“الحج من الصين”.. رحلة الشوق والحنين والإيمان

“زيان” مدينة قديمة تقع في مقاطعة شانك سي في الصين، وكانت مقراً لجيش تيراكوتا ومركز حضارة الصين إبان حكم سلالة تانغ، ويقطنها اليوم نحو ستين ألف مسلم، فهي تتميز بتاريخ إسلامي طويل يعود لـ1300 سنة خلت.

زيان.. حاضرة الإسلام العتيقة

تُعد المدينة معلماً رئيسياً إبان حقبة طريق الحرير، فمنها المبتدأ وإليها المنتهى في كافة أعمال التجارة آنذاك، وما زالت بعض أسواقها القديمة وأزقتها الضيقة وطرق المساومة في دكاكينها تذكرك بالشبه الكبير بينها وبين أسواق مدينة حلب أو مدن طريق الحرير الأخرى عبر آسيا الصغرى وشرق آسيا.

تنسب بعض المصادر وصول الإسلام إلى الصين للصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سنة 650 للميلاد، ويعود أصل مسلمي زيان إلى أقلية من أصل صيني تدعى جماعة “هوي”، وهم يفاخرون بوجود أقدم وأكبر مساجد الصين في مدينتهم، وهو المسجد الذي بناه الإمبراطور في ذلك الزمان وقدمه هدية للخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

لدى دخولك هذا المسجد تحس بأنك سافرت عبر الزمان 1300 عاماً إلى الوراء، وعندما ترى البناء المرتفع في وسطه والذي يسمى جناح العنقاء تحس بأنك قد غادرت إلى عالم الخيال والأساطير.

هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية بعنوان “رحلة الحج من الصين”، يطوي الأيام سريعاً ولا يغادر مدينة زيان التي ابتدأ منها، فهو فيلم يسجل دقائق التفاصيل لمدينة زيان وأهلها وهم يستعدون لأداء الحج، وحين يستقبلون حجيجهم عند عودتهم سالمين.

الشيخ الإمام.. وتَرِكةُ الأيام

مايي بينغ، إمام المسجد الكبير في زيان، واسمه بالعربية يحيى صالح، درس في المدينة المنورة في بداية التسعينيات، وهو يتقن اللغة العربية بطلاقة، ويُعد أحد أشهر الأئمة في المدينة، ويسمى بمعلم الحج، حيث سبق له الحج خمس مرات قبل ذلك.

مايي بينغ، إمام المسجد الكبير في زيان، واسمه بالعربية يحيى صالح

مايي يبلغ من العمر الآن 46 عاماً، وهو يتقن الخط العربي ويضفي عليه تلك المسحة الجمالية الساحرة من الرسم الصيني، ويبيع لوحاته المميزة للزبائن من جميع الجنسيات.

يقول مايي عن نفسه إنه الابن الوحيد لعائلة مسلمة متدينة، لفت نظره رسم القرآن مذ كان طفلاً، ولكن ندرة الكتب الإسلامية قبل فترة الانفتاح الثقافي في منتصف الثمانينيات حالت بينه وبين تنمية مواهبه في الخط، ولكنه بقي يحاول حتى أتيحت له فرصة طلب العلم في المدينة المنورة وهناك انطلقت إبداعاته.

يصف مايي تلك الحقبة المعتمة من تاريخ الصين الثقافي بأنها أضرت بكل الأديان والثقافات ضرراً بالغاً، وبخاصة الثقافة الإسلامية، وأن “عصابة الأربعة” بقيادة زوجة ماو تسي تونغ كانت قد دمرت ما يقرب من 29 ألف مسجد في الصين منذ العام 1966، وأعدمت آلاف المؤمنين، وكانت تمنع الأطفال من ارتياد المساجد، ولذلك كان والده يضطر لإرساله إلى بيت إمام المسجد لتعلم القرآن الكريم والآداب الإسلامية.

يحمل مايي على عاتقه همَّ تبليغ دعوة الله والترويج للإسلام وتعليم آدابه لمسلمي زيان، ويرى أنها “فرصة عظيمة أن يشرفني الله بحمل هذه الأمانة وتبليغها للناس”. ويتحمل مايي بشكل خاص مسؤولية تعليم مناسك الحج لأبناء مدينته، ويرافقهم طوال الرحلة لأداء هذه الفريضة على الوجه الذي يرضي الله سبحانه.

الحنين إلى الحج … رغم سِنيِّ الانتظار

جيا وانغ بي وزوجته ينويان الحج لأول مرة، إنهما في الستينيات من عمرهما، وقد ادخرا ما يكفي من المال للقيام بهذه الرحلة المقدسة أخيراً.

