“إلى سما”.. ليس من رأى الثورة في حلب كمن سمع

هذه أنا وعد، كان عمري 18 عاما حين تركت منزل أهلي لأدرس بجامعة حلب، كان أهلي دائما ما يقولون إنني جريئة، وأحيانا متهورة، ولكنني لم أستوعب ما كانوا يقصدون بذلك أبدا حتى أصبحت لدي ابنة، أنت.

النظام السوري وحلفاؤه يحاصروننا بحلب، ولم نكن نتوقع أن العالم سيسمح بهذا الأمر. ما زلت أصور، وهذا ما يعطي لوجودي معنى، ويمنحني القوة والصبر على كل الكوابيس التي نعيشها، حين أسمع صوت الطيران الروسي بالأجواء أشعر أنه يحفر في رأسي، نعم إنني أخشى أن أموت، ولكن أكثر ما يرعبني هو أن أخسرك.

لقد صوّرتُ هذا الفيلم من أجلك يا سما، أريدك أن تفهمي لماذا أخذنا هذه الخيارات، وما الذي كنا نقاتل من أجله.

 

نستعرض فيما يلي الفيلم الوثائقي السوري “إلى سما” الذي حصد الكثير من الجوائز العالمية المرموقة، ويتناول الثورة السورية من الداخل من خلال تصوير الأحداث في حلب على مدى عدة أعوام من عمر الثورة، متخذا من الطفلة سما وأمها المصورة وأبيها الطبيب محور أحداث الفيلم، وينقل الفيلم على طول مساره الكثير من المشاعر الإنسانية والمآسي والأفراح والكوميديا السوداء ومشاعر الحب والخوف، وهو من إخراج الإعلامية السورية وعد الخطيب والمخرج البريطاني “إدوارد واتس”.

أيام الثورة الأولى لشباب يحتجون في حشد كبير بالجامعة ويصرخون ببعض الشعارات المطالبة بالحرية والمساواة

جامعة حلب.. ميلاد الثورة السورية

تقول المخرجة وعد: حكمت دكتاتورية عائلة الأسد سوريا منذ كان عمر جدي عشرين عاما، أما فكنت في السنة الرابعة من كلية الاقتصاد حين بدأت الثورة، وكانت البلد غارقة في الفساد والظلم والقمع.

تظهر في الفيلم مشاهد من أيام الثورة الأولى لشباب يرسمون بعض الشعارات الثورية على الجدران ويحطمون بعض الآثار الرمزية لحافظ الأسد، وآخرون يحتجون في حشد كبير بالجامعة يصرخون ببعض الشعارات المطالبة بالحرية والمساواة، وبعضهم يرفع علم الثورة، وفي مشاهد أخرى يظهر بعض رجال الأمن ينهالون ضربا بهراوتهم وأقدامهم على بعض الثائرين في الشارع، بينما كانت المخرجة تصور من داخل سيارة وأحد الأشخاص يصرخ “أغلقوا باب السيارة، لا تفتحوا النافذة” في حالة من الذعر والخوف من بطش رجال الأمن.

تقول وعد: أنكر النظام وجود المظاهرات، فكان التصوير بالهاتف الطريقة الوحيدة التي نُري العالم من خلالها أننا نقاتل من أجل حريتنا، وفي ذلك الوقت يا سما كان كل ما يهمنا هو الثورة.

ذات يوم من أيام 2013 الأولى استيقظت حلب الشرقية على جثث مرمية في النهر، وكانت لعدد كبير من الناس قتلوا بطريقة انتقامية وحشية ثم ألقوا في الماء، وكانوا جميعا من سكان أحياء معارضة للنظام، وأغلبهم شوهدوا آخر مرة على حاجز تفتيش للنظام، وقد احتشد حولهم أهالي حلب ثم استخرجوهم من الماء ودفنوهم في قبر جماعي كبير.

يقول الطبيب حمزة: توجد آثار تعذيب على معظم الجثث، وكانوا جميعا مكبلي الأيدي وأغلبهم قتلوا من خلال طلقة مباشرة في الرأس.

