي العسكري لأفغانستان، مرورا بسلسلة انقلابات وأحداث دموية، مثل انقلاب داود خان على الملك ظاهر شاه، وانقلاب الشيوعيين عليه وقتله مع عائلته وتولي نور محمد تراقي الحكم، وانقلاب حفيظ الله أمين على تراقي، حتى الدخول العسكري السوفياتي وقتل تراقي.

ظاهر شاه، ملك أفغانستان وصاحب الرؤية الأجنبية لبلده، كان على تقارب كبير مع الغرب

 

ظاهر شاه.. آخر ملوك أفغانستان

يُفتتح الفيلم بمجموعة صور قد تكون صادمة للكثيرين، لأنهم سيخالونها من أي دولة إلا أفغانستان، دور سينما ومراقص وعروض أزياء عصرية، والسياح الأجانب (الهيبيز) يتجولون في شوارع كابل، حياة لا علاقة لها بالصورة النمطية عن أفغانستان اليوم.

كانت تلك أفغانستان في العهد الملكي قبل أن تجرفها دوامة الانقلابات والحروب التي لم تهدأ حتى الساعة، ففي الخمسينيات والستينيات حاول رجل تغيير كل شيء في أفغانستان، فقد كان للملك ظاهر شاه حلم عصرنة بلاده، فأرسى الديمقراطية وفتح باب أفغانستان أمام العالم، وكانت زوجته حميراء سيدة أولى عصرية، وقد تجرأت أن تظهر علنا بلا حجاب، صادمة الكثيرين في ذلك البلد الإسلامي المحافظ.

يقول حمايون آصفي عضو العائلة الملكية الأفغانية الذي نُفي إلى فرنسا عام 1978: كانت شقيقتي ملكة أفغانستان، وكان والدي عم الملك ظاهر شاه وزوج أمه في الوقت نفسه، وكانت شقيقتي ذكية ومتسلطة جدا، وأعتقد أنها في بعض الأحيان سيطرت على الملك، فقد كان الملك ظاهر شاه شخصية استثنائية، فلم يكن متعطشا للسلطة. في العام 1964 وضعنا دستورا عاش 10 سنوات حتى 1973، وهو ما نسميه “عقد الديمقراطية”.

سافر الملك إلى عدة دول واستلهم من القادة الذي قابلهم، وفي فترة الحرب الباردة كان العالم مقسوما بين معسكرين، لكن ظاهر شاه فعل المستحيل ليبقى على الحياد، فقد كان يقول: شمالا حدودنا طويلة مع الاتحاد السوفياتي، ولا يمكن أن تكون لدينا سياسة عدائية تجاهه.

وبفضل سياستها الحيادية تمكنت أفغانستان من جلب المساعدات المادية من الطرفين، فبنى الأمريكيون السدود جنوبا، بينما بنى السوفيات الجسور والطرقات شمالا، فلم تعد البلاد معزولة وباتت كابل تشبه عاصمة أوروبية، وكانت المدارس تعلم الأطفال الفرنسية والألمانية والإنجليزية.

وعن تلك المرحلة تتحدث سيما سمر التي درست الطب في جامعة كابل، وكانت أول وزيرة أفغانية لشؤون المرأة عام 2001، إذ تقول: “كنا في المدارس نلعب سويا مع الأولاد كرة السلة والطائرة ونرتاد السينما”. وهو ما يؤكده مسعود خليلي الذي درس الأدب في جامعة كابُل وانضم إلى المقاومة الأفغانية خلال الغزو السوفياتي: كان لدينا داران أو ثلاثة للسينما، وفي البداية لم تكن هناك ترجمة، لكننا كنا نشاهد الأفلام ونستمتع بها.

شهادة أخرى من شكرية بركزاي، وقد نشأت في كابل وأصبحت عام 2004 عضوا في البرلمان الأفغاني، وتقول: كانت كابل مدينة مختلفة تماما، كانت مدينة عصرية بمعنى الكلمة. وأذكر أني عندما كنت أدخل أحد المطاعم أرى أمرين، موسيقى الجاز الصاخبة التي كانت تعزف حية في المطعم ودخان السجائر، فالكثير من الناس يدخنون، لا يمكنكم تخيل الحياة التي كانت تعيشها كابل.

