أفغانستان الجريحة.. دماء وأشلاء حول الحرب الكاسرة بين الناتو وطالبان

لعل أفغانستان من أكثر الدول في وعي جيلنا ارتباطا بالحروب والقتل والتشرد والبؤس، ذلك أنها دخلت قبل أربعة عقود دوامة الحرب دون توقف حتى اليوم، وهي منطقة صراع إقليمي ودولي مستمر للسيطرة عليها لموقعها الاستراتيجي الهام.

هذه قصة أرض جميلة جدا بقدر ما هي ملعونة، إنه بلد عالق في الحروب منذ وقت طويل، وقليل من يمكنهم أن يتذكروا متى بدأ ذلك أو لماذا، نظرا لمرور أكثر من أربعين عاما على اشتعال فتيل القتال والحروب دون أن يهدأ أبدا حتى اليوم.. وماذا يريد المتقاتلون الذين لا يتعبون من الحرب، أهو المال أم السلطان أم الدين؟! لا أحد لديه إجابة واضحة، فما الخطأ الذي وقع في أفغانستان، فأبقى على هذه الأرض القاحلة لغزا؟

أفغانستان الواقعة في قلب آسيا وتحيط بها حضارات قديمة، بقي أهلها معزولون خلف جبال هندوكوش الشهيرة، ورغم انقسام الأفغان إلى قبائل، فقد وحدهم دينهم الإسلامي ورغبتهم الشرسة بالاستقلال. فعلى مر التاريخ غزا فاتحون ذوو جيوش عظيمة هذه الأمة من الإسكندر الأكبر إلى الإمبراطورية البريطانية، لكنهم واجهوا جميعا المقاومة الأسطورية للأفغان.

ونظرا لأهمية التجربة الأفغانية على كل الصعد، أنتجت قناة الجزيرة الوثائقية فيلما من أربعة أجزاء، يروي حكاية الجرح الأفغاني الدامي من نهاية العهد الملكي إلى اليوم.

 

 

يتناول الجزء الرابع من الفيلم بعنوان “الفخ” المأزق الذي علقت به الولايات المتحدة، إذ وقعت في نفس الشرك الذي نصبته للاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي، ويرصد الأحداث بدءا من هجوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 الذي نفذته القاعدة على الأراضي الأمريكية، مرورا بالغزو الأمريكي لأفغانستان ومحاولة إسقاط نظام طالبان، وقيام نظام جديد مُوالٍ لأمريكا، وانتهاء باستعداد واشنطن للانسحاب من أفغانستان.

اتسمت فترة حكم طالبان لأفغانستان بالشدة والقسوة وتطبيق الشريعة بالطريقة الطالبانية العنيفة

انعكاسات المشهد الأفغاني.. ظلال الماضي على الحاضر

يمكن رسم المشهد الأفغاني الذي رسمته الأجزاء الثلاثة الأولى من الفيلم انطلاقا من التأزم السياسي والفكري الذي بدأ باختيار النخبة في كابل طريقة العيش الأوروبية، وحلم الشباب بثورة شيوعية، إلا أن الكثير من الأفغان لم يرتاحوا لهذه التغيرات، وتعقدت الأزمة مع السيطرة الشيوعية العنيفة على الحكم عام 1978، والقمع الذي تعرض له الإسلاميون عمق الفجوة بين فئات المجتمع، فوقف المجاهدون ضد الحكومة الشيوعية.

وما بدا كعمليات تمرد تحول إلى حرب، وما إن دخل الجيش السوفياتي إلى أفغانستان لدعم الحكومة الشيوعية، حتى حصل المجاهدون على دعم دولي من الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، ووصل أسامة بن لادن إلى أفغانستان عام 1980 للمشاركة في الحرب ضد السوفيات الملحدين.

وبعد عشر سنوات من القتال انسحب الجيش السوفياتي عام 1989 من أفغانستان، بعد أن قُتل مليون أفغاني وشردت خمسة ملايين لاجئ في دول الجوار، وبات المجاهدون في الثمانينيات أمراء حرب في التسعينيات، وهو ما سمح عام 1994 بظهور حركة طالبان التي تتألف من طلبة المدارس الدينية الذين نشأوا في مخيمات اللاجئين في باكستان، وبمساعدة باكستان تغلبوا على أمراء الحرب، وتسلموا زمام السلطة في كابل عام 1996.