كان حمزة من بين 32 طبيبا بقوا في حلب الشرقية، فكانوا يخرجون الناس من تحت الأنقاض بعد كل قصف

حمزة الخطيب.. ثورتي أهم من زواجي

تقول وعد: كان حمزة من رفاقي المقربين، وكان قد تخرج كطبيب بشري، وكان يساعد المصابين في المظاهرات، ودائما ما تعتلي وجهه ابتسامة تشعرني بالراحة مهما كانت الظروف، وكنت أصوره دائما لكونه من الأطباء القليلين النشطين، وكان حينها بعلاقة ارتباط طويلة، ولم يكن يتصور أحدنا أن حياتنا القديمة ستنجرف بعيدا.

منذ أن حرر الثوار الجزء الشرقي من مدينة حلب كثف النظام عنفه أضعافا مضاعفة، وكان حمزة من بين 32 طبيبا بقوا في حلب الشرقية، فكانوا يخرجون الناس من تحت الأنقاض، وكان لا بد لهم أن يفعلوا كل شيء بمفردهم، فلا مدارس ولا إسعافات ولا خدمات طبية، لذا أسس حمزة مع رفاقه مستشفى، وكان وعد تقول في دعابة ساخرة: “الله يبقى لنا بشار الأسد الذي جعلنا نعمل في كل وظيفة؛ الصيدلة وأعمال البناء”، بينما كان بعض الأطباء يرسمون بعض الرسومات الثورية ويلونونها بألوان علم الثورة، ويتخلل ذلك بعض المزاح والرسم على الوجه، وبعضهم كان يكتب على وجهه عبارات من شعارات الثورة.

سألت المصورة وعد أحد الأطباء عن شعوره وقد كتب على وجهه كلمة “حرية”، فقال: شعور جميل ورائع، لأني كتبت الحرية على جبيني.

تقول وعد: كانت زوجة حمزة تضغط عليه من أجل أن يهاجر إلى خارج سوريا، ولما وجب عليه أن يختار بين زواجه وبين الثورة اختار الثورة، أما أنا يا سما فقد كان جدك وجدتك يشعران بالقلق علي، لكنني كنت متحمسة جدا، لذا قررت البقاء.

كان جميع الأطباء المتطوعين في المستشفى بمثابة عائلة، وقد تشاركوا الكثير من تفاصيل حياتهم في أصعب الأوقات وأشدها قساوة، كما تشاركوا أيضا خسارتهم الأولى بفقدهم لأخوين متطوعين قضيا نحبهما في غارة جوية، ثم قتلت قذيفة دبابة متطوعا ثالثا يظهر الأطباء في الفيلم وهم يشاهدونه محمولا إلى مرقده الأخير.

في وسط الحرب، وتحت أزيز الطائرات وقصفها، تزوج حمزة ووعد في عرس صغير تحف به أعلام الثورة

حب في وسط الحرب.. صوت الأغاني أعلى من صوت القصف

تقول وعد: في أحد الأيام بالمستشفى كنتُ أصور طفلا يحاول الأطباء إنقاذه، وكنت أبكي متأثرة فجاء حمزة وقال لي بعصبية “لا يمكنك أن تبكي هنا، اخرجي من المكان”، وحينها ركضت إلى الأعلى فلحق بي وقال: “ما بك؟ إنني لا أطيق أن أراك منهارة، أنت تعلمين أنني أحبك، فهل تتزوجين بي؟” فلم أصدق لهول المفاجأة.

تزوج حمزة ووعد في عرس صغير تحف به أعلام الثورة، وكان بعض الحاضرين يغني ويهتف لهما بينما كانا يرقصان بكل سعادة وبهجة.

تقول وعد: كان حمزة الإنسان الذي أخذ بيدي وقال لي هذا الطريق الذي سنسلكه معا، طريق طويل تحف به المخاطر، لكن الحرية ستكون في انتظارنا، تعالي ولنمش معا.

كان عرسنا صغيرا لكنه كان جميلا جدا يا سما، وكان صوت الأغاني أعلى من صوت القصف في الخارج.

ولدان يبكيان ويعانقان أخاهما الذي أسلم الروح لبارئها وسط أجواء مأساوية

“مات الغالي”.. أطفال تحت النار

بينما كانت وعد تداعب ابنتها سما وهي على السرير ترضع من علبة الحليب وقع انفجار على مقربة من موقعهما، فحملت ابنتها وهرعت إلى الحدث فإذا بثلاثة إخوة صغار أحدهما مصاب، فسألت سما الأخ الأكبر الذي يبدو عليه التجلد رغم آثار الدموع عن ما جرى، فقال: كنت أقف عند النافذة أطلب من أخي أن يدخل إلى المنزل فما شعرت إلا وقد انفجر علينا الصاروخ.

