“البحث عن وليد مسعود”.. نكهة غربية في أشهر روايات الشتات الفلسطيني

“صمّمتُ على أن أرفع رأسي وأستنشق الهواء الفلسطيني القرير الرطب ملء رئتَيّ، وسرت للحظتين منتصبا بطول قامتي، غير مهتم بأزيز الرصاص، ساخرا من احتمال إصابتي، كأنني بعد تلك التجربة حظيتُ بحصانة سحرية ضد رصاص الأعداء جميعا”.

 

اختفت آثار وليد مسعود بين بغداد وفلسطين، ولكنّ القرّاء والنقاد والباحثين ما زالوا يبحثون عنه حتى اليوم، هل كانت مجرد قضية غابت في خضمّ تزاحم القضايا الصغرى؟ أم هو الشتات الفلسطيني الذي ما زال يبحث عن طريق العودة؟ أم هو الكاتب الذي قضى قبل أن يملأ صدرَه بهواء فلسطين؟

هذه التساؤلات كانت مدار بحث النقاد في هذه الحلقة من برنامج “خارج النص” الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية.

“ثورة في عالم الرواية العربية”.. نص يخترق جدار الممنوعات

شكّلت القضية الفلسطينية محفزا هاما في المخيال العربي، فاندفعت أقلام الأدباء العرب لتبوح عن حق العودة والمقاومة مع الحياة، وكأنهم يكتبون عن أنفسهم، لكن القلم الفلسطيني كان المعنيّ الأكبر، وهكذا كان جبرا إبراهيم جبرا الذي تشعب في الفنون والآداب قبل أن يصدر روايته “البحث عن وليد مسعود” في 1978، باحثا عن الوطن والإنسان.

قال عنها الشاعر الفلسطيني راسم المدهون: رواية مفصلية في الأدب الفلسطيني، مثل رواية كنفاني “رجال في الشمس”، لكن جبرا لم يتحدث انطلاقا من المكان الفلسطيني، بل من حالة شتات ثم غياب.

أما الناقد إبراهيم السعافين فوصف بطل الرواية قائلا: وليد مسعود هو الشتات، فنجد كثيرا من أبناء فلسطين ينجحون، ولكنهم يشعرون في النهاية أنهم ليسوا على الأرض الحقيقية التي ينبغي أن يكونوا عليها.

الأديب والرسام الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا صاحب الرواية الشهيرة “البحث عن وليد مسعود”

أما عن المدرسة التي تنتمي إليها الرواية فيقول الكاتب سامر رضوان: خصوصية هذه الرواية أنها أسست لفهم جديد لآليات الفَصّ، وللبناء الحديث الذي يرتبط بالبيئة المعاشة، والأسئلة الكبرى للقضية، لكنها تلبس لبوسا حديثا استعير من مدارس غربية.

وقالت عنها الكاتبة الأردنية بسمة النسور: ثورة في عالم الرواية العربية، حرة بالمطلق تجاوز فيها الممنوعات، ورغم حداثتها فإنها تصنف من كلاسيكيات الأدب العربي، وقد أثرت في جيل بأكمله.

ولم تسلم الرواية من النقد، فقد قال عنها سمير عطية، مدير بيت فلسطين للشعر وثقافة العودة: عندما نتكلم عن رواية تقدم نفسها باسم الأدب الفلسطيني والحديث عن مناضل، ثم يأخذنا باتجاهات أخرى غريبة عن بيئة القضية الأساسية، فهنالك إشكالية.

قضية الوطن المتوارثة بين الأجيال.. ثلاثية الزمان

“العودة ليست كالقدوم، النزول شاق والصعود أشق، ولكن ذهني صافٍ أن أدخل فلسطين مقاتلا، سأروي التفاصيل لأبي حالما أصل إلى القاعدة، سأرسل إليه خبرا في بغداد”.