نشر الحكام الجدد (طالبان) السلام في البلاد، لكنهم طبقوا فهمهم الخاص للشريعة الإسلامية بطريقة قاسية، فمنعت الخمور ودور السينما، وتعرضت النساء للإقصاء.

وهو ما تتذكره د. نيلوفار إبراهيمي التي بدأت دراسة الطب في نهاية عهد طالبان، وكيف كان عناصر طالبان يدققون في تفاصيل لباس النساء ويسألونهن: أين محرمك؟ ولماذا أظفرك ظاهر؟ ولم البرقع قصير؟ لماذا أخرجت يدك من البرقع؟ فباتت جميع نساء أفغانستان في سجون وأنا من بينهم، فكانت أكثر الأيام رعبا للناس ولا سيما النساء زمن حكم طالبان.

وفي ظل حكم طالبان وجد أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة جنة آمنة وأرضية تدريب تحضيرا لهجومهم على أميركا، وهو ما نفذه التنظيم بالفعل في 11 سبتمبر/أيلول 2001.

تسببت كارثة هجوم برجي التجارة سنة 2001 بكارثة إنسانية لم تنته فصولها في أفغانستان حتى يومنا هذا

أحداث الـ١١ من سبتمبر.. ضربة أمريكا في عقر دارها

الهجوم الذي مثل إهانة كبيرة للولايات المتحدة، قال عنه الرئيس بوش الابن في تسجيلي أرشيفي: في 11 أيلول/ سبتمبر شن أعداء الحرية حربا ضد بلدنا، وكل الأدلة التي جمعناها تشير إلى منظمات إرهابية لا تربط بينها علاقة وثيقة معروفة باسم “القاعدة”، وثمة الآلاف من هؤلاء الإرهابيين في أكثر من 60 دولة، ويجندون من قبل بلادهم وإحضارهم إلى مخيمات في أماكن مثل أفغانستان، حيث يجري تدريبهم على أساليب الإرهاب.

وتشير سيما سمر -وهي وزيرة وناشطة في حقوق المرأة في أفغانستان- إلى عدم مسؤولية الأفغان عن هجوم نيويورك بقولها: إذا نظرت إلى من كانوا على متن الطائرة وقاموا بالعمل الانتحاري وقتلوا أكثر من ثلاثة آلاف شخص في نيويورك، لم يكن أحد منهم أفغانيا، لكنهم جميعا كانوا في أفغانستان، ولم حصل هذا؟ لأن أفغانستان قد نُسيت، وإذا نُسيت أفغانستان وعزلت مجددا، فلا ضمانة أن هذا الأمر لن يتكرر.

أما عبد السلام ضعيف -القيادي في طالبان وسفير طالبان في باكستان عام 2001- فيذكر الحادثة الشهيرة فيقول: كنت في إسلام آباد سفيرا لأفغانستان، ورأيت الطائرة الثانية وهي ترتطم بالبرج، شاهدت ذلك وكانت عيني تدمع، فقال لي بعض الناس: إنه خبر جيد فلماذا تبكي؟ قلت لهم: لأني أعرف نتيجة ذلك، أعرف أنهم سيحملوننا مسئولية هذا التصرف وسنتحمل وزر هذا العمل.

الرئيس الأمريكي بوش الابن الذي عُد مجرم حربي أفغانستان والعراق، يهدد بأن من ليس معنا فهو مع الإرهاب

“إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين”.. شعب أفغانستان بين المطرقة والسندان

وقال الرئيس “بوش الابن” في تسجيل أرشيفي: الليلة تطلب القيادة الأمريكية من حركة طالبان ما يلي: سلمونا كل قادة القاعدة الذين يختبئون في بلادكم، أمام كل أمة وكل منطقة الآن قرار عليها اتخاذه، إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهابيين.