يظهر الأطباء في الفيلم يحاولون إسعاف الصغير بينما أحد إخوته يبكي بحرقة عليه، ثم أسلم الروح لبارئها فغطاه الأطباء بلحاف، ثم بدأ إخوته بعناقه وتقبيله وسط أجواء مأساوية، وفي تلك الأجواء جاءت امرأة تبحث عن ابنها فوجدته ملفوفة بخرقة وتعرفت عليه، ثم حملته في حالة يرثى لها وأصرت على أن لا يحمله غيرها، فخرجت به من المستشفى وهي تبكي وتقول: مات الغالي، مات الغالي.

تقول وعد: أشعر بالضيق يا سما، أراك مثل ذلك الولد الصغير، وأرى نفسي مثل أمه، ولا أستطيع أن أخبر حمزة بذلك، بل ولا أستطيع أن أخبر نفسي.

بعد تلك الأجواء المأساوية تظهر مشاهد احتجاجات ليلية يحتشد فيها عدد كبير من الثوار من كل الأعمار يهتفون ويغنون ويرقصون جماعيا وعلى رؤوسهم أعلام الثورة، والألعاب النارية تزين السماء. تقول وعد: كنا متأكدين لفترة طويلة أننا سننتصر، وفي حلب المحررة عشنا البلد الحر، وأخيرا شعرنا أن لنا وطنا نحن مستعدون للموت من أجله.

الصورة التلفزيونية الأولى لبطلة الفيلم “سما” وهي في رحم أمها

“حمزة أنا حامل”

همست وعد قائلة لزوجها حمزة: “أحبك، مبارك البيت الجديد”، وذلك بعد وجد أول منزل يجمعهما معا وقاما بتنظيفه وتجهيزه وتزيينه، وكانت حديقته مثل حديقة المنزل الذي ترعرعت فيه وعد أيام طفولتها، وكانت تقول وهي تحمل كاميرتها: أليس حراما أن يمنحنا الله هذا الجمال ثم تقوموا بقصفه؟

في ذلك الوقت كان كل شيء جميلا في حلب، فقد ارتدت المدينة جلباب الثلج الأبيض وتمايلت غصون الورد راقصة، وبدأ الأطفال يرمي بعضهم بعضا بقطع الثلج المتكدس على السيارات في الشوارع، وكان حمزة يكور كورة من الثلج ثم يقذف بها في اتجاه عدسة الكاميرا مداعبا زوجته.

وقفت وعد تتأمل نتيجة فحصها المنزلي الذي أثبت أنها حبلى، فحملت الكاميرا ووقفت أمام المرآة والبهجة تغمرها، وبدأت تمثل الطريقة التي ستخبر بها زوجها بالأمر وهي تردد: حمزة أنا حامل.

تقول وعد وهي مع زوجها يراقبان حركة ابنتها على جهاز صغير وهي في الرحم: كنا نعرف أنك مميزة حتى من قبل أن تولدي يا سما، كانت سعادتنا بك مهددة بالخوف، وهذه الحياة الجديدة أشعر أنها هشة جدا، هشة تماما مثل الحرية التي شعرنا بها في حلب، فالمتشددون يحاولون السيطرة على مناطقنا في حلب، لكن كل ما فعلوه لم يكن يقارن بجرائم النظام.

تحت أجواء القصف والرعب، وضعت وعد مولودتها “سما” بنت حلب

“سوف أنجب لك قردة مثلي”.. ساعة ميلاد سما

سقطت قذيفة في إحدى الليالي بقرب منزل حمزة لكن أصابت آثار الدمار حديقته، ويظهر متأثرا في مشهد يسقي إحدى شجيرات حديقته ويزيح عنها آثار الدمار ويقول: يزرع أحدنا ويسقي وينمي ويربي ثم تأتي في الأخير قذيفة تمحق كل ما صنع.

تقول وعد: أنا لا أريد أن أموت، لا أريد أن أموت، أريد أن أعيش وأن أضع ما في بطني، أريد أن أكبر وأن يبقى حمزة معي، لا أريد أن أموت، أريد أن أعيش، ولكن لا تختبرني بحمزة أو عيالي يا رب، فكل خطب سواهم يهون، يا رب.