يقول ابنهما جيا رن بينغ “والدي كتب القرآن مترجماً للغة الصينية بخط يده خلال عام كامل، ويستعد الآن لكتابة النسخة الثانية، ويقول إنه فخور باستخدام فرشاة الخط التقليدية الصينية التي يرجع تاريخها إلى آلاف السنين في كتابة أعظم الكتب وأجلِّها على وجه الأرض”.

المسجدالكبير في مدينة زيان الصينية

ويتابع وهو يشير إلى نسخة من القرآن مخطوطة باللغة العربية منذ أربعمئة عام، “إنها كنز ثمين تفخر العائلة كلها باقتنائه، إنها إرث حضاري لا يقدر بثمن، وكلنا فخر واعتزاز ونحن نورثه لأجيالنا القادمة ونحثهم على المحافظة عليه وتوريثه لمن بعدهم”.

ويقول والده وانغ بي “أنوي الحج هذا العام بعد أن ادخرت أنا وزوجتي المال اللازم خلال ست سنوات خلت، الحج كان حلمي وحلم أبَوَيَّ من قبل، ولكنهما توفيا قبل أن يحققا هذا الحلم، وها أنا سأحج هذا العام إرضاءً لربي وتحقيقاً لحلمي وحلم والدي من قبل”.

ورغم معاناته مع آلام في الظهر ومشاكل صحية أخرى فإنه يصر هو وزوجته على أداء هذه الفريضة العظيمة، حتى لو لم يتمكن ابنهما الشاب من مرافقتهما للمساعدة.

يقوم الزوجان “جيا” الآن بتحضير كل ما يلزم لهذه الرحلة الطويلة، إنهما يستعدان نفسياً وجسدياً وبدقة متناهية، لقد حضرا ما يكفي من الدروس التثقيفية لكل مناسك الحج بالتفصيل، وها هما لا يتركان شاردة ولا واردة تمرّ دون ترتيب مفصل، حتى النظارات الشمسية التي اشتراها جيا خصيصاً لهذه الرحلة.

يقول إن الشمس الحارقة ودرجة الحرارة التي تتجاوز 40 درجة مئوية في مكة قد تسبب ضرراً لعينيه، ولذلك سيرتدي هذه النظارات هناك، وزوجته كذلك تحرص على أن تأخذ ما يلزم من الأدوية والمراهم التي تحفظ جسديهما من أشعة الشمس.

وتقول إنها منذ شهرين وهي تستعد لهذه الرحلة العظيمة، ولم تترك أختاً ولا صديقة سبقتها إلى الحج إلا وسألتها عما يلزمها اصطحابه، وهي تستمع لهن باهتمام وتحضر كل ما قلن لها عنه من الضروريات، إنها الآن في سعادة وشوق بالغين لهذه الرحلة ولا يشغل فكرها أي شيء آخر سوى انتظار يوم السفر الموعود.

دعاء ودموع في وداع الحجيج

سيكون السيد جيا وزوجته ضمن قافلة من الحجاج يبلغ عددها 251 فرداً، لم يتلق أحدهم قط معونة من الدولة لهذه الغاية، فالصين لا تتولى الإنفاق على رحلة الحج للمسلمين، وكل منهم يجب أن يتدبر أمره بنفسه، ومن هؤلاء السيد جيا هونغ مالك مطعم للأرز المقلي، فسيذهب للحج هذه السنة لأول مرة، ولكن زوجته لن ترافقه للحج كونها أنجبت له طفلة للتو.

تتميز زيان بتاريخ إسلامي طويل يعود لـ1300 سنة خلت

يقول إنه مستعد لكل شيء وقد قام بتحضير ما يلزم لهذه الرحلة، وقام بتأمين حاجيات أهله التي تلزمهم خلال غيابه، وترك إدارة مطعمه لأخيه الذي سيشرف على العمل فيه طيلة فترة الرحلة.

لا يشغل بال السيد هونغ إلا طفلته الصغيرة، لقد أصابتها الحمى في الأيام الأخيرة وهو قلق بشأن حالتها الصحية، ولكنه يكل أمرها بثقة وإيمان بالغين إلى الله القادر على شفائها.

ويقول إنه ليس مهتماً بشأن صحته هو، فإن الواجب الذي سيقوم به تجاه الله هو أرفع شأناً وأعلى منزلة من التفكير بشخصه، ويتابع “أذهب للحج لزيادة إيماني بالله، وإذا زاد الإيمان فقد هان كل شيء دون ذلك”.

يستعرض هونغ حقيبته الصغيرة، ويشكر زوجته التي قامت بتحضير كل ما يلزمه للرحلة حتى أدق الأشياء، فمن لباس الإحرام إلى سجادة الصلاة إلى بعض الفواكه والخضار التي تلزمه في رحلة القطار إلى بكين، وقد حرص على أن يضع أهم حاجياته في حقيبة الظهر الصغيرة، حتى إذا فقدت الحقيبة الكبيرة لا يتشتت تركيزه عن العمل العظيم الذي جاء من أجله.