وتعليقا على طلب بوش قال عبد السلام ضعيف: كنا جاهزين لنرسل ملف أسامة بن لادن إلى المحكمة العليا في أفغانستان، وإن كان لديهم أي اتهامات بحق ابن لادن فليسلموها إلى المحكمة، والمحكمة ستقرر مستقبل ابن لادن، لكن هذا الأمر رفض من قبل الأمريكيين، لأنهم قالوا إنهم لا يعترفون بحكومة طالبان، لقد أرادوا أن نرسل أسامة بن لادن إلى أمريكا.

ويقول تيسير علوني -مراسل قناة الجزيرة والمراسل الأجنبي الوحيد في ظل حكم طالبان-: كانت لحظة صعبة بالنسبة لي وللجميع في كابل، وفي النهاية طلبت طالبان من ابن لادن مغادرة أفغانستان لتفادي وقوع حرب، لكنه لم يكن أمرا ملزما، أما ابن لادن فلم يعرف إلى أين يذهب، وبالتالي فقد علق الأفغان بين المطرقة والسندان.

غزو أفغانستان.. عادت حليمة إلى عادتها القديمة

وقف الرئيس الأمريكي “جورج بوش الابن” في موقع برجي التجارة العالمية في نيويورك اللذين استهدفهما تنظيم القاعدة، وقال في حشد من عمال الإنقاذ إنه سيرد على هجوم القاعدة، وقال: الذين هدموا هذه الأبنية سيسمعون ردنا قريبا جدا.

ويقول المسؤول السابق في الاستخبارات الأمريكية 1964 – 1998 “ميلتون بيردن”: قرع طبول الحرب في أفغانستان بات قويا جدا، حينها بدأت أتلقى اتصالات من الأفغان، بأن طالبان يريدون التحدث إلي، فهلا اتصلت بهذا الرقم الخارجي؟ واتصلت فرد علي وكيل أحمد متوكل وزير خارجية حكومة طالبان، وقال لي: الأمر مهم، أسامة بن لادن لم يعد تحت حمايتنا، وكرر هذه العبارة. فأمسكوا به إن شئتم.. فاتصلت بالبيت الأبيض وأجابوني: هذه بداية جيدة، فقلت في نفسي: إنكم تريدون الغزو لكنكم لا تعرفون مكان ابن لادن.

وقد تحدث الرئيس “بوش” في تسجيل أرشيفي عن الرد الأمريكي فقال: بناء على تعليماتي بدأت الولايات المتحدة ضربات عسكرية ضد مخيمات إرهابيي القاعدة، والمنشآت العسكرية الخاصة بنظام طالبان في أفغانستان.

تقول شكرية بركزاي عضو البرلمان الأفغاني: كان صوت طائرة بي-52 مثل الكابوس، فأثناء حكم طالبان كانت المدن الكبيرة على الأقل آمنة، لذا نسي الناس أصوات المدافع والآليات العسكرية على مدى خمس سنوات، لكنها بدأت من جديد.

وفي تقرير لتيسير علوني تحدث عن قصف أمريكي لإحدى القرى المدنية، ثم أعقبه قصف آخر أثناء بحث الأهالي في الأنقاض، يقول أحد سكان القرية: انظروا ماذا فعلت هجمات الكفار بنا، تدعي أمريكا أن أهدافها دقيقة جدا، هل هذه هي صواريخها الذكية؟ هل هذه قاعدة عسكرية؟ لقد هدموا المنازل على رؤوس المسلمين.

مع بداية الغزو الأمريكي، عادت القوى التي طردتها طالبان إلى الساحة تحت مسمى “تحالف الشمال”

تحالف الشمال.. بداية انهيار نظام طالبان

بعد أقل من شهر على الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك توجهت القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية للبحث عن أسامة بن لادن والإطاحة بنظام طالبان الذي آواه سابقا، وتمكن ابن لادن من الاختفاء، لكنه قبل ذلك أراد تقديم رسالة أخيرة لمناصريه.

