“الأزهر الشرايطي”.. ما بين بندقية الثورة ورصاصة الإعدام الغادرة

خاص-الوثائقية

“تأتي الخيبة دائما من الذين قدمنا لهم كل شيء”؛ هي مقولة تترجم شعورا يسكن كل واحد منا عاش لحظات انكسار أمام حقيقة خذلان من منحهم الثقة فزرعوا في طريقه الأشواك، فكيف إن كان الخذلان من وطن حملنا الأرواح على الأكف في سبيل أن يتنفس شعبه حرية لا تنغصّها جبروت مستعمر، ولا تصادرها بندقية مستبد، ولا تخضع لمزاج حاكم إن رضي أعطى أو إن سخط منع.

 

فهل يمكن أن تتصور عزيزي القارئ حجم الوجع الذي شعر به مقاوم سكن الجبال حاملا بندقيته من أجل وطن حين استوى على سوقه نصب له منصة الإعدام؟ أيُعقل أن تسترخص الأوطان دماء صُناع استقلالها فقط لأن هناك حاكما فردا لا يريد لإطار صورة الزعامة أن يتسع لأكثر من شخصه؟ كيف يُمكن لبريق السلطة أن يحجب الرؤية لدرجة يتحول معها رفيق السلاح في ساحات الشرف إلى متمرد خائن عينه على السلطة لا على الوطن؟

كثيرة هي المعاني التي تستخلص من رحلة تبدأ بحمل البندقية على العاتق من أجل الوطن وتنتهي بطلقة بندقية في الرأس باسم الوطن، رحلة يسكن في كل محطة منها شيطان التفاصيل، فتتداخل الألوان لدرجة يصعب معها تمييز السواد من البياض.

الأزهر نشأ في بلدته الزهراء، لكنه أبعد عنها في آخر حياته قسرا رغم أنها تحمل اسمه

 

ثورة النقابي الأمي.. رحلة البحث عن الهوية

ولد السيد الأزهر الشرايطي في 19 مارس 1919 م بمدينة قفصة التونسية، في أسرة تمتهن الفلاحة في بيئة فقيرة، وقد تجرع اليتم مذ كان صغيرا، فأثر ذلك على تكوين شخصيته، وكغيره من أقرانه دخل إلى الكُتاب وهو صغير ودرس ما تيسر من القرآن الكريم، لكنه لم يتعلم القراءة والكتابة.

ولأن أبناء المنطقة المنجمية يجدون أنفسهم دائما وقد انتهى بهم المطاف في مناجم الفوسفات في الجنوب التونسي، فقد شدّ الأزهر الرحال إلى هناك حيث تعرف على شخص إيطالي الجنسية يدعى “سكوتزارو” سيتحول بعد فترة إلى صديق شخصي للفتى الاجتماعي القادم من دوار الشريطة، وكان ذلك الشخص هو عنوان عبور “الأزهر” كي ينضم إلى قائمة عمال المناجم.

وجد الأزهر نفسه ضمن حقل عمال تتحكم فيه شركات أجنبية استعمارية تمارس تمييزا مكشوفا وتفضل العامل الأوروبي على العمال التونسيين والمغاربيين، وهو تمييز كانت النقابات العمالية خاصة الكونفدرالية العامة للشغل ترفع الصوت برفضه، فانخرط الأزهر مثل غيره من العمال في أنشطة تلك النقابات المطالبة بتسوية العمال العرب بغيرهم من العمال الأوروبيين، وفي تلك الظروف الصعبة التي يعيشها عمال المناجم بدأت شخصية الأزهر النقابية والمقاومة في التشكل، فظهر مناضلا ضد الظلم ومدافعا عن حقوق العمال.