تجسد الرواية صراعا يظهر في المغترب المثقف، وتشتته عن مجتمعه وهويته، ويظهر الصراع الداخلي للبطل من خلال المواءمة بين حياته ورومانسيته وقضيته النضالية، فبدت ثلاثية الحب والمقاومة والحياة كأنها المؤشر لقدرة الفلسطيني على الاستمرارية، فهل استطاع جبرا أن يشكل من وليد مسعود وابنه مروان ووالده فرحان ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل؟

اعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية رواية “البحث عن وليد مسعود” رواية نضالية فجعلتها واحدة من مطبوعاتها

يرى الناقد إبراهيم السعافين أن وليد مسعود قدّم صورة للمقاومة حسب رؤيته، منذ العهد العثماني مرورا بالاحتلال الإنجليزي إلى زمن الصهاينة، بينما يقول الشاعر راسم المدهون: إنَّ وليد محصلة تجارب أبيه ومن قبله، وجزء من المجتمع الفلسطيني الأصيل، فهو فقير ويعمل ويتعلم ويكره عدوه، مما جعل القارئ يحس بالتواصل مع الأجيال الفلسطينية المتعاقبة.

ويرى سمير عطية -مدير بيت فلسطين للشعر وثقافة العودة- أن اللغة والحبكات الروائية والتناقضات السياسية التي صبغت الرواية تعتبر جرأة وتجديدا من قبل الكاتب، ولكن هنالك جرأة سلبية كذلك، ففي فترة إطلاق الرواية كان القارئ الفلسطيني يتشوَّف إلى روح المقاومة وأزيز الرصاص في الرواية، ولكنه وجد جوا فلسفيا غريبا عليه.

من العاشق الماجن إلى الفدائي المقاوم.. البطل الأسطورة

قامت البنية الأساسية للرواية على فكرة “البطل الأسطورة” الذي يختفي من حياة صاخبة ناجحة عاشقة، ليحقق عودته الشخصية نحو فلسطين ربما. فيرى النقاد أن جبرا تعملق في “أسطرة” الشخصية ليبرز حجم القضية الفلسطينية في الوجدان العربي، خاصة بعد رحيل وليد تاركا وراءه الصخب والجدل. ويرى آخرون أن جبرا بالغ في ذلك، في وقت كان القارئ فيه أكثر اهتماما بقضية النضال.

ويقول الكاتب سامر رضوان: القضية الفلسطينية بحاجة إلى أبطال، ولا يمكن خلق ذلك الوجدان الشعبي إلا من خلال أولئك الأبطال، ولذا بالغ الكاتب في شخصية مسعود، ليس فقط في جانبه الحياتي، بل الفكري كذلك، حتى لتخال وليد مسعود بمثابة “ميشيل فوكو” وهو ينظّر عن القضية، أو “سارتر” في وجوديته.

البطل الأسطورة “وليد مسعود”.. من العاشق الماجن إلى الفدائي المقاوم

أما الكاتبة الأردنية بسمة النسور فتقول: لم تكن المبالغة في تصوير شخصية البطل، بقدر ما كان الكاتب جبرا يرصد مرحلة تاريخية سياسية فيها الكثير من التحولات الجذرية التي واكبت القضية منذ نكبة 48 وهزيمة 67 ويوميات المعاناة الفلسطينية.

ويقول سمير عطية: فاجأنا الكاتب جبرا عندما تحوَّل بالبطل من تلك الشخصية الماجنة إلى شخصية البطل المناضل، وربما يكون ابنه مروان هو ذلك النموذج الذي يبحث عنه القارئ، ويرى فيه أيقونة النضال في الأدب الفلسطيني.

“أركّب شخصيات أعرفها على شخصيات رواياتي”

“عيناه الجميلتان كانتا عيني أبيه، ولكن مع بريق أشد، وقسوة لم تعرفها عينا وليد، أردت أن أتخيل أنني أرى وليدا في ذلك الزيّ الخاكي المرقش، وتحت تلك الحطة الفدائية، وهو يحمل الكلاشنكوف، ولكنني لم أر إلا مروان نفسه”.

“هل تعدني بأن لا تكبر؟ بأن لا تشيخ؟ وأنا أعدك بأن أبقى كما تراني الآن، واسعة العينين كبيرة الفم، وجسدك كالحشيش الأخضر أتمرغ فيه كما حلمت بك، وأنا أسمع الموسيقى في بهو المدرسة”.