سيما سمر، شاهد على العصر، بين قديم أفغانستان المشرق أيام الشاه، وبين عصر الحرب

 

أفغانستان المنفتحة.. كعبة السياحة في الشرق

يذهب رجل الأعمال والزعيم القبلي حشمت غاني في توصيف الحياة العامة في كابل إلى حد بعيد بقوله: معظم الناس لا يدركون أن أفغانستان في ذلك الوقت كانت تنتج “البراندي” والنبيذ هنا في كابل. وكان لفندق إنتركونتيننتال بركة سباحة مذهلة، وعلى الطابق الأعلى أفضل ملهى ليلي، وبالنسبة لبلد إسلامي في تلك الحقبة كنا ربما الأكثر انفتاحا في محيطنا، بعد ذلك أتى عصر السياحة.

هذا اللون من الحياة المنفتحة جذب إليها الكثير من السياح الأجانب، ومعظمهم كانوا هيبّيين، وفي طريقهم إلى الهند كانوا يتوقفون في أفغانستان ويكتشفون هذه الثقافة الغريبة ويتعاطون الحشيش الأفغاني.

وتذكر سيما سمر أن هؤلاء السياح كان يسافرون في أنحاء أفغانستان بالحافلات المحلية بشعورهم الطويلة وملابسهم الهيبّية لزيارة الأماكن التاريخية، مثل هرات وباميان لرؤية تماثيل بوذا العملاقة.

ولا يزال خليلي يذكر تلك المشاهد، ويؤكد أن بعض السياح كان يحمل معه الحشيش ويدخنه، “وهو ما لم نكن نستحسنه، وكانت والدتي تقول لي دوما: كن حذرا. وكان يلفتنا جمال الفتيات السائحات ذوات الشعر الأشقر والعيون الزرقاء، وحتى رجالهم كان شعرهم طويلا، وبدل أن يتأثروا بثقافتنا كنا نحن نتأثر بهم”.
ويعرض الفيلم صورا أرشيفية لفتاة غربية وهي تدخن الحشيش، وتقول نعم أنا أدخن الحشيش، إنه حشيش جيد. وصورا أخرى تعود لعام 1969 في عرض أزياء عصري، تظهر فيه عارضة باللباس البدوي وهي تحمل بندقية “موسر”.

وتقول زهرة يوسف التي فازت عام 1972 بمسابقة ملكة جمال أفغانستان حين كانت في الصف الـ 12 من المدرسة: إحدى الطبقات الاجتماعية في مجتمعنا كانت تُسمّينا الغربيين لأننا نبلس مثل الغرب ونستمع إلى موسيقاهم ونعيش مثلهم، كانت طريقة حياة بالنسبة لنا.

في الوقت الذي كانت فيه العاصمة كابول تغوص في الرزايا، كانت الولايات الأخرى تئن من الفقر والحرمان

 

عالم كابل المتغرب.. عزلة المترفين المستفزة

لم يكن المشهد المتغرب هو الحالة العامة في أفغانستان، فالعاصمة كابل ونخبتها كانوا يعيشون في عالمهم الخاص، أما في الولايات البعيدة حيث يعيش 80% من الأفغان فقد كان الوضع مختلفا جدا، حيث يتبع الفقراء وغير المتعلمين التعاليم الثقافية والتقليدية، فكانت النساء معزولات، وكان بيعهن للزواج ممكنا، وكان الدين هو السلطة الأقوى.

وهذا ما يؤكده حشمت غاني بقوله: الكثير من الأفغان أو العائلات الـ40 التي حكمت هذه البلاد تصرفوا مثل الأرستقراطيين الإنجليز لسوء الحظ، وكانت قوانينهم مناسبة للمدن، لكنهم أزعجوا القرويين كثيرا.

وتتفق معه زهرة يوسف، التي تقول: لم تفكر الطبقة المخملية في أفغانستان بما سيحصل في البلاد، كنا نائمين في تلك الأيام ولم نر الحقيقة لسوء الحظ، بسبب الاختلاف الكبير بين الطبقات الاجتماعية.