شارك الأزهر في حرب فلسطين في 1948، فانزرع في قبله حب مقاومة المستعمر الفرنسي

 

“أظن بلدانكم أولى بالتحرر من فلسطين”.. حرب النكبة

في ربيع 1948 أعلن شيخ الأزهر في مصر النفير للجهاد المقدس في فلسطين، فهبّ “الأزهر” مع غيره من الشباب التونسيين لتلبية نداء الواجب، وهناك في ساحة المعركة كان تحت قيادة المجاهد حسن الزعيم مما جعله يكسب تجربة ميدانية كبيرة، وبقيت تدور في خلده مواقف ومشاهد متعددة، منها ما قاله أحد الضباط السوريين يوما وهو يخاطب المتطوعين من التونسيين والجزائريين حين قال لهم: أظن أن بلدانكم أولى بالتحرر من فلسطين.

بعد الهزيمة التي أسفرت عن النكبة، عاد الأزهر إلى تونس 1949، وهو مُثقل بمشاعر الحُرقة والانكسار والخيبة، فقد كان وقع الهزيمة ثقيلا، لكنه أخذ على نفسه عهدا بمواصلة رحلة التحرر على أرضه من خلال إشعال فتيل مقاومة لا ينطفئ إلا بعد طرد المستعمر الفرنسي من تونس.

ترجم الأزهر أفكاره سريعا على أرض الواقع، وبدأت مقاومة المستعمر تتوسع بشكل أزعج الفرنسيين، مما جعلهم يفرضون عليه إقامة جبرية ويمنعونه من العودة إلى عمله قبل أن يستعين بأصدقائه الإيطاليين ويتمكن من دخول المنجم من جديد.

مجموعات كبيرة من المقاتلين انضووا تحت لواء الأزهر وكبدوا المحتل الفرنسي خسائر فادحة

 

نواة المقاومة.. عناق الجامع والبندقية

في الطريق إلى جامع سيدي سالم في جهة قفصة جعل الأزهر ورفاقه الليل لباسا وذهبوا إلى هناك حيث كان ينتظرهم الحبيب بورقيبة، وتمخض الاجتماع الذي ضم إلى جانبهما أحمد التليلي ومنصور التلجاني، عن تكليف الأزهر بتشكيل نواة للمقاومة المسلحة على أن تعلن عنها الجهات الوطنية في تونس في 18 يناير 1952، وهي مهمة لن تكون صعبة بالنسبة له فقد سبق له أن قام بجولة في البلاد سنة 1950 محرضا على الاستعداد لحمل السلاح ومقاومة المستعمر.

كُلف الأزهر بإعداد وتشكيل خلية المقاومة المسلحة في منطقة الجنوب الغربي أو الحوض المنجمي، ونجح في تكون فرق مدربة نجحت فعلا في أن تكون مصدر إزعاج لفرنسا، فقد كان الأزهر ضابطا برتبة ملازم أول، وقد اكتسب خبرتين ميدانيتين، خبرة حرب العصابات وخبرة الجيوش الرسمية النظامية لأنه سبق وشارك في معركة تحرير فلسطين.

لذلك فقد وُفق الشرايطي في تجنيد مقاومين في سيدي بوزيد وقابس والقصرين، ودربهم على حمل السلاح وعلمهم كيفية التعامل معه، وزرع فيهم قيم الجندية والانضباط، لذلك كان من الطبيعي أن ترصد فرنسا مكافأة بمليوني فرانك لمن يقبض على الأزهر ويسلمه حيا أو ميتا.

معارك شرسة ضد الفرنسيين في مواقع كثيرة خاضها المناضلون بقيادة الأزهر

 

حرب الاستقلال.. “إذا الشعب يوما أراد الحياة”

في ربيع 1954 اجتمع قادة المقاومة وانتخبوا الأزهر الشرايطي قائدا عاما لجيش التحرير، فخاض عدة معارك مع المستعمر الفرنسي وكبده خسائر فادحة، ولعل من أبرز تلك المواجهات معركة السلوم ومعركة سيدي عيش ومعركة عرباطة ومعركة الرديف ثم معركة سيدي عيش الثانية التي شهدت ملحمة حاول فيها المستعمر مباغتة المقاومين، لكن يقظة قائدهم واستعداد جنوده كانت لها كلمة الفصل في النهاية.

