اتفاقيات الفضاء.. دستور الفلك الذي يوحد الدول العظمى

 يمان الشريف

في الفلسفة السياسية، يعرّف الفيلسوف البريطاني “توماس هوبز” مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، ألا وهي “الحالة الطبيعية”؛ على أنها الظروف التي تتخلف بها القوانين عن الحضور، ويتغيب النظام السياسي، فتكون الصراعات المستمرة هي لغة الحوار الوحيدة التي يتقنها البشر على نحو مزر للغاية، وأن أفعال الفرد تحددها قوته ووعيه الفردي فحسب ولا شيء آخر.

ثم يعلق “هوبز” قائلا إن البشر بطبيعة الحال عقلاء أو تغلبهم صفة العقلانية، لذا نشوء حالة الطبيعة واستمرارها لا يمكن أن يكون حالا دائما، لأنّ الإنسان في نقطة ما سيدرك بأن نزاعات الكل ضد الكل لن تخدم مصالح جميع الأطراف، وأن السلام هو الحل الأمثل.

ثم يصيغ كيفية الوصول إلى مرحلة السلام عبر المرور بما سمّاه “العقد الاجتماعي” الذي ينص بموجبه على أن يتنازل الإنسان عن بعض حريته طواعية، ليكون تحت إشراف وإدارة نظام حاكم في سبيل حماية بقية حقوقه.1

وتتخذ الأنظمة الحاكمة تشريعات وفق ما تقتضيه مصلحة الفرد، وهذا نموذج لكيفية انتقال الإنسان من الحالة الفردية إلى النظام الاجتماعي التكافلي، ومع ازدهار ونمو التكتلات البشرية، ستفضي إلى وجود عدة أنظمة حاكمة مستقلة عن بعضها، ولذات الغاية فإن قوانين وشروطا ستتبناها تلك العصبة من الأنظمة لتوفير الحماية اللازمة لنفسها.

ومثال على ذلك ترسيم الحدود البرية بين الدول، وبلا شك الحدود الجوية، ففي عام 1784 صدر أول قانون بما يتعلق بالمجال الجوي، ضمن ما يُعرف بـ”القانون الروماني”، بعد عام من تحليق أول منطاد في سماء باريس بواسطة “الإخوة مونتغولفييه”، وقد أجاز القانون جميع الحقوق الجوية لصاحب الأرض ومالكها.2

ومع صعود نجم “الأخوين رايت” في سماء أمريكا وبدء عصر تحليق الأجسام التي هي أثقل من الهواء -أي الطائرات- ازداد عدد القوانين الدولية لضبط حركة الملاحة الجوية، وقد اقتصرت جميع تلك القوانين على كل ما هو داخل الغلاف الجوي للأرض.

 

صواريخ الحرب الباردة.. تحليق القمر الصناعي الأول

في عام 1957، استطاع الاتحاد السوفياتي أن يباغت الولايات المتحدة الأمريكية في حربهما الباردة بإرسال أول قمر صناعي “سبوتنيك1” (Sputnik1) إلى الفضاء، وعلى الرغم من صغر حجم القمر الصناعي حينها، إذ لم يتجاوز الجسم الرئيس 58 سم، فإنه سبب دربكة وإشكالا في المجتمع الدولي.

فقوانين الطيران في ذلك الحين تعرّف الحدود الجوية للدول بامتدادها بشكلٍ عامودي فوق سطح الأرض، لكن تلك الحدود لا تمتد إلى ما لا نهاية، وإلا فإنّ الاتحاد السوفياتي سيكون قد تجاوز كثيرا من حدود البلدان بسبب خط سير قمره الصناعي خارج الغلاف الجوي.

لقد حرّك هذا الحدث المياه الراكدة، ودفع عدة دول إلى المضي سريعا نحو ضبط حركة “الملاحة الفضائية” مستعينة بمكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي (United Nations Office for Outer Space Affairs) الذي تأسس في عام 1958.