وهو ما لا ينكره سليل العائلة الملكية حمايون آصفي الذي قال: كانت الأقلية تريد تغيير الأمور، لكن الأكثرية كانت محافظة ومتدينة جدا، وأي تغيير قد يطرأ كان يمكن أن يصدمهم أو يثير حنقهم.

ولم يكن رجال الدين مرتاحين للتغييرات التي أدخلها الملك، فكانت الديمقراطية وحقوق المرأة مبادئ غريبة جدا عليهم، وشاركهم هذا القلق عدد من سكان القرى المحافظين.

قلب الدين حكمتيار.. أشهر القادة السبعة الذين قادوا الجهاد الأفغاني ضد الروس وأكثرهم تبعا وتسليحا

 

بوادر الحراك الفكري.. ثورة كبرى توشك على الاندلاع

هذا قلب الدين حكمتيار أحد أبرز القادة الإسلاميين في أفغانستان، وقد تولى منصب رئيس الوزراء عام 1993، يتحدث عن تلك المرحلة فيقول: ولدت قبل 70 سنة في مديرية إمام صاحب في ولاية قندوز شمال أفغانستان، وكنت التلميذ الأفضل في صفي، لكن حين وصلت إلى الصف التاسع استفاد أحدهم من نفوذه للحصول على علامات أفضل، لهذا قررت استكمال دراستي في مكان آخر، ودخلت أخيرا كلية الهندسة في جامعة كابل، وللأسف كان الوضع في جامعة كابل تحت سيطرة الشيوعيين.

فقد كانت تلك المرحلة هي أوج توسع الاتحاد السوفياتي ونشر أيديولوجيته الشيوعية في العالم، فهو لم يبن فقط الجسور في أفغانستان، فقد كان الضباط الشباب يخضعون للتدريب بإشراف الجيش السوفياتي، وكان أفضل الطلبة يبتعثون للدراسة في موسكو، وهو ما وفر له الآلاف من المريدين ومعتنقي مبادئه في كابل. ومع نهاية الستينيات كان طلاب العالم يتشاركون الأفكار الثورية، وحصلت الاضطرابات في كل مكان، ولم تكن أفغانستان استثناء.

وعن تلك الفترة يقول آصفي الذي يتحدث بالفرنسية: كانت فترة سياسية مثيرة لا سيما للشباب، فكان هناك فورة وطاقة لا أراهما اليوم في بلادي أو في أي مكان آخر، كانت ظاهرة عالمية بدأت في بيركلي ثم في السوربون في فرنسا، وتأثرت أفغانستان بها أيضا.

تأثر أفغانستان بالحراك العالمي يتذكره خليلي فيقول: أفكار جديدة وأيديولوجيات تظهر، وكنا يافعين ونسمع من حولنا عن لينين، وانتفاضات الطلاب حول العالم في تشيكوسلوفاكيا وإسبانيا وأمريكا اللاتينية، فالعالم يتغير ويجب أن نفعل مثله.

وهو ما ذهبت إليه سيما سمر الناشطة في حقوق المرأة، إذ تقول إن الأفكار الثورية في كل مكان، وحصلت أفغانستان على حصتها من هذه الأفكار “فأنا مثلا اضطررت أن أتزوج لأرتاد الجامعة، لكن أعتقد أننا كنا دعاة تحرر بالفعل دون معرفتنا بهذا المصطلح، كان زوجي أستاذا في الجامعة، وأخبرته من البداية أنني لا أستطيع أن أكون زوجة مطيعة، لكن يمكنني أن أكون صديقة رائعة، وعلينا أن نتشارك الحقوق مناصفة بيننا، وطبقنا هذه المناصفة، وكنا مشهورين بذلك في العائلة، وكانوا يسألوننا، كيف حال الـ50%”.

ولم يكن ذلك بعيدا عما نادى به الشيوعيون الأفغان بالمساواة بين الرجال والنساء في سياق الحلم بثورة واشتراكية اجتماعية.

هذه الأفكار الثورية في الحياة الاجتماعية يتحدث عنها فريد مازداك الناشط الشيوعي السابق في كابل والمنفي الآن في ألمانيا، فيقول: في ذلك الوقت كنا نعيش أحلام يقظة، كانت لدينا تلك الرؤية المثالية لبلادنا، ولم نكن واقعيين، انضممتُ إلى حزب يساري هو “الحزب الديمقراطي الأفغاني” وكان أهم شيء بالنسبة لي ولرفاقي أن نغير البلاد، وصغار السن بيننا أرادوا العيش خارج عباءة الدين.