مع تلك الخسائر حاول المستعمر أن يُسكت صوت الرصاص، فقررت فرنسا تحت ضغط المقاومة منح استقلال ذاتي لتونس، لكنها اشترطت بالاتفاق مع الحركة الوطنية أن يُسلم المقاومون أسلحتهم في أجل أقصاه 10 ديسمبر 1954، وبالفعل وقع الاتصال بالمقاومين، وسلم الأزهر سلاحه في 8 ديسمبر 1954 للجنة الاتصال بقيادة صديقه أحمد التليلي فقد كان يثق به جدا.

حين سلم الأزهر وجنوده سلاحهم طلب ضمانات بحقوق المقاومين وتوزيع الثروة على الشعب، وهو ما ضمنه وتعهد به السيد أحمد التليلي، لكن مع ذلك تبين أن حس المقاوم لدى الأزهر كان أقوى فقد سلم للجنة الاتصال الأسلحة المعطوبة والمعطلة، بينما سلم الأسلحة ذات الفعالية للثورة الجزائرية التي اندلعت في فاتح نوفمبر/تشرين ثاني 1954م.

لكثرة تنكيله بجنودها، رصدت فرنسا مكافأة قدرها مليون فرنك لمن يأتي بالأزهر حيا أو ميتا.. وهكذا دأب الغزاة

 

رفاق السلاح وأشواك السياسة.. أركان المعادلة الصعبة

في الأول من يونيو/حزيران 1955 كان التونسيون على موعد مع عودة الحبيب بورقيبة، وكان الأزهر في مقدمة مستقبليه، لتبدأ مرحلة جديدة حاول من خلالها الديوان السياسي بقيادة الرئيس بورقيبة استمالة قادة المقاومة والاحتفاء بهم، وبالطبع كان القائد الأزهر الشرايطي من الصفوة المقربة من الرئيس، لدرجة أن المنطقة التي كان يسكن سميت بالزهراء تكريما له، لكن مع ذلك بقي بعض المقاومين في خانة النسيان وعانوا التهميش والإقصاء.

لم يدم شهر العسل طويلا، فسرعان ما دبت الخلافات داخل الحركة الوطنية، فهناك من رأى أن فرنسا ما زالت موجودة بإدارتها وقضائها وأمنها وعملتها، لذلك رفضت جماعة الأمانة العامة بقيادة صالح بن يوسف الوضع القائم، وشهدت تونس انقساما شديدا بين مجموعة انضمت إلى صالح بن يوسف وأخرى دعمت بورقيبة، حتى وصل الأمر إلى ما يشبه حرب أهلية مصغرة خلال الفترة 1955 و1956، وكان الأزهر ممن اصطفوا إلى جانب بورقيبة، لكنه كان يملك مروءة وعزة نفس تمنعه من أن يقبل أن تسيل دماء اليوسفيين.

ولأن الوضع ازداد سوءا بعد أن استمر تهميش المقاومين والتضييق عليهم وإهانتهم، فقد شهدت تونس مظاهرات قاد الأزهر إحداها للمطالبة بتعويض المقاومين بمنحهم قطعا أرضية أو رخصا تجارية، وبالتزامن مع ذلك بدأت تظهر نظرة عنصرية وجهوية للمقاومة والمقاومين، وهو ما زاد الأمور تعقيدا.

دكتاتورية بورقيبة وظلمه جعلته هدفا في محاولة اغتيال لم تتم.. لكن راح ثمنها رأس الأزهر

 

انقلاب الشرايطي.. رصاصات المحاكمة الصورية

في بداية الستينيات استمرت الأوضاع الاجتماعية والمعيشية في التدهور، وكانت هناك جرأة عند الرئيس التونسي في التعامل مع القضايا الدينية وتحرير المرأة، وبدأ الحديث يتواتر عن بناء قصور رئاسية وشبهات فساد، وزاد طين الأزمة بلة ما ظهر من خلاف بين فرنسا وتونس بسبب دعمها للثورة الجزائرية، وهو خلاف وصل ذروته بقطع العلاقات وحرب بنزرت في عام 1961.