ويذكر تيسير علوني أنه كان يسعى لمقابلة ابن لادن منذ قدومه إلى أفغانستان، يقول: في أحد الأيام قال لي أحدهم في المكتب، ثمة عرب في الخارج يريدون التحدث إليك، وتوقعت حصول أمر مهم، طلبوا مني الدخول إلى السيارة وفتشوني، وحين أزالوا العصابة عن عيني وجدت نفسي أمام ابن لادن، وكنا جالسين والقنابل من حولنا لا تهدأ، فسألته ألا تشعر بالندم بسبب ما يحصل لهؤلاء الناس الذين يعانون منذ سنوات بسبب الحرب؟ فاجأني بالقول: لا. هذه الحرب كان مخططا لها، وسبق أن هزمنا الاتحاد السوفياتي بجيشه العظيم وآلياته العسكرية العظيمة، فقد كان مؤمنا أنه يستطيع هزيمة أمريكا أيضا.

احتاجت القوات الأمريكية لمساعدة محلية للتقدم على الأرض، لذا طلبت المساعدة من حلفائها القدامى، قادة المجاهدين الذين قاتلوا السوفيات في الثمانينيات وهزمتهم حركة طالبان، وباتوا يعرفون بتحالف الشمال، وقد قبل المجاهدون العرض، فهو فرصة للانتقام واستعادة السلطة في الوقت نفسه، وفي غضون أسابيع تمكن تحالف الشمال من التقدم والوصول إلى مشارف كابل.

وعن تلك المعركة يقول الجنرال السابق في الجيش الأمريكي “استانلي بيردن”، الذي خدم في أفغانستان بين 2002 و2010: أراد الجميع المشاركة في هذه المعركة، لكن في أعماقنا شعرنا بخيبة أمل أننا لم نكن جزءا منها، وفي البداية توقعنا حربا طويلة ومؤلمة تماما كالحرب التي خاضها السوفيات، لكن ببعض الضربات الجوية وهجمات مختلفة بدأ نظام طالبان بالانهيار.

سقوط كابل.. عودة اللاجئين وهجرة المقاتلين

في تشرين الأول/ نوفمبر 2001 انهار نظام طالبان، وتمكن تحالف الشمال من دخول العاصمة كابل، وبدا أن عصرا جديدا قد بدأ، وقد شجع الوضع الجديد في كابل كثيرا من اللاجئين في دول الجوار وخصوصا باكستان على العودة أخيرا إلى بلادهم، وفي الوقت نفسه كان مئات من أفراد طالبان والقاعدة يقومون بهجرة معاكسة خوفا من الاعتقال.

يقول علوني: هاجر بعض أفراد طالبان إلى باكستان وبلدان أخرى، لكن الأغلبية ذابوا في نسيج المجتمع الأفغاني، لأنه لا يمكنك أن تميز طالبان عن غيرهم، فهم يرتدون الملابس نفسها ويبدون كغيرهم.

أما عبد السلام ضعيف الذي كان سفيرا لطالبان في إسلام آباد، فيقول: كنت في إسلام آباد حين سقطت كابل، فبعثت رسالة إلى وزير الخارجية الباكستاني، وسألتهم عن قرارهم بشأني، وبعد سبعة أيام أتوا وأخذوني من منزلي ونقلوني إلى خليج غوانتانامو، وبقيت هناك حوالي ثلاث سنوات ونصف في سجن غوانتانامو.

لكن “ستانلي بيردن” عبر عن عدم ارتياحه لمسار الأحداث، فيقول: كنا قلقين كثيرا من أن القاعدة لم تدمر بل هربت خارجا، فقلة فقط فهموا ما حدث، ليس في الحرب السوفياتية وحسب، بل في الحرب الأهلية في التسعينيات أيضا، وما فعلته التركيبة السياسية للبلاد، من كان يدير الأمور؟ وكيف ظهر أمراء الحرب؟ قلة فهموا أن هذا المجتمع كان غريبا وفاسدا جدا، وسيكون وقع كل ما نفعله مختلفا عن وقعه في مجتمعات أخرى.

ما أن خرجت طالبان من كابول، حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة فافتتحت السينمات وحُلقت اللحى، وتبرجت النساء

حامد كرزاي.. صفحة جديدة من تاريخ أفغانستان

بالانهيار السريع لحركة طالبان ودخول تحالف الشمال إلى كابل، فتحت صفحة جديدة للحياة في العاصمة الأفغانية. وهو ما تصفه شكرية بركزاي بقولها: “بدأنا نتنفس من جديد، فهذه أفغانستان مختلفة عما كانت عليه، وأدركنا أن الأمريكيين لم يأتوا لقتلنا، إنهم يريدون حركة طالبان وحسب.