مظاهرات إسلامية ضد مظاهرات شيوعية سيطرت على الساحة في عصر الملك بعد تفشي الشيوعية ومظاهرها

 

معركة الشيوعيين والإسلاميين.. صدام الأفكار ينزل إلى الأرض

كانت العقيدة الشيوعية بالطبع مناقضة تماما للدين الإسلامي، فكانت تنفي وجود الرب، وهو أمر غير مقبول لدى غالبية الأفغان. لذلك يقول حكمتيار: هناك للمرة الأولى سمعت أحدهم ينكر وجود الله، ويطلب برهانا على وجوده، حينها أدركت أن الشيوعية تريد أن تغير عقيدتنا.

وكما في كل دول العالم تشكل الجامعات أهم ساحات صراع الأفكار، وقد أصبحت جامعة كابل مركز قوة رئيسية للصراع الفكري، وتنافس التيارات السياسية المختلفة، وانقسم الطلاب إلى معسكرين متضادين، الشيوعيون من جهة والإسلاميون من جهة أخرى، ثم نزل هذا التنافس إلى الشارع، فخرجت مظاهرات حاشدة في جامعة كابل عام 1967.

وعن ذلك المشهد الطلابي يقول فريد مازداك: شاركت في المظاهرات الطلابية الأولى، وكنا ننظم اجتماعات ومظاهرات طوال الوقت، وفعل الإسلاميون الأمر نفسه، فإذا عقد قائد شيوعي كبير تجمعا، تجد في الوقت نفسه في مكان آخر قائدا إسلاميا معروفا هو حكمتيار يلقي خطابا.

ويقول حكمتيار الذي كان من أبرز الطلبة الإسلاميين الناشطين في جامعة كابل عن ذلك: قررت أن أتصرف، فكيف يمكننا أن نبقى صامتين، وكان علينا أن نقاتل هؤلاء الناس، لذا بدأنا بتوزيع المناشير، ووقعناها باسم “الشباب المسلم” وبات هذا التوقيع هو اسم حركتنا.

هذا الصراع الفكري والطلابي كان محصورا في كابل وجامعتها، أما عامة الشعب في القرى النائية فكان لديهم مشاكل أكبر، فقد سيطر جفاف قاحل على أراضيهم، وجاع الآلاف ووصلوا حد الموت، ولم يفعل الملك الكثير من أجلهم، لذلك بدت شعبيته مترنحة، وبدأ البعض بالتخطيط للتخلص منه.

محمد داوود خان، صاحب أول انقلاب في تاريخ أفغانستان

 

رحلة إيطاليا الأخيرة.. نهاية أيام المملكة

في يوم الثلاثاء في 17 يونيو/حزيران عام 1973 بينما كان الملك في إيطاليا، انتهت الملكية بانقلاب عسكري على يد ضباط الجيش الذين تدربوا في الاتحاد السوفياتي بقيادة محمد داود خان قريب الملك ورئيس الوزراء السابق بالتحالف مع الحزب الشيوعي، وأصبح أول رئيس للبلاد بإعلانه قيام الجمهورية.

نفي الملك ظاهر شاه الذي حكم البلاد أربعين عاما من عام 1933 إلى عام 1973، وفتحت نهاية حقبة الملكية الباب أمام سلسلة من الانقلابات والحروب التي استمرت حتى يومنا هذا.

تقول زهرة يوسف: حين قام داود خان بانقلابه كان الناس سعداء لأنهم ظنوا أنه جاء للتغيير، وأن كل شيء سيتغير والبلاد ستتقدم.

وككل المنقلبين على أنظمة سابقة وعد الرئيس داود خان بإجراء إصلاحات اجتماعية على مختلف الأصعدة، فكان يأخذ الأراضي من المالكين ويعطيها للمزارعين، وسريعا بات صوت المرأة مسموعا بمطالبتها بحريتها واستقلالها، ولم يطل الوقت حتى اتضح أن دواد خان كان متسلطا وشكاكا حد الهوس، واضطهد الإسلاميين الذين لم يقبلوا بإصلاحاته وبتحالفه مع الشيوعيين.