أصبح الوضع سيئا في حلب وتساوى كل أهلها في الخوف تحت القصف، تظهر في الفيلم عائلة من جيران وعد المقربين يلعبون ويتحدثون، وتظهر وعد تتحدث مع طفل من شرفة منزله ووراءه آثار الدمار والمنازل التي تعرضت للقصف، تسأله هل سترحل إذا رحل أهلك؟
فيجيب: لا، بل سأبقى.

فتسأله: وأين ستبقى وحيدا؟
فيجيب بحرقة: لا أعرف. ثم يبدأ بالبكاء، وتعانقه أمه ثم تقول: حتى الأطفال لا يريدون أن يرحلوا، فكيف نرحل نحن؟

تقول وعد: أحترمهم كثيرا، كانوا يحاولون مواجهة الخيال المستحيل بشجاعة، إذا تركت المدينة أصبحت تقدم أسوأ مثال لأبنائك وتعلمهم الأنانية، وإذا بقيت فإنك تضعهم بالجحيم، لم أكن أعلم ماذا سأفعل حين تولدين يا سما.

اقترب موعد وضع وعد لمولودتها، فظهرت أمام الكاميرا تتحدث في الهاتف قائلة إنها سوف تذهب بعد قليل إلى المستشفى لكي تلد، ثم ظهرت وهي تمازح زوجها قائلة إنها سوف تنجب له قردة مثلها.

تقول وعد: ذهبنا إلى المستشفى الذي أسس أبوك، وحين رأيتك تذكرت كل القهر الذي عشناه، وكل الناس الذين فقدناهم، لكن وجودك أعطاني الأمل لأبدأ من جديد.

أطفال يسبحون في بركة ماء بين الأنقاض في أوقات الهدوء من القصف

بركة سباحة بين الأنقاض.. طفولة حلبية

وقعت حادثة قصف معتادة في حلب، فجاء طفل أشعث أغبر من آثار القصف ومعه طفل صغير، قال إنهم كانوا نائمين حين نزل عليهم القصف، فسألته وعد: ما قرابتك بالطفل، فقال هو ابن أخي. فسألته: وأين أهله؟ فقال: لا أدري، ربما استشهدوا.

تقول وعد: أكره أن أعترف بهذا، ولكني أحسد أم الطفل على موتها قبل أن تضطر لدفن ابنها.

خلال الهدوء الذي يتبع المجازر كانت وعد تحمل ابنتها وكاميرتها وتخرج من المستشفى لرؤية الحياة الطبيعية للناس، فأطفال يسبحون في بركة ماء بين الأنقاض وشيوخ يلعبون الشطرنج ويسخرون من بشار الأسد ويدعون عليه، وآخر يحاول أن يمنح بعض الأطفال فرصة لعيش طفولتهم فيعطيهم بعض الطلاء يصبغون به حافلة محترقة ويلعبون بها، لقد كانوا جميعا يتحدون النظام.

رغم كل شيء ما زال الأطفال يذهبون إلى المدارس ويلعبون في المدرسة ويغنون، ولكن في فصول تحت الأرض لحمايتهم من القصف.

وليد كاد أن يكون ميتا لولا إصرار الطبيب أنه حي، وفعلا كان

عملية قيصرية إسعافية.. ميلاد تحت القصف

في غارة مفاجئة أصيبت امرأة حبلى في شهرها التاسع وأحضرت إلى مستشفى حمزة، وقد اضطر الأطباء لإجراء عملية قيصرية إسعافية، لكن الطفل لم يستهل صارخا حين خرج، ولم يكن يستجيب رغم كل المحفزات والتدليك والضرب الخفيف.

الولادة في مثل هذه الظروف يعد أمرا بالغ الخطورة، ومن المعجزة أن تنجو الأم أو الابن في هذه الحالات، تماما مثل ما حدث مع هذا الطفل وأمه، فقد استجاب أخيرا للمحفزات وصرخ باكيا معلنا انضمامه للمجتمع الحلبي تحت وقع التكبيرات المتعالية في الغرفة.

تقول وعد: كلاهما بخير، إنها معجزة أعطتنا القوة لنصارع، تماما مثلك أنت يا سما.