هل كان جبرا يحكي سيرته من خلال الرواية؟ يجيب سامر رضوان: كل روائي يحمل شيئا من روايته رغم رمزيتها، فالروائي هو حزمة ذوات، لذا ستجد بعضا من جوانب وليد مسعود في جبرا، لكن بدون تطابق كامل.

أما الناقد إبراهيم السعافين فيقول: ليس في الرواية شخصية تتطابق تماما مع الكاتب، وقد سألتُ جبرا يوما فقال: أنا في الحقيقة أركّب شخصيات أعرفها على شخصيات رواياتي.

لغز الرسالة الصوتية.. هروب ذكي من قيود التوثيق

كانت الرسالة الصوتية التي تركها وليد مسعود في السيارة على الطريق المتجه من بغداد إلى فلسطين تقنية جديدة في الرواية العربية، أراد منها جبرا أن تكون أحجية للقراء لفك ألغازها، فقد كتب نصا مفتوحا مليئا بالصور الشعرية والذكريات في تواتر شفهي يتزايد كلما ازداد الشغف لمعرفة مصير وليد.

يرى سمير عطية أن جبرا قد وضع لغما فكريا وعاطفيا في بداية الرواية، من خلال التسجيل الذي تركه لأصدقائه.

الرسالة الصوتية التي تركها وليد مسعود في السيارة على الطريق إلى فلسطين كانت تقنية جديدة في الرواية العربية

أما الشاعر راسم المدهون فرأى أن الكاتب كان يهرب بطريقة ذكية من فكرة التوثيق، لأنه يريد أن تكون رواية في رواية، أكثر من كونها وثيقة نقلها فلان عن وليد.

وتجد الكاتبة بسمة النسور أن الكاتب عندما استخدم فقرة التسجيل كانت يحاول الكشف المنفلت من أي معيار، وبالتالي لم يهتم كثيرا بالفواصل والشكليات.

بكائيات جبرا وتراجيديات شكسبير.. ظلال الأدب الغربي

حرص جبرا في روايته أن يكتب تراجيدية الفلسطيني المرتبط بالعالم، وليس فقط بالجغرافية العربية، فاستطاع تفادي الكثير من مآزق الرواية العربية، إلا أنه لم يستطع تفادي الزخم الشكسبيري والقُطَب المخفية في التراجيديات الكبرى التي عمل على نقلها من الإنجليزية إلى العربية، حيث كان يترك الباب مفتوحا لتأويل القارئ، فلا نهايات حاسمة إلا ما يريد القارئ.

يقول الشاعر راسم المدهون: حملت الرواية كثيرا من بصمات “شكسبير”، ولو كان لي أن أقارن من بعيد فسأشبهها بـ”هاملت”.

تأثر جبرا إبراهيم جبرا في روايته “البحث عن وليد مسعود” بشكسبير وفوكنر

وتقول بسمة النسور: هي رواية حداثية، والقارئ يحس بتأثرها بالأدب الغربي وخصوصا “الصخب والعنف” لـ”فوكنر”، فجبرا هو مترجم الرواية.

لكن سامر رضوان كان له رأي آخر، فقال: أكثر أعمال جبرا تصطبغ بالتراجيدية والبكائيات، و”شكسبير” كذلك، ولكنْ هل كان جبرا متأثرا به في ذلك؟ بل إن رحلة حياته هي تراجيدية بحد ذاتها، وليس من تجلياتها الفرح.

ويثني الكاتب سمير عطية على استحضار “شكسبير” في الرواية ومقارنته بالمتنبي، وتوظيفه بشكل سليم لوصال شهد التي يريد أن يتحفها الشاعران لو كان أحدهما زوجا لها، وسيهديها أجمل ما وصل إليه من أدب ولغة.

“ولكن شكسبير هو أخو المتنبي، وكلاهما رب الكلمات، إنه في الواقع يريد من هاملت أن يصرخ في جه ببغاوات الدنيا، كلمات.. كلمات.. كلمات، أروع ما وهب الله الإنسان. تصوري لو أن رجلا مثل المتنبي أحبك، فما الذي كان سيقول؟ والكلمات ملء فمه، ملء يديه، ينقيها ويصقلها”.