وتؤكد د. نيلوفار إبراهيمي ما ذهبت إليه شكرية بقولها: حين أزلت البرقع عني شعرت أنني ولدت من جديد، ومثلي آلاف النساء الأخريات، لأننا لم نعد نُجلد، وعاودنا الأمل في العودة إلى العمل مجددا، وبات بمقدورنا أن نعود إلى المدارس والعمل والمستشفيات من جديد، لتأمين الطعام لعائلاتنا.

الحياة الجديدة في كابل يعكسها مشهد أرشيفي يظهر ازدحاما شديدا أمام السينما في كابل التي أعيد افتتاحها في 19 تشرين الأول/ نوفمبر 2001.

اجتمع قادة العالم في مدينة بون الألمانية للمساعدة في تشكيل حكومة جديدة لأفغانستان، وتضمنت الحكومة الجديدة زعماء من تحالف الشمال الذي هزم طالبان، وممثلين عن مجموعات عرقية مختلفة، وللمرة الأولى في تاريخ أفغانستان انضمت امرأتان للحكومة.

وقد وقع اختيار حامد كرزاي ليقود الحكومة الانتقالية، وهو ابن قائد قبيلة كبيرة في العرقية الأكبر “البشتون”، وحارب ضد السوفيات ولاحقا ضد طالبان، وكانت مهمته قيادة أفغانستان نحو الوحدة والسلام، فبعد سنوات من القمع عادت الديمقراطية هشة إلى أفغانستان، ووضع دستور جديد، ومنح المواطنون رجالا ونساء الحق بالتصويت.

بعد سقوط حكم طالبان، سلمت أمريكا الحكم لحامد كرزاي، أحد رجالاتها في أفغانستان

“كونوا واثقين من أن زمن أمراء الحرب قد انتهى في أفغانستان”

من البداية كانت الحكومة مضطرة لتحمل وجود أمراء الحرب الذين شاركوا في تدمير أفغانستان في الحرب الأهلية في التسعينيات، وطُلب من الرئيس الجديد الحد من تأثيرهم.

وفي تسجيل أرشيفي يقول الرئيس حامد كرزاي الذي حكم أفغانستان في الفترة 2001-2004: كونوا واثقين من أن زمن أمراء الحرب قد انتهى في أفغانستان، قد لا ترون العلامات واضحة حتى الآن لكن الأمر قد انتهى، وسنحظى بدعم الولايات المتحدة لفعل ذلك.

وتقول سيما سمر: كان لدينا لقاء مع “كولن باول”، وقلت له: علينا أن لا نعيد إحياء أمراء الحرب. وتضيف: أنا لست من محبي قتل الناس ولا ملاحقتهم، لكنني من مؤيدي كشف الحقيقة، وضرورة شفاء جروح الضحايا، ما لم نشف الجرح فسيبقى ينزف.

لكن “ميلتون بيردن” فيعتقد بأن أمراء الحرب عادوا إلى الواجهة في كابل، حيث يقول: بعد 2001، حين دخلنا البلاد عادت الوجوه كلها إلى الواجهة، وهم من نسميهم أمراء الحرب.

إعادة الإعمار.. “كانت فوضى عارمة، فلم نفهم أي شيء”

منذ عام 2002 تمركزت قوات دولية في أفغانستان لفرض الأمن والمساعدة في إعادة الإعمار، ومنذ ذلك الحين ساهمت 51 دولة في المهمة، وعملت تحت قيادة حلف الناتو.

يقول الجنرال “ستانلي بيردن”: وصلت في أيار/ مايو 2002 وأصبحنا أول مقر رسمي ذي ثلاث نجوم، وشعرت أن الأمريكيين والغربيين مرحب بهم بين الأفغان، حتى إنهم رحبوا بنا بحفاوة في بعض الحالات، لكن لم يعرف الغرب ماذا يريد فعله، ولم يعرف إلى أي مدى يريد أن يستثمر في أفغانستان، أو كم من الوقت سيبقى فيها؟ كانت فوضى عارمة، فلم نفهم أي شيء.

