“الإيدز”.. المرض المخيف لم يعد قاتلا لكنه ما زال شرسا

بعد أكثر من 30 سنة على كلمة “كوفي عنان” الأمين العام السابق للأمم المتحدة التي طالب فيها بتقديم الإمكانيات للمجتمعات وخصوصا النساء من أجل خوض الحرب ضد “الإيدز”؛ تعود المنظمة الأممية هذه السنة لتختار شعار “المجتمعات المحلية تصنع الفرق”، من أجل تخليد اليوم العالمي لمكافحة الإيدز الذي يصادف الأول من شهر ديسمبر/كانون الأول.

وتسلط منظمة الصحة العالمية هذه السنة الضوء على الأثر الذي تحدثه المجتمعات المحلية في الجهود الرامية إلى القضاء على فيروس نقص المناعة البشري “أتش آي في” (HIV) المسبب للإيدز، مطالبة جميع المتدخلين بالعمل معها على نطاق واسع، من أجل تعزيز الرعاية الصحية الأولية.

وتكمن خطورة فيروس نقص المناعة المكتسبة، في أنه يفقد جسم المصاب مناعته الطبيعية في مقاومة الأمراض، ما يجعله فريسة سهلة لكل أنواع الأمراض الانتهازية الأخرى، ويقدر عدد الحاملين للفيروس حاليا بـ37.9 مليون شخص بحسب منظمة الصحة العالمية، جزء كبير منهم (حوالي 21%) لم يعلموا بعدُ أنهم مصابون بالمرض.

وما زال اسم هذا المرض “الإيدز” أو “السيدا” يبث الرعب والخوف في النفوس، رغم التقدم الكبير الذي أُحرز في مواجهته منذ إعلانه وباء عالميا من طرف الأمم المتحدة عام 1988. وتزيد الصورة المرتبطة بهذا الداء باعتباره من أخطر الأمراض المنتقلة عبر الدم والعلاقات الجنسية غير المحمية ومعاناة المصابين من الوصم والتمييز في المجتمع؛ من صعوبة الوصول إلى المرضى وتوسيع نطاق العلاج، وتمكينهم من اتخاذ خيارات حول الوقاية من الفيروس.

فما هي آخر الأرقام المرتبطة بالحالة الوبائية للإيدز حاليا، وكيف يعاني حاملو الفيروس بسبب نظرة المجتمع تجاههم، وما هي سبل الوقاية من الداء، وهل طرق العلاج المتوفرة حاليا فعالة، وإلى أين وصلت الأبحاث العلمية في هذا المجال؟

انتصار كبير على الإيدز في أولى المعارك

أزهق الإيدز أرواح حوالي 32 مليون شخص منذ ظهوره بحسب آخر أرقام برنامج الأمم المتحدة لتنسيق جهود محاربة الإيدز (unaids)، وما زال المرض رغم كل الجهود المبذولة منذ سنوات يواصل انتشاره، ويقدّر عدد المتعايشين مع المرض بحوالي 38 مليون شخص حول العالم في 2018، توفي منهم خلال السنة نفسها 770 ألف شخص، فيما استطاع 24.5 مليون مريض الولوج إلى العلاج الفيروسي.

وتظهر أرقام برنامج الأمم المتحدة لتنسيق جهود محاربة الإيدز أنه تمت محاصرة المرض جزئيا مقارنة بسنة 1997 التي سجلت أعلى نسبة إصابة في التاريخ، حين وصلت آنذاك حالات الإصابة إلى حوالي 3 ملايين حالة، مما يعني أن الانخفاض وصل إلى 40% مقارنة مع سنة 2018.

ومنذ 2010 تراجعت حالات الإصابة الجديدة بحوالي 16%، كما انخفضت حالات العدوى لدى الأطفال بـ41%. أما حالات الموت بسبب المرض فقد تراجعت بدورها بـ56% مقارنة بعام 2004، السنة التي سجلت أعلى معدل وفيات بسبب الإيدز في التاريخ بـ1.2 مليون وفاة.

وتسجل 95% من حالات العدوى الجديدة بمنطقة أوروبا الشرقية، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحسب برنامج الأمم المتحدة لتنسيق جهود محاربة الإيدز.

لكن هذا التوجه نحو تقليص عدد الإصابات في العالم لم ينعكس على منطقة شرق أوروبا ووسط آسيا التي ارتفعت فيها نسب الإصابة خلال العام 2018 بـ29%، كما سجلت زيادة في عدد حالات الإصابات الجديدة بالفيروس بنسبة 10٪ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

 

الفضيحة.. الصورة الملتصقة بالمرض

تصطدم جميع الجهود التي تبذل من أجل القضاء على هذا المرض بحاجز الصمت، ورفض إجراء اختبار الإيدز لمعرفة الإصابة من عدمها، وذلك بسبب الصورة المرتبطة بهذا الداء المنتقل بصورة كبيرة عبر العلاقات الجنسية، فالمجتمعات المحافظة ترفض الحديث عن المرض، أو حتى ذكره بالاسم، وتتحاشى الانخراط في حملات الكشف عن الداء، وتُدخل ذلك في نطاق المحظورات على اعتبار أن الإصابة تكون نتيجة ممارسات غير مشروعة بالنسبة للمجتمع.