وانبثقت على إثرها معاهدات شاملة تضمنت قوانين معنية بالقطاع الحكومي والقطاع الخاص على حد سواء في العمل الفضائي، وما هو جدير بالذكر أن ثمة مسودة نُشرت مؤخرا من قبل مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي (UNSOOA)، واشتملت على جميع القوانين القضائية الدولية الجنائية التي تتناول هذا الجانب.

وتقول مديرة المكتب عالمة فيزياء الفلك السيدة “سيمونيتا دي بيبو” (Simonetta Di Pippo): على مدار عقدين من الزمن، تكفل مكتبنا بنشر كتيبات (مسودات تتناول القضايا التي تتعلق بقانون الفضاء)، وقد كانت دوما مصدرا مفيدا وشاملا للمعلومات لمجموعة واسعة من المتخصصين في مجال الفضاء، بما في ذلك القانون وواضعي السياسات والمتخصصين في المجال التقني والاقتصادي، فضلا عن الباحثين والعلماء.3

وفي هذا المقال، وجب التنويه على أننا سنتطرق معا إلى أبرز وأهم التشريعات في الفضاء الخارجي، تاركين للقارئ خيار الاستزادة من خلال المراجع في الخاتمة، والتي تعد أكثر تخصصا وإلماما للباحث والأكاديمي.

في عام 1963 تأسس مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي

 

معاهدة 1963.. أولى اتفاقيات الفضاء في الأمم المتحدة

اعتمدت الجمعية العامة برعاية الأمم المتحدة أول القوانين بمعاهدة نشرت في الثالث عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1963. وقد شملت الاتفاقية 9 مواد تحفظ مشروعية الدول في العمل الفضائي، وانطلاقا من مبدأ مشاركة البشرية في ذات المصلحة والتطلع نحو الاستكشاف، فإن جميع الدول تمتلك ذات الحق في المساحة العلمية والعملية في البحث والتنقيب في الفضاء.

وأبرز ما جاء من تلك المواد هو أن الأعمال التي تجري في الفضاء الخارجي يجب أن تكون في مصلحة البشرية جمعاء، كما أن جميع الأجرام السماوية من حق جميع الدول بالتساوي في عملية البحث تحت إشراف القانون.

ولعل المادة الثالثة تعد أكثر المواد محورية، إذ تنص على عدم أحقية أي دولة بإعلان سيادتها على أي جرم سماوي بأي شكل من الأشكال، وهذا ما بدا أن عارضته الولايات المتحدة الأمريكية في برنامجها “أبولو” في نهاية الستينينات حينما أرسلت دفعات بشرية نحو القمر، فقد نشرت صورا لروادها على سطح القمر برفقة العلم الأمريكي مغروسا على سطح القمر، وبدا للجمعية العامة أن في ذلك إشارة للتملك، إلا أن الحكومة الأمريكية نفت مباشرة ذلك الادعاء متمسكة بالاتفاقية.

وكذلك تشير المعاهدة إلى أن كل دولة مسؤولة عن مراكبها الفضائية وأقمارها الصناعية في عدم إلحاق الضرر بأي دولةٍ أخرى، سواء في الفضاء أو على الأرض، وفي حالة مرور المراكب الفضائية لدولة ما فوق أراضي دولة أخرى أو هبوطها عليها، فإن في ذلك لا يغير من ملكيتها.

وختاما تطرقت المعاهدة نحو حقوق رواد الفضاء على المجتمع الدولي، إذ أنهم يمثلون البشرية كلها، وعليه يجب توفير أقصى درجات السلامة لهم.4

خارطة الدول المشاركة في اتفاقية 1967. اللون الأخضر: وقعت وصادقت، اللون الأصفر: وقعت فقط، اللون الأحمر: غير مشاركة.