الروس يقصفون مستشفى حمزة ويقتلون 53 شخصا من بينهم أحد الأطباء المقربين من حمزة ووعد

قصف المستشفى.. لا وقت للانهيار في حلب

تظهر سما في مشهد من الفيلم نائمة بينما تتحدث أمها من خلف الكاميرا بالإنجليزية: “هذه ابنتي الكبرى سما، اسمها يعني السماء، السماء التي نحبها ونريدها بدون قوات جوية ولا قنابل، سماء الشمس والغيوم والطيور، هل تسمعينني يا سما؟” وحينها تستيقظ سما ضاحكة.

تقول وعد: كانت سعادتي بك تتلاشى عند سماع صوت الطائرات الروسية التي بدأت قصفا عنيفا على حلب لإنقاذ النظام، وفي إحدى الليالي كنا بعيدين من المستشفى فأتتنا الاتصالات بأن الروس قاموا بقصف المستشفى وقتلوا 53 شخصا، منهم الدكتور وسيم الطبيب الذي فحص علاماتك الحيوية لأول مرة يا سما.

لقد دمرت الضربة الروسية المستشفى حتى استحال تصليحه، واستهداف المستشفيات يكسر الروح المعنوية للناس، ولكن لا وقت للانهيار في حلب، لذا استطاع حمزة أن يجد مبنى آخر غير مجهز، وكان مصمما بالأصل ليكون مستشفى، لكنه لم يكن موجودا على أي خريطة، لذلك لم يكن بإمكان النظام أو الروس أن يعرفوا موقعه ليقصفوه.

فرحة العودة إلى حلب بعد السفر خارجا لا تعدلها فرحة

سفر مفاجئ إلى تركيا.. كل حصار وأنتم بخير

سافرت وعد وزوجها حمزة إلى تركيا لزيارة أحد أفراد العائلة حين كان مريضا، وفي تلك الأثناء تعرضت حلب لقصف شديد، كما أغلقت الطريق المؤدية إليها، لكن حمزة ووعد كانا مصرين على العودة إليها رغم حجم الخطر الذي يحف بها.

تقول وعد: نظرة واحد في عيون حمزة كانت كافية لأدرك أنه يفكر فيما أفكر به، لكن لم يفهم أحد موقفنا، فأهل حمزة قالوا إن الأمر خطير جدا علينا، وإن علينا على الأقل أن نترك سما، وكنا ندرك بعقولنا أن ما قالوه صحيح، لكن في قلوبنا شعرنا أن لا بد لنا من الرجوع، وأن تكوني معنا يا سما، لا أعلم لماذا فعلنا ذلك، ولا أصدق إلى حد اللحظة أننا فعلناه.

كان طريق العودة الوحيد طريقا ضيقا يمر بين الجبهات، فتسللوا إلى حلب ليلا تحت جنح الظلام، وكان جنود النظام قريبين منهم جدا والطائرات تحلق في الجو، بينما كانت سما تبكي وهم يغنون لها لتصمت، حتى وصلوا أخيرا إلى المستشفى، ليحتفل الطاقم بسما وهم يهتفون: كل حصار وأنتم بخير.

تروي إحدى المقربات من وعد أنها كانت نائمة فشعرت بشيء دافئ على ظهرها، فتساءلت “من الذي أراق علي الشاي؟”، لتدرك أن ابنتها الصغيرة حين سمعت صوت الطائرات ارتعبت فاضطجعت على أمها ثم بالت وهي نائمة عليها.

الممرضة عفراء أهداها زوجها حبة كاكا صغيرة لم تنضج بعد كمفاجأة، وقد صرخت من شدة الفرح لأنها تعلم أن كل شيء مقطوع

مفاجأة الفاكهة.. صرخة فرحة في صمت الحصار

تحاور وعد أحد أطفال صديقتها عفراء قائلة: كيف حالك مع الحصار؟
الطفل: نحن متكيفون مع الأمر، ولكن لم يبق لنا أي رفاق أو أصدقاء، بقي منهم القليل ولكنهم يستشهدون واحد تلو الآخر، إما أن يستخرجوا من تحت الأنقاض أو يقع عليهم صاروخ.

وعد: ماذا تقول لرفاقك الذين رحلوا وتركوك هنا وحيدا؟
الطفل: سامحكم الله، تركتموني وحيدا.