وعن ذلك تقول د. نيلوفار إبراهيمي الطبيبة وعضو البرلمان الأفغاني منذ 2010: ساعدنا المجتمع الدولي على إرساء الديمقراطية، وحرروا النساء وأسسوا برلمانا، يجب ألا ننسى هذا، فقد خرجت ودرست وأصبحت طبيبة بعد أيام طالبان السوداء، وكان الحدث الأسعد في حياتي حين أصبحت شهادة الطب في يدي.

يستاءل الشعب: إذا كان راتب الوزير الأفغاني مائة دولار شهريا، فمن أين له أن يبني القصور؟

فساد الدولة.. أشواق إلى نزاهة طالبان

بدأت مرحلة إعادة البناء، فاستفادت المدن وخصوصا كابل من المساعدات القادمة من الخارج، لكن انتهى الأمر بالأموال في جيوب قلة من الأشخاص. ويثير رمضان بشردوست وزير التخطيط الأفغاني 2004-2005 أسئلة عن صور فساد المسئولين في كابل، فيقول: راتب الوزير أقل من 100 دولار، فكيف له أن يبني بهذا الراتب قصرا بمئات آلاف الدولارات.

وفي هذا الوقت كان الشعب الأفغاني في فقر مدقع بعد عقود من الحرب، وكان الملايين يفتقدون إلى الموارد الرئيسية، وكان الوضع أسوأ في الأرياف التي نسيتها الاستثمارات الأجنبية، وهذا الفقر المدقع وانتشار الفساد أثارا الحنين لسنوات طالبان.

هذا ما يعكسه حديث أرشيفي لمواطن أفغاني يتحدث إلى تلفزيون غربي قائلا: في هذه الأيام يمتصون دمك، حتى أن الحكومة تأخذ الرشاوى للقيام بأعمال غير قانونية، كان نظام طالبان يضرب النساء وكنا نعيش في ظل قيود صارمة، لكن على الأقل لم نشهد الرشاوى.

الإرهاب الأمريكي لم يكن أقل رعبا عن حكم طالبان، لكن الشعب كان الضحية الوحيدة

استنزاف الاحتلال.. طالبان تنهض من غفوتها

وفي العام 2005 أعادت حركة طالبان تنظيم صفوفها، وباتت قوات التحالف الدولي أكثر تعقيدا. ويعرض الفيلم تسجيلا لعملية قام بها أفراد طالبان استهدفت دورية عسكرية لقوات التحالف.

وعن عودة طالبان للقتال بقوة يقول الجنرال “بيردن”: “بين العامين 2005 و2006 خاضت قواتي معارك ضارية مع طالبان”، ويرى أن طالبان في كل مرة تتمكن من خلق روح قتالية عالية، ويحصلون بالتالي على مصداقية أعلى بين الشعب، ثم عادت طالبان للسيطرة في بعض الأماكن مثل هلمند وقندهار، وبدأوا يطبقون حكومة ظل اقتصادية، وقد قيدوا حركة الناس بالضرائب وما شابه، وباتوا الحكام بحكم الواقع في المنطقة، حسب “بيردن”.

أما الضابطة السابقة في الجيش الأمريكي “إيميلي ميلر”، فتتحدث عن تجربتها في أفغانستان بالقول: أنا من قرية صغيرة في إنديانا، ولم أخرج يوما من البلاد، فلم أكن أعرف الكثير عن العالم، وفي ذلك الوقت ظننت حقا أننا نحدث فرقا ما، وأننا نحاول محاربة الإرهاب في الخارج، لكن حين ذهبت إلى أفغانستان أدركت كم كنت ساذجة، وكم أن العالم معقد.