وبالعودة إلى منزل السيد وانغ بي نجد أن أخته قد أعدت مائدة ضخمة لكل معارفه وأصدقائه وأقربائه، وها هم يجتمعون الآن لتناول الطعام والدعاء له ولزوجته بالتوفيق في الرحلة، ويطلبون منهما الدعاء والبركة.

هناك في الطابق العلوي من المنزل وفي غرفة صغيرة كانت ابنة جيا الصغيرة المدللة تعزل نفسها عن الحضور وتبكي، لا تتخيل أن تعيش يوماً واحداً دون والديها، والجميع الآن يحاول مواساتها، حتى الإمام مايي الذي حضر للدعاء والوداع أيضاً.

مشهد الوداع مؤثر جداً، الجميع يبكون، والإمام يحاول تهدئة الوضع المشحون بالعبرات والنشيج، ويدعوهم إلى الترديد من ورائه في أذكار وأدعية جماعية حتى يربطهم بالله كي تنزل الطمأنينة والسكينة في قلوبهم.

في استقبال الحجاج، يوضع الشاي في الشوارع ليشربه الناس ابتهاجا بمقدمهم

وتتكرر نفس المشاهد والدموع والطقوس في كل منازل الحجاج الذين يستعدون للرحيل. وفي منزل هونغ كذلك، حيث طلب منه أصدقاؤه أن يقوم بتأدية عمرة نافلة بالنيابة عنهم جميعاً.

يحتشد الآلاف في المحطة المركزية انتظاراً للقطارات التي تقلهم إلى باقي مدن الصين، وبينهم الحجاج الذين ينتظرون قطار بكين، هنالك ينتظرهم يوم شاق وطويل، بينما تبذل سلطات المحطة جهوداً مضاعفة واستثنائية لتنظيم جموع المسافرين.

لحظات الوداع على رصيف المحطة لا توصف بالكلمات، وحدها كاميرا المخرج وهي تتنقل بين الوجوه وتلتقط العبرات وتسجل الآهات؛ هي فقط التي يمكن أن تنقل إلى ذهن المشاهد عظمة اللحظة وأنين الفراق. وعندما تبدأ عجلات القطار في الحركة على سكة الحديد يتيقن الجميع من لحظة الفراق، وتستدير الوجوه إلى الأفق البعيد تنتظر لقاءً آخر بعد شهر من الزمان.

وبينما يؤدي الحجاج مناسكهم على بعد آلاف الأميال، فإن الحياة تعود رتيبة بطيئة هنا في أسواق زيان وبين عائلات الحجاج، عيونهم معلقة بشاشات التلفاز يتابعون عبرها يوميات الحجاج، ويُمنّون أنفسهم بأن يكونوا هناك في السنوات القادمة، وبينما تمر الأيام طويلةً مملة، يزداد أملهم بقرب اللقاء.

ابتهاج بعودة الحجاج

في اليوم الموعود، وحين تستقبل نفس الجموع التي وَدَّعت حجاجَها، يعلو وجوههم البشر والفرح، وتزدان المدينة بثياب البهجة والسرور، وتعلو منازلها لافتات الترحيب، وتعج طرقاتها وأزقتها بما لذ وطاب من موائد الشاي والحلويات والفواكه. إنها طقوس خاصة تحرص مدينة زيان على القيام بها في كل عام عندما تستقبل حجاجها.

أصل مسلمي زيان يعود إلى أقلية من أصل صيني تدعى جماعة “هوي”

يؤكد هونغ أنه لن يعود كما كان قبل الحج، لقد ازداد إيمانه، واستشعر عظم المسؤولية الملقاة على كاهله في أن يكون مسلماً صالحاً في نفسه، محباً لمجتمعه ومساعداً لكل من يحتاجه. إنه يتمنى أن يعود مرة أخرى إلى الديار المقدسة برفقة زوجته في العام القادم.

ومثل هونغ باقي الحجاج، بعضم صلى باتجاه الكعبة أكثر من خمسين أو ستين عاماً ولم يشاهدها قط، وها هو اليوم يراها عياناً ليس بينه وبينها حجاب، إنه مشهد يحير الألباب ويذهب بالأبصار.

لم تسعف الكلمات الحاج جيا، فانعقد لسانه وسبقته دموعه وهو يحاول أن يحكي لنا لحظة رؤيته للكعبة. وبينما هو يستعرض مع باقي أفراد عائلته الصور التي التقطها أثناء تأدية المناسك، ويشرح لهم يوميات الحاج هناك، كان وجهه الطلق وقلبه الرقيق يلهجان بالثناء والحمد لله العظيم أن وفقه لأداء هذا الركن الخامس من أركان الإسلام.

ثم تستفيق زيان على يوم آخر مليء بالعمل، ومفعم بالأمل بغدٍ أفضل، وتبيت تحلم بالحج مرة أخرى.