أصبح الوضع سيئا في حلب فلا غذاء ولا خضروات ولا فواكه، حتى أن سالم زوج عفراء أحضر لها فاكهة كاكا صغيرة لم تنضج بعد كمفاجأة، وقد صرخت من شدة الفرح حين رأتها وقالت إنها كانت ترغب بأن ينتهي الحصار من أجل أن تأكل المانجو، ولكن لا داعي لذلك الآن.

أصبحت عفراء تطهو لعائلتها الطعام خاليا من الخضروات والمحسنات، فهو مجرد أرز مطبوخ في الماء، لكنها لا تستطيع أن تخبرهم بحقيقة ما تطهو كي لا يمتنعوا عن الأكل، فهم لم يتعودوا على أكل مثل ذلك، ولكن الظروف أقوى مما تشتهي الأنفس.

بسبب كثرة الدماء تقول وعد : حتى حين أغمض عيني فإني أرى اللون الأحمر، فالدم بكل مكان حولنا على الجدران والبلاط واللباس

دماء.. ولا مستشفيات

تقول وعد: أشعر بأني متعبة، كنت أظن ذلك في البداية عائدا إلى توتري بسبب الحصار، لكني اكتشفت أني حامل مرة أخرى، وأنا لا أكاد أجد أكلا صحيا لي ولك يا سما، لا أعرف هل سيفتح أخوك أو أختك عينيه على هذه الحياة.

انقطعت الماء في حلب وازدادت الأوضاع سوءا تحت القصف، وأصبح النظام وحلفاؤه يتقدمون في الأحياء شيئا فشيئا، حتى أن ثمانية مستشفيات في حلب من أصل تسعة قد دمرت، وربما لم يبق إلا مستشفى حمزة وفريقه، وقد يكون لديهم 300 مصاب في اليوم الواحد، ولم تعد وعد وحمزة وابنتهما يجتمعون إلا نادرا لانشغال حمزة بالعمل الطبي وزوجته وعد بالتصوير.

تقول وعد: حتى حين أغمض عيني فإني أرى اللون الأحمر، فالدم بكل مكان حولنا على الجدران والبلاط واللباس، وأحيانا نبكي دما، كل هذا وقوات النظام تحتل أحياء حلب حيا فحيا، حتى أصبحنا محاصرين في كيلومترات مربعة قليلة.

في منزل عفراء وزوجها سالم، كانت الأجواء مليئة بالكوميديا التراجيدية والتسلية في معمعان الأسى

غناء عبد الحليم على عزف الصواريخ

تقول وعد: أعلم يا سما أنك تفهمين ما يحدث، ولكنك لا تبكين مثل باقي الأطفال العاديين، وهذا ما يقلقني ونحن في هذا الوضع، يقصفوننا بكل شيء حتى بغاز الكلور.

يتحدث حمزة يوميا إلى الكثير من القنوات الإخبارية، ويشرح الأوضاع الإنسانية والميدانية، بينما تعد وعد تقارير إعلامية وتنشرها على الإنترنت ويشاهدها ملايين الأشخاص، ولكن لا حياة لمن تنادي، فرغم الاستجداء بالعالم وطلب المساعدة فإنهم لم يفعلوا أي شيء.

أما في منزل عفراء وزوجها سالم فكانت الأجواء مليئة بالكوميديا التراجيدية والتسلية في معمعان الأسى، فكان سالم يغني للحاضرين أغاني لعبد الحليم حافظ، بينما ابنته الصغيرة تصف صوت قذيفة سقطت أثناء الحديث معها، أما عفراء فكانت تتحدث مازحة: بماذا تحبين أن يقصفوننا؟ بالصواريخ أم بالقذائف أم بالطلقات؟

تقول وعد: هذه هي اللحظة الحاسمة، أصبحنا على بعد شارع واحد فقط من قوات النظام، وحينها أمسكني أبوك بقوة يا سما وقال لي “انظري إليّ جيدا، نحن ميتون، وعليك أن تتركي سما ففرصتها في النجاة أكبر إذا لم يعرفوا أهلها”، ويستحيل أن أفعل بك ذلك يا سما، جريمتك الوحيدة أن أمك إعلامية وأباك طبيب، هذه هي اللحظة الوحيدة التي تمنيت فيها أنني لم ألدك، وأني لم أتعرف على أبيك حمزة، وأني لم أخرج من بيت أهلي أبدا.