نساء جبرا.. مبالغات الكاتب المنحاز لثقافته الغربية

أثارت صورة المرأة في نصوص جبرا كثيرا من الجدل، وظهر هذا جليا في رواية “البحث عن وليد مسعود”، مما وجّه الانتقاد لجبرا نفسه، لجهة أن صورة المرأة حملت كثيرا من المبالغات العاطفية والغرائزية، وأن المرأة الفلسطينية كانت غائبة في أعماله، لكن بعض النقاد دافعوا عن جبرا بحجة أن المرأة ترمز للأرض، والأرض محتلة وغائبة. أما النساء اللاتي وردْن في أعماله فهنّ حقيقيات.

وقد شنّ الأستاذ سمير عطية نقدا لاذعا، إذ يضع عدد من الأدباء قضية النساء بشكل مبتذل مثل الطُعم لاصطياد القارئ، وللأسف استخدم هذا في رواية جبرا كثيرا، وكان بإمكان الكاتب أن يتجاوزه إلى أبعاد وتفصيلات أنفع للقضية التي يناضل من أجلها.

لماذا غابت المرأة الفلسطينية في أعمال جبرا، هل لأنها في نظره ترمز للأرض، والأرض محتلة وغائبة؟

لكن بسمة النسور ترى أن المرأة ظهرت حرة ومثقفة ولديها خيال، وليست متعة جنسية فقط. وقال سامر رضوان: أراد جبرا أن يتجاوز المحظور السائد، فقد كانت الكتابات مؤطّرة بمحظورات أراد هو أن يتجاوزها ويقول إنه قادم من ثقافة أخرى ومدرسة نقدية أخرى.

لم تكن المرأة مثار الجدل الوحيد، بل أُخذ على الكاتب تأثره بالثقافة الغربية التي عايشها أثناء الدراسة، وخلق في الرواية صورا لا تنطبق على المجتمع البغدادي الذي انطلقت منه شخصيات الرواية، ويرى آخرون أن جبرا -مثل غيره من أدباء فلسطين- أراد أن يخلق مجتمعا أشد ثراءً، أو ربما أكثر قربا لفلسطينه التي تخيلها.

ويبرر الشاعر راسم المدهون أن الكاتب كان تلقائيا في الكتابة بحسب بيئته التي جاء منها، ونجح إلى حد ما في جعل القارئ يتقبل هذا اللون من الكتابة.

“لا يهم إذا كان وليد اغتيل أو استشهد”.. خاتمة مفتوحة

لم يقدم الكاتب في نهاية الرواية إجابات حاسمة عما حصل لوليد مسعود، فربما لم يكن مصير الشخصية مهما بقدر ما كان يعنيه ترك كل شيء والعودة، لكن هذا الاختفاء قد يطرح تساؤلات حول ربط الرواية بخيارات فلسطينيي الشتات، ممن أصبحوا كأصدقاء وليد مسعود يحاولون اكتشاف سره، لكنهم في بحثهم هذا يكتشفون أنفسهم من جديد، ويدركون أن الرواية تنتهي من حيث بدأت.

يعلق الناقد إبراهيم السعافين على خاتمة الرواية بقوله: العمل الحقيقي هو العودة، لا يهم إذا كان وليد اغتيل أو استشهد.

توفي جبرا إبراهيم جبرا في بغداد سنة 1994 ودفن فيها

ويرى راسم المدهون أن عنوان الرواية يمثل حالة الضعف الذي انتاب العمل الوطني الفلسطيني في منتصف السبعينيات، ولكن على الرغم من غياب البطل فهو حاضر في محيطه العربي والفلسطيني.

ويتساءل الكاتب سامر رضوان قائلا: قد تضيع الوصية مثلما ضاع صاحبها، هل سيعود وليد؟ وهل ستعود فلسطين؟ أو هل ستبقى قضيةٌ أصلا؟

“وهل كان وليد إلا حاصل حياته وحاصل المحيطين به؟ حاصل زماننا الخاص وزماننا العام في وقت واحد؟ وأي زمان كان كلاهما زمانه وزماننا، فلْـأعد إلى الغابة ولْـأعد إلى البحر”.