ورغم الجهود المبذولة لرفع هذا التمييز والوصم الذي يعاني منه المرضى، فإن هذا الإشكال ما يزال هو السبب الأساسي لانتشار الفيروس في العديد من الدول السائرة في طريق النمو، ومن بينها الدول العربية.

ويمكن للفيروس أن يبقى في حالة خمول في الجسم دون ظهور أي أعراض جانبية لسنوات، وهي الفترة الأخطر التي يمكن خلالها نقل المرض بسهولة ونشر العدوى دون معرفة ذلك. ومن هنا تكمن أهمية إجراء الكشف، والوصول إلى الفئات الأكثر عرضة للإصابة كممتهنات الجنس، والشواذ ومتعاطي المخدرات بالحقن، لإقناعهم بضرورة استعمال وسائل الوقاية والولوج إلى العلاج بالنسبة للمصابين بالداء.

وبسبب تصنيف المجتمعات المحافظة للإيدز على أنه مرض جنسي موصوم بالعار، يُحجِم أغلب الرجال عن إجراء تحليل الدم للتأكد من الإصابة رغم خوضهم لتجارب جنسية غير محمية، وهذا الوضع أدى إلى نقل العدوى إلى شريكاتهم داخل إطار الزواج الشرعي، وأحيانا إلى أطفالهم الأبرياء دون قصد.

وتقدر بعض الإحصائيات غير الرسمية أن أكثر من 60% من المصابين بالإيدز، لم يكونوا يوما طرفا في علاقة غير شرعية، أو مخالفة لما هو متعارف عليه في مجتمعاتهم.

 

برنامج “90–90–90”.. المعركة الكبرى

حددت الأمم المتحدة عام 2030 هدفا من أجل القضاء على مرض الإيدز بشكل نهائي، وهو هدف طموح جدا، وسيتطلب ذلك جهدا وتعاونا كبيرا، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في رسالته الأخيرة بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الإيدز.

وقبل الوصول إلى 2030، وُضع هدف آخر لا يقل طموحا في أفق السنة المقبلة 2020، سُمّي برنامج “90-90-90″، ويهدف إلى ضمان إجراء الكشف عن العدوى لدى 90% من الأفراد المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة، ثم ضمان حصول 90% من أولئك المصابين بالعدوى على الدواء المضاد للفيروسات القهقرية، ثم يصبح 90% من مستعملي الدواء بانتظام غير ناقلين للمرض، أي أن تصبح حمولتهم الفيروسية غير قابلة للكشف في دمائهم.

ورغم صعوبة تحقيق هدف هذه الحملة في أفق العام المقبل، فإن الأرقام التي كشف عنها برنامج الأمم المتحدة لتنسيق جهود محاربة الإيدز للعام 2018 تبدو مشجعة؛ فالهدف الأول اقترب من التحقق، إذ أن 79% من المرضى أصبحوا على علم بإصابتهم بالمرض، فيما الهدف الثاني المرتبط بالعلاج ما يزال في حدود 62%، أما عدد المتعايشين مع المرض الذين استطاعوا تحجيم حمولتهم الفيروسية فلا يتجاوز %53.

وتعتبر هذه الأرقام تطورا حقيقيا في الحرب من أجل السيطرة على مرض الإيدز، وبفضل الدواء المضاد للفيروسات القهقرية، لم يعد تقريبا نصف المصابين ينقلون المرض.

وقد استطاعت بعض الدول المتقدمة كسويسرا وأستراليا والمملكة المتحدة والدنمارك والسويد وهولندا تحقيق هدف “90-90-90″، لكن الوضع لا يزال صعبا في دول أخرى خصوصا في الدول الثلاثين التي تمثل %89 من جميع الإصابات الجديدة بفيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”، ومن بينهم 18 دولة أفريقية.

 

الدواء الحالي.. وحش نائم لا ميت!

رغم الأبحاث والتجارب المستمرة منذ سنوات على فيروس “نقص المناعة البشري”، لم يستطع العلماء الوصول إلى علاج نهائي يقضى على المرض، بل ظلت المعلومات التي يتم تداولها من حين لآخر عن التوصل إلى علاجات فعالة حبيسة المختبرات إلى حدود الساعة. لكن في المقابل تستطيع العقاقير المضادة للفيروسات القهقرية السيطرة على انتشار فيروس نقص المناعة المكتسبة في جسم الإنسان، إلى درجة عدم القدرة على الكشف عنه في تحليل عينات المصابين.

ولا تقضي هذه العقاقير تماما على الفيروس في مختلف أعضاء الجسم، مثل الأمعاء أو المخ، بل إنه يعود للانتشار حين يتوقف المريض عن تعاطي العلاج، مما يضطره لتناوله مدى الحياة.