ويعتقد حكمتيار أن داود خان “كان يخطط لمحو الحركة الإسلامية، وللدفاع عن أنفسنا أجبرنا على البدء بالعصيان المسلح”. وفي تسجيل أرشيفي يظهر حكمتيار متحدثا عن الثورة المسلحة التي أطلقها بقوله: هذه الثورة هي ثورة إسلامية، ولها أهدافها المحددة، وهي إرساء نظام إسلامي خالص في أفغانستان، وتحرير أفغانستان.

وترى شكرية بركزاي أن “الحركة الثورية الإسلامية كانت تلوم الشيوعيين، وهم بدورهم كانوا يلومون الإسلاميين، فلعبة التلاوم بين الأيديولوجيات كانت منذ البداية، وكان تصرفا غير ناضح من الطرفين، فلم يحافظوا على قيمة كبيرة جدا هي الوحدة الوطنية”.

بين ليلة وضحاها، غاب داوود خان الرئيس المنقلب، في انقلاب دموي شمله وشمل 23 من أفراد عائلته

 

داود خان.. كما تدين تدان

حكم داود خان البلاد بقبضة حديدية، فأوقف العمل بالدستور ومنعت المظاهرات، واعتقل النشطاء الإسلاميين، فهرب بعضهم إلى باكستان وحضّروا للتمرد على حكمه، كما بدأ الشقاق يدب بينه وبين الشيوعيين أيضا، ففي سنوات قليلة خلق داود خان لنفسه أعداء ألدّاء، مثل الإسلاميين وملاك الأراضي، والآن يعاديه الشيوعيون والاتحاد السوفياتي.

وفي زيارة له إلى موسكو عام 1977 أقدم داود خان على قرار مصيري وفض العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، فقد أراد القائد السوفياتي “بريجنيف” استغلال الانقلاب ليمد سيطرته على أفغانستان، لكن داود خان رفض، فهو كأفغاني حقيقي كان يأبى أن يقبل الأوامر من الخارج، فوقّع على ما عُد قرار إعدامه، إذ أمر بتوقيف قادة الشيوعيين الذين ساعدوه في الانقلاب على الملك ظاهر شاه، وقاد اغتيال أحد القادة اليساريين في السجن إلى انقلاب جديد.

في أبريل 1978 استلم الأفغان الشيوعيون السلطة بدعم من الجيش، وقاموا بقتل داود خان و23 فردا من عائلته، وأسمو ذلك “ثورة أبريل”، فبعد 36 ساعة من القتال العنيف هُزم محمد داود خان وانتهت فترة حكمه المطلق، وحكم العائلة المالكة بأكملها.

ومع انتهاء حكم العائلة المالكة، علم حمايون آصفي فجأة أنه لم يعد له وطن، بعد أن قتل 23 فردا من عائلته في اليوم نفسه، وأن عددا آخر من بينهم زوجته أودعوا سجن “بولي شرخي”.

تتذكر زهرة يوسف ذلك اليوم بقولها: أتيت إلى وزارة الثقافة لأنني كنت أعمل هناك، ورأيت الجميع يركضون، وسألتهم إلى أين تذهبون؟ فقالوا حصل انقلاب، والنيران تلتهم القصر، وعند الخامسة فجرا أذاع الراديو في كابل أن الرئيس داود قتل مع كل أفراد عائلته، وكانت مأساة بالنسبة لنا، وبكيت كثيرا أنا وعائلتي، لأننا كنا نعرف الرئيس داود ولأنه قتل مع عائلته بكاملها.

وفي صور أرشيفية يبرر الرئيس الجديد الذي قاد الانقلاب نور محمد تراقي انقلابه في مؤتمر صحفي بقوله: شعرنا أن داود سيفعل في المستقبل القريب شيئا ما ضدنا، فأجبر زملاؤنا على رد العدوان، وقد دمرناه هو وبعض أفراد عائلته.