وتمضي في روايتها قائلة: ذات ليلة دخلنا إلى مجمع سكني حوالي الساعة 2:30 فجرا، وقد أيقظنا الجميع وحاولت التحدث إلى المرأة التي كانت في المنزل، وقلت لها إننا هنا لأنه يبدو أن هناك بعض الأشرار يعملون في هذه المنطقة، وعلينا معرفة ماذا يجري. فقالت لي: لم تظنون أنكم تختلفون عن طالبان؟ لقد دخلتم منزلي الساعة الثانية فجرا وهددتموني، وهم يفعلون الأمر نفسه، أي جانب يجب أن أختار؟ إن عملت مع طالبان ستلاحقونني أنتم، وإن عملت معكم سيلاحقني رجال طالبان. بالنسبة لي كانت المرة الأولى التي أدرك فيها أن معظم الشعب الأفغاني عالق في الوسط.

وتضيف “إيميلي ميلر”: الحرب التقليدية عمل مباشر، جيش بمواجهة آخر، وهذا ما تدربنا عليه، لكن للأسف فالتمرد معقد أكثر، فلا تعرف من هو عدوك، لأنهم لا يرتدون ملابس موحدة، فلن تفرق بين الأشخاص الصالحين والسيئين.

أفغانستان أرض أصحابها، لم يغزها غاز إلا وخرج محملا في أكفانه، وهذا ما حل بالأمريكان، وبالروس من قبلهم

الأخطاء الجانبية.. “تقتل الأشخاص الذين تحاول التقرب منهم”

يعتقد الجنرال “بيردن” أن الفوز بالمعركة في أفغانستان بالنسبة لهم هو بالحصول على دعم الشعب الأفغاني وليس حبه “وهذا يعني أن لا يتعرضوا للقتل، وأن تجعل تأييدهم لك يصب في مصلحتهم، والمشكلة هي أنه إذا خلق العدو ما يكفي من العنف ووضعك في جو من العنف سيكون عليك تسيير آليات مصفحة واستخدام الأسلحة واستخدام هذه الأشياء، فتصبح مصدر عنف يقتل بلا قصد، تقتل الأشخاص الذين تحاول التقرب منهم.

وتقول “إيميلي”: لست واثقة أننا كان علينا المجيء إلى أفغانستان من البداية، وكلما تأخرنا في بقائنا ساء وضعنا أكثر، وكذلك الأمر بالنسبة لأهل أفغانستان، فقد كنا نحاول فرض وجهة نظرنا، والأمور لا تسير هكذا ببساطة، وقد أدركنا هذا، أو بالأحرى آمل أن نكون قد أدركناه، فلست واثقة.

العنف المتبادل والمتزايد بين قوات التحالف وطالبان وضع الشعب الأفغاني في الوسط، وأصبح مصطلح “الأخطاء الجانبية” شائعا جدا لوصف آلاف الأبرياء الذي قتلوا عن طريق الخطأ. لذلك يرى “ميلتون بيردن” أن “الناس بدأوا يدركون أن غزو أفغانستان ليس فكرة جيدة، فلم ينجح الأمر طوال السنوات الـ24 الماضية، فإن كنتم تولون التاريخ أهمية فهذا دليل لكم.

حين أدرك أوباما بأن بلاده خاسرة لا محالة، أمر جيشه بالانسحاب، فتم تنكيس علم بلاده في أفغانستان

مقتل أسامة بن لادن.. ولادة فكرة الانسحاب

حين انتخب الرئيس “باراك أوباما” عام 2008 ورث حربا غير شعبية حصدت أرواح مئات الأمريكيين، وبعد سنوات من الهرب قتل أسامة بن لادن في مخبئه، ولم يعثر عليه في أفغانستان بل في باكستان. وهو ما يحسب من إنجازات “أوباما” لدى الشارع الأمريكي، فقد أعلن في 2 أيار/ مايو 2011، عن مقتل ابن لادن، وقال: قادت الولايات المتحدة عملية قتل فيها أسامة بن لادن زعيم القاعدة.

وبموت ابن لادن يكون هدف حملة أفغانستان الأول قد تحقق، مما مهد لإعلان أوباما بعد أشهر نيته سحب قواته من أفغانستان.

ويقر عبد السلام ضعيف أن التكنولوجيا المتطورة لدى القوات الأمريكية تجعل من المستحيل على أحد في أفغانستان محاربة القوات الأمريكية، لكن لدى البعض القدرة على اتخاذ القرار الصعب، وهو أن يفجر المرء نفسه ويضحي بها ضد العدو.