وقد تطور هذا الدواء في السنوات الأخيرة بشكل كبير، ليصبح أكثر أمنا وسهولة في الاستعمال، فالمريض يكتفي بجرعة واحدة في اليوم تؤمن له الفاعلية اللازمة، بدلا من الجرعات المتكررة في السابق، التي كانت تسبب أعراضا جانبية مزعجة للمرضى.

ويمكن للمواظبين على العلاج أن يمارسوا حياتهم بشكل طبيعي دون الخوف من نقل العدوى، لأن الفيروس يصبح في حالة شلل تام، وتستطيع النساء المصابات أن تتزوج وتلد وترضع أطفالها دون الخوف من إصابتهم بهذا الفيروس.

 

الوقاية خير من العلاج

يوجد دواء يمنح الوقاية من الإصابة بفيروس الإيدز، أو التقليل من خطر الإصابة به على الأقل، وتتوقف فعالية هذا الدواء على التزام الشخص بتناوله يوميا، فيما يشبه طريقة عمل حبوب منع الحمل.

ويسمى هذا الدواء Prophylaxis Pre-exposure)) ويُعرف اختصارا بـ”PrEP”، وبتناوله يمكن للأشخاص المعرضين للإصابة بالفيروس التقليل من خطر الإصابة به، وهو المعطى الذي أكدته دراسة حديثة بجامعة سان فرانسيسكو الأمريكية. إذ يرى الباحثون بالجامعة أن انتقال فيروس نقص المناعة المكتسبة عن طريق العلاقات الجنسية يمكنه أن ينخفض بمعدل 96% في حالة تناول هذا الدواء على نطاق واسع.

ويمكن أن يلعب هذا الدواء دورا مهما في جهود القضاء على الداء، على اعتبار أن الشفاء منه يبقى أمرا صعبا في الوقت الحالي نظرا إلى التركيبة المعقدة للفيروس.

وقد اكتشف العلماء مؤخرا سلالات من الفيروس حصلت لها طفرات جينية، وهي طفرات تُرجع الأبحاث في كل مرة إلى نقطة الصفر.

 

البداية.. هل تزاوج الإنسان مع القردة؟

منذ أن تم تشخيص أولى حالات الإصابة بالإيدز في الخامس من يونيو/ حزيران 1981، لدى خمسة رجال مثليين في لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأمريكية، وإعلانه بعد ذلك في سنة 1988 وباء عالميا، تناسلت التكهنات والنظريات حول تاريخ هذا المرض.

ولم تخلُ هذه التكهنات من نظرية المؤامرة، وبعض التفسيرات المختلفة، التي ربط بعضها أصل الفيروس بالقردة والسعادين وخصوصا فصيلة “منجبي أسخم” في غرب أفريقيا.

وبفضل علم الجينات فقد توصل العلماء إلى تأكيد هذا المعطى، بالنظر إلى التماثل الكبير بين مرض نقص المناعة القردية “SIV”، والفيروس المسبب للإيدز “HIV”، لكن كيفية انتقاله إلى البشر ظلت لغزا محيّرا، مع استبعاد علماء قصة تزاوج القردة مع الإنسان المنتشرة بين بعض الناس.

ويعتقد العديد من الباحثين في تاريخ هذا المرض أن الإصابة حدثت عن طريق اتصال مباشر بين دم أو سوائل هذه القردة مع البشر، نتيجة العادات المنتشرة لدى بعض قبائل غرب أفريقيا الذي كانوا يربون قردة “منجبي أسخم” كحيوانات أليفة، ومصدر للحوم.

تم تشخيص أولى حالات الإصابة بالإيدز في الخامس من يونيو/ حزيران 1981

شباب هايتي.. سفينة النقل بين ضفتي الأطلسي

وفي سنة 2014 استطاع باحثون في جامعة أكسفورد البريطانية تحديد ما يمكن اعتباره “شجرة عائلة” لفيروس نقص المناعة البشري، وحددوا عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية “كينشاسا” كمنشأ أصلي للانتشار الوبائي للفيروس خلال عشرينيات القرن الماضي، وكانت هذه المدينة آنذاك تسمى “ليوبولدفيل” عندما كانت الكونغو الديمقراطية مستعمرة بلجيكية.

وتميزت هذه المدينة في تلك الفترة بكونها مقصدا جذابا للشباب من الطبقة العاملة القادمة من الدول الناطقة بالفرنسية مثل هايتي، وهم الذين ساهموا في نقل المرض فيما بعدُ إلى الجانب الغربي من المحيط الأطلسي، ليصل في سبعينيات القرن العشرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استفاد هناك من موجة التحرر الجنسي وتعاطي المخدرات عبر الحقن خصوصا في نيويورك وولاية كاليفورنيا حيث تجتمع مختلف الجنسيات والأعراق.