 

معاهدة 1967.. تجريم السلاح النووي في الفضاء والأجرام السماوية

تعد هذه المعاهدة الصادرة من قبل الجمعية العامة في بداية عام 1967 أكثر المعاهدات القضائية في مجال الفضاء شمولا ومصادقة عليها من عدة دول حول العالم، إذ أقرت 111 دولة التزامها بالبنود التي تشرعها المعاهدة، ويبلغ عددها 17 بندا.

احتوت المعاهدة على ذات البنود التي وردت سابقا، بالإضافة إلى بنود تنظيمية تناقش كيفية الانضمام والمصادقة، إذ تولى الاتحاد السوفياتي برفقة حكومات بريطانيا وإيرلندا الشمالية وأمريكا مهمة الاحتفاظ بوثائق التصديق والانضمام، بحكمهم الدول المؤسسين لهذه الجمعية.

كما أن المعاهدة تطرقت إلى نقطة جوهرية في المادة الرابعة، إذ تشير إلى تجريم وضع أي سلاح نووي في مدار حول الأرض، أو على أي جرم سماوي، وينطبق الأمر على بقية أسلحة الدمار الشامل.

كما أنّ القمر لا ينبغي إلحاق الضرر به بأي شكل من الأشكال، وينبغي أن يكون العمل عليه فيما يصب في مصلحة البشرية جمعاء، ولا ينبغي أن تُقام عليه قواعد عسكرية، ولا تجارب لأي نوع من الأسلحة.5

القمر الصناعي الروسي الأول “سبوتنيك” الذي بدأ سباق الفضاء مع الأمريكان

 

مشروع “أ-119”.. سحابة عش الغراب النووية على وجه القمر

على الرغم من وجود اتفاقية التسليح النووي، أجرت صحيفة “الغارديان” البريطانية (The Guardian) في عام 2000 مقابلة حصرية مع الفيزيائي “ليونارد ريفل” (Leonard Reiffel) الذي كان يرأس مشروعا سريا للغاية في نهاية الخمسينيات، ويهدف إلى استخدام القوات الجوية الأمريكية السلاح النووي على سطح القمر.

لقد كشف “ريفل” في المقابلة عن معلومات كانت قد أخفيت لمدة 45 عاما عن الأنظار، إذ يقول: كان واضحا أن هدف القوات الجوية من التفجير المقترح هو إظهار التفوق الفردي، لقد أرادوا أن يشاهد العالم سحابة عش الغراب التي تحدث بسبب الانفجار، بحيث يمكن رؤيتها من على الأرض، لا سيما أن الولايات المتحدة كانت متخلفة في سباق الفضاء أمام نظيرتها روسيا في أثناء الحرب الباردة، وأنّ أمرا ما كان ينبغي حدوثه لكي تتكافأ موازين القوة.

لقد كلّف “ريفل” العالم الشهير المرموق “كارل ساغان” بمهمة وضع نموذج رياضي لانفجار نووي تترتب على إثره سحابة غبارية في الفضاء، وكلّ ذلك لمعرفة مدى إمكانية رؤية السحابة من الأرض، لكن لأمر ما ألغي ذلك المشروع، ولا يعرف “ريفل” ما السبب وراء ذلك على حد قوله، وما عدا هذه التفاصيل القليلة، فإن جميع الملفات المتعلقة بهذا الأمر ما زالت في التصنيف السري للغاية.6

يقول الدكتور “ديفيد لوري”، وهو مؤرخ في مجال السلاح النووي: إنّه لمن المريع أن تكون فكرة أول اتصال بين البشر والعالم الخارجي باستخدام قنبلة نووية، لو أنهم فقط مضوا قدما، لما كنا نحمل اليوم الصورة -الرومانسية- لرائد الفضاء “نيل أرمسترونغ” وهو على سطح القمر.