كلف الرئيس ووزير داخليته الأزهر الشرايطي بتجنيد المتطوعين لمعركة بنزرت، وبالفعل نجح في ذلك وجمع ما يقارب 800 متطوع، لكنه فوجئ بنقله من طرف الرئيس إلى منطقة قابس للمشاركة في معارك هناك ومنعه من المشاركة في معركة بنزرت، فقد كان بورقيبة خائفا منه ومن أمثاله من المقاومين الذين شعروا بانزعاج كبير، وهو انزعاج يبدو أنه تمدد ليصل إلى بعض قادة الجيش والحرس الوطني، وهو ما يفسر مشاركة مجموعة منهم في المحاولة الانقلابية 1962.

كان الأزهر الشرايطي من أبرز المشاركين في تلك المحاولة الانقلابية حتى إنها سميت باسمه، نظرا لما له من رصيد اعتباري وقيمة نضالية في صلب الحركة الوطنية التونسية، وفي خطابه الغاضب بتاريخ 18 يناير/كانون ثاني 1963 أعلن الرئيس بورقيبة الحكم على المنخرطين في المحاولة الانقلابية، فجاءت محاكمتهم صورية تقاعس خلالها محامو الدفاع عن نصرة المتهمين، والمحصلة هي أحكام بالإعدام طالت 13 شخصا، لينفذ الحكم بالقتل في 10 أشخاص كان من بينهم الأزهر الشرايطي في صبيحة 24 يناير 1963.

الابن والبنت يلتقيان بعد فراق طويل في مسقط رأس والدهما “الزهراء” المسمى تيمّنا باسمه

 

آل الشرايطي.. نفض الغبار عن أطلال مجد مغدور

لم يكن سليم الأزهر الشرايطي وهو يرى النور سنة 1958 لأب مقاوم يتغنى الجميع ببطولاته ويفتخر به الوطن الوليد، يتوقع -حتى في أسوأ كوابيسه- أن الأوطان أحيانا تقلب ظهر المجن لمن بدونه ما كانت لتكون، لكنه عاش وشاهد كيف حُوّل والده من مقاوم صنع الاستقلال إلى متمرد خائن يهدد أمن الوطن.

لقد شاهد سليم كيف ضاقت الأرض بما رحبت على أمه الحامل وهي تستقبل خبر إعدام أبيه، ولعله لا يمكن أن ينسى كيف كان عمّه يحمل إليهم خفية ما يسدون به الرمق بعد أن جرى فرض حصار خانق على كل أسر المقاومين الذين أصبحوا بين مقتول ومطارد، حتى إن أبناءهم اضطروا إلى تغيير أسمائهم في شهادات المدرسة، فلم يكن أمام زوجة أسد عرباطة سوى الهروب بأبنائها من وطن كان أبوهم أحد صناع استقلاله.

عاد سليم وأخته ربح من غربة قسرية إلى الوطن الطارد، عادا إلى بلدة خاوية على عروشها، تحاصرهما العيون التائهة وكأنهما غريبان، فلا أهل ولا وطن ولا أنيس سوى الحزن والوحشة، عادا إلى مضارب والدهما بعد عقود لنفض الغبار عن سيرة بطل تلاشت مع الزمن مثلما تلاشت حكايات وأماكن كثيرة في وطن لم يكن سخيا مع كثيرين ممن صنعوا استقلاله، حتى إنه بخل عليهم بقبور تواري جثامينهم المغدورة.

مهما أُجبرت الأوطان على التنكر لمن ضحى في سبيل حريتها، ودفع حياته ثمنا لاستقلالها، فإنه سيأتي اليوم الذي تحطم فيه قيود مذلتها وتستعيد محطات مجدها وتبرق بتحية عرفان وإجلال لمن كتبوا تاريخها بالدم، لأنه تاريخ يمكن أن يُشوه لكن من المستحيل أن يُمحى.