الرئيس طراقي.. دكتاتور دموي لم يشهد له تاريخ أفغانستان مثيلا

 

حكم تراقي الدموي.. عبث الشيوعيين بالعباد والبلاد

حاول الرئيس الجديد تراقي ورئيس وزرائه حفيظ الله أمين تغيير أفغانستان إلى بلد اشتراكي، فأرسيا إصلاحات في توزيع الأراضي وصادرا الملكيات، وبات التعليم إلزاميا للفتيات، وباتت للنساء حقوق كاملة، فلهن حرية الدراسة والعمل واختيار الزوج.

ولتطبيق هذه التغييرات اتبع تراقي وأمين طرق “ستالين” العنيفة، فتخلصوا من كل المعارضة حتى من اليساريين المعارضين، وكان الإسلاميون الهدف الرئيسي لهذا القمع، فأقفلت الجوامع ومنع الحجاب في الأماكن العامة، وبالنسبة لدولة إسلامية محافظة فقد كان هذا التغيير جذريا وسريعا جدا، فأصبحت أفغانستان تتوجه إلى الهاوية.

وتصف سيما سمر تلك الفترة بأنها “أكثر الأوقات وحشية في تاريخ البلاد، فآلاف الأشخاص من مختلف أطياف المجتمع اعتقلوا واختفوا”.

ويوضح حكمتيار قسوة حكم تراقي وأمين بقوله: منذ أول يوم لهم في السلطة بدأوا بممارسة القتل والسجن الجماعي، واستهداف أي شخص شعروا أنه يشكل تهديدا لهم، أي شخص يحمل مسبحة أو ملتحٍ أي إنه مسلم ملتزم، أو أي شخص يرتاد جامعا أو معهدا علميا، بل كل من يختلف معهم كان يلقى القبض عليه ويُقتل، وفي الأيام الأولى من حكم تراقي أظنهم اغتالوا آلاف الأفغان بأمر من الرئيس تراقي.

لم يترك الرئيس “تراقي” مناوئا له إلا وسجنه أو قتله، فاكتظت السجون بالناس بشتى توجهاتهم

 

ويؤكد خليلي على ذلك فيقول: بالنسبة للشيوعيين فالمسلم الجيد هو المسلم الميت، لذلك خسر الآلاف حياتهم في أفغانستان شبابا وشابات من كل أنحاء البلاد، وكانت السجون مليئة، وشهدنا عمليات قتل يومية، وكانت تهمة أن يكون أي شخص مسلما كافية لقتله، خسرت عائلتي وعائلة زوجتي 16 فردا منهما من بينهم والدها، وذلك في ليلة واحدة على أيدي الشيوعيين.

كانت تلك الفترة فترة من الرعب الذي زرعه تراقي في قلوب الأفغان، لذلك تقول زهرة يوسف: يراودك شعور دائم بأن أحدا ما سيطرق بابك ليقول لك أنت التالي، فتدخل السجن ولا تعرف السبب.

وهو ما تؤكده شكرية براكزي بقولها: أذكر أنني كنت في الصف الرابع وأنت ابنة تسع سنين، وكان هناك نوع من الدعاية السياسية تقول إنك ستُعتقل إن صليت في المدرسة، هذا أمر لا يصدق، أن تدخل السجن لأنك صليت.

ولا يذهب من مخيلة سيما سمر حادثة اعتقال زوجها، فتقول: كان زوجي أستاذا في كلية العلوم، وقد اعتقلوه من البيت وكانوا مجموعة أشخاص يتقدمهم تلميذ له، ولم يعد إلى البيت بعد ذلك، ولم نسمع عنه أي خبر.

وبلغة الاستهجان يقول آصفي: سألت الشيوعيين في الحكم، لم قتلتم كل هؤلاء الناس؟ أناس لا يشكلون أي خطر عليكم، ولم أحصل يوما على جواب صريح، وأعتقد أن ذلك كان بسبب عقدة نقص عندهم، فقد حاولوا التخلص من جميع من اعتبروهم معارضة، حتى وإن لم يكونوا كذلك.