وتنتقد شكرية بركزاي العمليات الانتحارية التي قامت بها طالبان في كل مكان، ورغم أنها كانت تعلن أنها ضد القوات الأجنبية، فإن العدد الأكبر من الضحايا كان في صفوف الشعب الأفغاني. وتحكي قصة تعرضها لإحدى العمليات الانتحارية، فتقول: في العام 2014 اصطدمت سيارة انتحاري بسيارتي، وحين فتحت عيني كان سائقي يبكي، ولم أدرك ما حصل، لكن قتل تسعة أشخاص وجرح أكثر من 30 شخصا، وراودني شعور سيء جدا.

لم تكن مجابهة الغزو الأمريكي ممكنة إلا من خلال العمليات الانتحارية، لكن المدنيين كانوا الضحية الأكبر

رحيل القوات الأجنبية.. اكتئاب يغزو الشعب الأفغاني

مع وجود عدد قليل من قوات التحالف على الأرض وغياب الأمن في أفغانستان قررت منظمات دولية عديدة المغادرة وترك الأفغان مجددا بمفردهم ليتعاملوا مع تأثيرات الحرب.

وتعتقد د. نيلوفار أن الحرب لا يمكن أن تمضي دون عواقب، “فحوالي 80% من الشعب الأفغاني يعاني من الاكتئاب، ولا يصاب المرء بالاكتئاب فجأة مثل السرطان أو نزلة البرد أو الأسنان، بل يصاب به ببطء، فهو واحد من تأثيرات الحرب”.

وتضيف: إذا نزلت إلى شوارع كابل في الصباح الباكر، ستجد أطفالا يبيعون أغراضا بلاستيكية أو أقلاما أو يلمعون الأحذية، ولدينا آلاف الأطفال الجياع في الشوارع، كم من شبابنا غرق في المراكب في الأنهار والبحار؟ وكم منهم هاجر إلى بلاد أخرى؟ وكم منهم قتل على الطريق؟

 

أربعون عاما من الحروب، خلفت دمارا شاملا وندوبا لن تلتئم في ذاكرة الشعب الأفغاني الخاسر الأوحد من صراع الحكومات

حصاد الأربعين عاما.. “نقف مجددا ونعيد بناء أنفسنا”

طوال أربعين سنة كانت أفغانستان عالقة في فخ الحروب، دوامة تؤدي فيها حكومة فاشلة إلى غزو، ثم صراع ضد الغزو يؤدي إلى إفشال حكومة أخرى، لكن في 2018 أعلن الرئيس الأفغاني الجديد المنتخب أشرف غني عن محادثات سلام مع طالبان، وعرض عليهم اعترافا كاملا بوجودهم كحزب سياسي.

ويقول عبد السلام ضعيف عن تفاوض الحكومة مع طالبان: أمران طالبت بهما حركة طالبان لشعب أفغانستان، أولا الانسحاب الأمريكي وغيرهم من القوات الأجنبية، وثانيا القانون المستقبلي الذي يحكم أفغانستان يجب أن يكون الشريعة أو القانون الإسلامي، وتقريبا كل الشعب الأفغاني يؤيدون مطلب طالبان، لأنهم أصلا مسلمون.

مستقبل أفغانستان ليس واضحا بعد، وما نعرفه هو أنها إذا أرادت الخروج من دوامة الماضي فستحتاج الأصوات القوية لنسائها.

تقول د. نيلوفار: شاركت في ثلاث جولات للمفاوضات مع طالبان، فنساء أفغانستان ما عدن كما كن قبل 20 سنة، لا يمكن ضربهن بالسوط أو حبسهن في المنازل، وتدرك حركة طالبان أنها لا تستطيع إسكاتنا مجددا، فبلادنا بحاجة إلينا، وعلينا أن نقاوم ونرفع صوتنا.

بينما تقول شكرية بركزاي: يمكننا أن نحل مشاكلنا بالحوار والتفاوض، وتقبل بعضنا دون أن نقتتل.. لقد علمتني هذه الحرب الكثير، فعلى الرغم من سقوطنا المتكرر وعلى الرغم من انكساراتنا، فإننا نقف مجددا ونعيد بناء أنفسنا.