في آخر فرصة للخروج من حلب، بدأت الحافلات تنقل الجرحى والمصابين أولا

فرصة النجاة الأخيرة.. تهجير برعاية الأمم المتحدة

تحت الحصار الخانق الذي يكاد أن يطبق فكّيه على آخر أحياء حلب اتصلت الأمم المتحدة بحمزة لتخبره برسالة من روسيا أنها تعطيهم فرصة للاستسلام من أجل النجاة، وأن الحل الوحيد هو التهجير.

تقول وعد: كنا نعلم أنها الفرصة الوحيدة للنجاة، لكي ننقذك أنت وبقية الأطفال يا سما، ولكن بنفس الوقت كنا نعلم أن ذلك يعني ضياع كل تضحياتنا هباء، وأن مستقبلنا ما عاد بأيدينا.

بدأ الكل يجمع أغراضه في انتظار التهجير، وكان الوداع أصعب من الموت، وشعارات العودة تصرخ بكاتبيها على الجدران والسيارات، ثم بدأت الحافلات تنقل الجرحى والمصابين أولا، وقد ذهبت وعد لتصور تلك اللحظات تاركة ابنتها سما وهي نائمة بالمستشفى، ثم عادت إلى المستشفى للمرة الأخيرة التي ستراه فيها، وقد وجدت القليل من الوقت لتفحص لها إحدى الممرضات الجنين الذي تحمل في بطنها قبل أن تبدأ رحلة التهجير.

يقول حمزة وهو ينظر إلى مستشفاه الذي سيفارقه والحرقة تسيل دموعا على عينيه: خلال عشرين يوما تقريبا قمنا بما يقارب 890 عملية جراحية في هذا المستشفى، واستقبلنا أكثر من 6 آلاف مصاب.

تيماء تأتي إلى الدنيا بعد خروج أبويها من حلب

تيماء.. أشم رائحة حلب

الصمت الذي وقع في الأيام الأخيرة يشعرك أن المدينة قد ماتت فعلا، وما زالت وعد وزوجها ينتظران دورهما في الترحيل، حتى جاءت الأوامر فبدأوا بالرحيل وبعضهم يواسي بعضا ويعدهم بالرحيل، ولا عزاء لهم إلا وجودهم معا.

تقول وعد لزوجها حمزة إذ هما في السيارة يتوجهان إلى نقطة التفتيش: هل تخاف من التفتيش؟
حمزة: طبعا بالتأكيد، قد يقع أي شيء، ويوجد احتمال كبير أن تكون لديهم قائمة بمجموعة من الأسماء لا يجب أن يمر أصحابها.

نجا حمزة وكل معهم من نقاط التفتيش وعبروا بأمان ليبدأ بعضهم بتهنئة بعض ويحمدون الله على سلامتهم، ثم طلع الصباح عليهم وهم في الطريق وقد اكتست الأرض ثوبا أبيض من الثلج والأمل.

تقول وعد: ظننت أننا خسرنا كل شيء يوم خسرنا حلب، ولكن لم يكن الأمر كذلك، فقد أصبحت لدينا الآن تيماء، وأستطيع أن أشم فيها رائحة حلب.

وعد الخطيب: “الشيء الوحيد الذي أريدك أن تعرفيه، أن كل شيء فعلناه كان من أجلك يا سما”

من أجلك يا سما

تقول وعد: كل الأشخاص الذين صورتهم لن يفارقوا مخيلتي، ولو عاد بي الزمن إلى الوراء لفعلت نفس الأمر، ولست نادمة على أي شيء حتى لو لم أشفَ من الصدمة طول عمري.

الشيء الوحيد الذي أريدك أن تعرفيه يا سما أننا قاتلنا من أجل أهم شيء في الحياة، لكي لا تعيشي أنت وباقي الأطفال ما عشناه، أريدك أن تعرفي أن كل شيء فعلناه كان من أجلك، كله من أجلك يا سما.

يختتم الفيلم بمشاهد وصور من سنوات الثورة في حلب، يظهر الأشخاص الذين لم يعودوا أحياء والمنازل التي دمرت والأحياء التي أصبحت بين عشية وضحاها خاوية على عروشها، بينما تتمشى وعد حاملة ابنتها في شارع ليس به أحد يحف الدمار من اليمين ومن الشمال.