أدرك المجاهدون بأن حكم “تراقي”سيقضي على الدين ومظاهره، فتنادوا لإسقاطه

 

اغتيال داخل هرم السلطة.. شرارة ثورة الإسلاميين

في آذار/مارس من العام 1979 قرر الإسلاميون النزول إلى الشارع في وجه الحكومة الشيوعية، فجمعوا الأسلحة من جنود انشقوا عن الجيش، وعاد قادتهم من باكستان وبدأت الثورة.

عن تلك الحقبة يقول حكمتيار، مطلق شرارة الجهاد في أفغانستان: أجبرنا للجوء إلى المقاومة المسلحة، لم يكن لدينا أي خيار آخر، وكانت صوري كمطلوب موزعة في كل مكان في أفغانستان، ورصدوا جائزة مقابل إلقاء القبض عليّ، وحكموا عليّ بالإعدام غيابيا، وكانت صوري مع الشرطة عند التفتيش في السيارة أو في الحافلة بحثا عني.

ويضيف: واحدا تلو الآخر انضم الناس للمقاومة، وفي النهاية تحولت إلى انتفاضة وطنية، وسيطرنا على عدد من الولايات وسقطت عدة مراكز عسكرية تحت سيطرتنا، وبدأنا نحكم في أغلبية البلاد.

كانت الحكومة في كابل تتهاوى، فطلب الرئيس تراقي المساعدة من موسكو للسيطرة على الانقلاب، وكان غير مدرك أن عدوه اللدود هو ساعده الأيمن حفيظ الله أمين، ففي خريف عام 1979 قام أمين بعمل صدم الجميع، فقد أمر باغتيال تراقي، لأنه أراد السلطة لنفسه. وقد بدأت أفغانستان تخرج عن السيطرة، واقتربت كثيرا من السقوط بين يدي الإسلاميين، ويقول حكمتيار: اتخذنا الخطوات الأخيرة، وبدأنا التحضير لإسقاط حكومة حفيظ الله أمين.

“فاليري فوستروتين” الضابط في الجيش السوفياتي الذي لقب بـ”بطل الاتحاد السوفياتي” لخدماته المميزة في أفغانستان

 

سقوط القصر في أيدي السوفيات.. لاعب مفاجئ في الشطرنج الأفغانية

أثار وضع أفغانستان الموشك على الانفجار قلق القادة السوفيات في موسكو، وخشوا أن تسيطر الثورة الإسلامية في أفغانستان، كما حصل في إيران في بداية تلك السنة، وخشية من تمدد روح الثورة الإسلامية في الاتحاد السوفياتي نفسه، حيث كان يعيش 50 مليون مسلم، كما خشيت موسكو من استغلال واشنطن لحالة الفوضى والتدخل في أفغانستان، وحينها قرر الرئيس السوفياتي “بريجينيف” أن يتصرف.

وفي كانون الأول/ديسمبر من العام 1979 دخلت القوات السوفياتية إلى كابل، وكانت مهمتها قتل الرئيس أمين وإعادة فرض النظام، وعلى مدى يومين هبطت طائرات سوفياتية في مطار كابل ونقلت معها قرابة 6000 جندي روسي، وقد استمر توافد الطائرات العسكرية استمر أسبوعا بلا توقف، وكانت سماء كابل تضج بأصوات الطائرات الحربية.

عملية قتل حفيظ الله أمين يذكرها “فاليري فوستروتين” الضابط في الجيش السوفياتي الذي لقب بـ”بطل الاتحاد السوفياتي” لخدماته المميزة في أفغانستان، حيث يقول: قدتُ عملية الهجوم على قصر أمين بسرية، ففي 27 كانون أول/ديسمبر اجتاحت قوات المخابرات الحربية الروسية الـ”كي جي بي” القصر، وبدأ إطلاق النار الساعة السابعة مساء، وقتلتُ أمين من مسافة قريبة، وأصيبت زوجته وبناته، بعد ذلك جرى لفه بسجادة وأخرج من هناك، وكانت تلك معركتي الأولى كقائد سرية، بعد ذلك وصلت الفرقة العسكرية، ولم تتوقف في مطار بغرام بل انتشرت على كل الأراضي الأفغانية.

وكبادرة حسن نية تجاه الأفغان أطلق السوفيات كل السجناء السياسيين، فأسرع الناس في كابل إلى السجن لملاقاة أقربائهم.