يتعين على كل دولة يهبط فيها رائد فضاء دولة أخرى أن تقدم له الحماية

 

المبعوث البشري.. مهمة حماية الإنسان في الفضاء

لقد تكفلت الجمعية العامة وعصبة الأمم المتحدة بمهمة حماية الكائن البشري خارج الغلاف الجوي، بمنحه صفة المندوب والمبعوث البشري، وألزمت جميع الدول المشاركة في العمل الفضائي بالتعاون فيما بينها لتوفير أقصى درجات الحماية لجميع رواد الفضاء، بغض النظر عن توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية في حال التوقيع والمصادقة على الاتفاقية.

وضمت الاتفاقية 10 مواد، أهمها تحديد مصير المراكب الفضائية التي تتعرض لحوادث تجبرها على الهبوط في المناطق غير التابعة لبلدها الأم، إذ تجبر الدول على إخطار الأمين العام للأمم المتحدة، الذي ينبغي أن ينشر المعلومات دون تأخير بجميع وسائل التواصل الموجودة تحت تصرفه.

بالإضافة إلى إلزامية تحمل جميع الدول الموقعة على الاتفاقية بمهمة إنقاذ وإسعاف أي رائد فضاء أو مركبة فضائية تهبط على سطحها، أو ضمن حدود إقليمها البحري، وكذلك حماية رواد الفضاء العالقين خارج الغلاف الجوي تحت أي ظرف، بتقديم المساعدة والعون من أي وكالة فضائية موجودة.7

تشترك في تشغيل محطة الفضاء الدولية 15 دولة يحق لها أن ترسل روادها لقضاء ثلاثة أشهر أو أكثر

 

محطة الفضاء الدولية.. ما تفرقه الأرض تجمعه السماء

لقد أثمرت كل تلك الاتفاقيات والمعاهدات بتأسيس محطة الفضاء الدولية في عام 1998، وتعد أبرز وأعظم ما قدمه التعاون البشري في المجال التقني، فقد أصبحت عدة دول حول العالم باختلاف لغاتها وتوجهاتها السياسية تتشارك معا ذات البقعة، في مكان منزوٍ خالٍ خارج الأرض، فلا تفرق بينهم أي حدود ولا أي تضاريس.

وعلى الرغم من التوتر الكبير على سطح الأرض الذي تحكمه القرارات السياسات الدولية، نجد أن ذلك لا يؤثر على الأجواء العامة خارج الأرض، ولا ندري إن كان ذلك لما توجبه الاتفاقيات الموقعة فقط، أم أن حاجة البشرية إلى التكافل في هذه المرحلة المبكرة من اكتشاف الفضاء هو السبب، فما من دولة إلى الآن قادرة على الاستقلال بشق طريقها نحو الفضاء لوحدها.

 

المصادر:

[1] هوبز، توماس (1651). لوياثان: المادة والشكل وقوة الكومنولث الكنسي والمدني. أريتا للنشر، نيويورك. ص99

[2] ساند، بيتر (غير معروف). دراسة تاريخية لقانون الجو الدولي قبل الحرب العالمية الثانية. ص25

[3] مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي (2017). قانون الفضاء الدولي:
أدوات الأمم المتحدة. قسم اللغة الإنجليزية والنشر والمكتبة، مكتب الأمم المتحدة، فيينا. ص1

[4] 1962 (الثامن عشر). إعلان المبادئ القانونية المنظمة لأنشطة الدول في مجال استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي. المعاهدة بنصها الأصلي: http://www.un-documents.net/a18r1962.htm

[5] مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي (2017). قانون الفضاء الدولي:
أدوات الأمم المتحدة. قسم اللغة الإنجليزية والنشر والمكتبة، مكتب الأمم المتحدة، فيينا. ص5

[6] بارنت، أنتوني (2000). خططت الولايات المتحدة لانفجار نووي كبير. تم الاسترداد من: https://www.theguardian.com/science/2000/may/14/spaceexploration.theobserver

[7] مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي (2017). قانون الفضاء الدولي:
أدوات الأمم المتحدة. قسم اللغة الإنجليزية والنشر والمكتبة، مكتب الأمم المتحدة، فيينا. ص13