وتظهر الصور الأرشيفية تدافع الحشود من جميع الاتجاهات على السجن لاستقبال أقاربهم المفرج عنهم، والأعداد الكبيرة التي أفرج عنها كان دليلا على قسوة حكم الرئيس السابق، فقد تحدثت التقارير أن أكثر من 10 آلاف سجين سياسي أطلقوا في يوم واحد، وكانت مشاهد مؤثرة للقاء السجناء المفرج عنهم بعد شهور طويلة من السجن بأبنائهم أو آبائهم.

شخص تحدث إلى الإعلام أنه كان معتقلا لـ19 شهرا لم ير خلالها أحدا من عائلته، ولا يعرف أين هم، لكن مع الفرحة العامة كانت هناك مأساة لمن لم يجدوا أقاربهم، كالمرأة التي كانت تبحث بين الجموع عن قريبها وهي تبكي، وعلى ما يبدو أنه لم يكن من بين المفرج عنهم.

بداية الثورة ضد الروس المحتلين نزلت في الشوارع واتسمت بالتكبير وحرق العلم الشيوعي الأحمر

 

“الله أكبر”.. مظاهرات تصدح باسم الله في وجه الاحتلال

في البداية تحمل الأفغان الوجود السوفياتي على أرضهم، لكنهم أدركوا سريعا أن الجنود لا ينوون مغادرة بلادهم فقد أتوا ليبقوا، والأفغان لم يتقبلوا في تاريخهم أي احتلال أجنبي، ومثل أسلافهم لم يخشوا الوقوف في وجه الغزاة.

وشهدت كابل العديد من المظاهرات كما تذكر سيما سمر، “ومن بينها مظاهرة شاركت فيها أنا وشقيقتي، حيث نزل الكثير من الناس إلى الشارع وكانوا يهتفون ليلا الله أكبر، كانت ثلاث ليال تشعر فيها أن المدينة بكاملها تتحرك، فقد كان الجميع على أسطح البنايات وهم يهتفون الله أكبر”.

هذا الوضع دفع زهرة يوسف، المستشارة الإعلامية للسيدة الأولى في أفغانستان، إلى مغادرة أفغانستان، إذ تقول: رأينا الجنود السوفيات في الشارع وكان هذا أمرا صعبا جدا بالنسبة للأفغان، حينها فكرت أني يجب أن أغادر البلاد، لم يعد هذا بلدي بعد الآن، وكان قرارا صعبا، فلم أرغب يوما بمغادرة أفغانستان، لكن رياح الحرب غيرت كل شيء.

مسعود خليلي.. عاد من الهند للجهاد مع أبناء بلده ضد المحتل الشيوعي وترك مقاعد دراسته الجامعية

 

ثورة الإسلاميين المسلحة.. فليرحل الغزاة

واجه الإسلاميون الغزو العسكري السوفياتي لأفغانستان من موقف قوة، فيقول حكمتيار: في الوقت الذي غزت فيه القوات السوفياتية البلاد، كنا قد تجهزنا جيدا، وتسلح الكثير من المجاهدين، وبات جزء كبير من البلاد تحت سيطرتنا.

أما مسعود خليلي فيتذكر تلك الفترة بقوله: كنت أحضر الدكتوراه في الهند، وكنت مسرورا جدا بأنني سأصبح الدكتور مسعود خليلي، وأكون أول من يحصل على الدكتوراه في عائلتي، وفي إحدى الليالي اتصل بي والدي، وسألني: هل عرفت أن الشيوعيين استلموا الحكم؟ قلت: أجل، فقال: أيقاتل شعبك للحصول على الحرية وأنت تحضر الدكتوراه؟ إن كنت تحب أرضك ووطنك فبلدك تحت الاحتلال، فانضم إلى شعبك وقاتل من أجل حريته، واحصل على شهادتك من جبال أفغانستان من جامعة الشعب.

وبعد أسبوع كنت في الجبال، وأشكر والدي لأنه طلب مني الانضمام إلى حرب التحرير وأنا فتى يافع، أحببت بلدي وأنا ابن 17 عاما، وها أنا ذا أحبها وأنا ابن السبعين، الحب لا يحتاج إلى المنطق بل إلى التضحية.