“الحرب القذرة”.. رواية مغايرة للعشرية السوداء من داخل الجيش الجزائري

حسن العدم

“أنا حبيب سويدية، ضابط سابق في القوات الخاصة للجيش الجزائري، هذا الكتاب شهادة لإرضاء ضميري حتى لا يسجل أنني شاركت في جرائم ضد البشرية”.

هكذا يقدم مؤلف كتاب “الحرب القذرة” نفسه في كتابه الذي تناول فيه حقيقة أحداث “العشرية السوداء” التي شارك فيها وشهد عليها حين كان ضابطا في الجيش الجزائري، وذلك إبان تلك الحقبة المحورية التي يشوبها كثير من اللغط والاختلاف في وجهات النظر حول ما حدث.

وقد نال الكتاب كثيرا من الاهتمام في الأوساط الثقافية والسياسية والأمنية الجزائرية حين صدوره في فرنسا، وأقيمت محاكمة عسكرية انتهت بالإعدام لكاتبه. ثم أعدت عنه حلقة مهمة في برنامج “خارج النص” الذي تبثه قناة الجزيرة الفضائية.

 

“الإسلاميون يريدون الذهاب إلى الجنة، لنأخذهم إليها بسرعة”

التحق مؤلف الكتاب حبيب سويدية بفرقة لمكافحة الإرهاب لمدة ثلاث سنوات، وشاهد بعينيه الجرائم التي يتعرض لها المواطنون الجزائريون من قتل واختطاف واغتصاب، لكنه لم يتمكن من الصمت كي لا يصبح شريكا في الجريمة، فترك الخدمة وحوكم عسكريا وسجن في سجن بليدة العسكري، ثم خرج من السجن وتمكن من الهرب إلى فرنسا، وكتب الكتاب في 8 إلى 10 أشهر.

يقول المؤلف: رأيت عساكر أعرفهم يحرقون طفلا وهو حي، وآخرين يذبحون قرويين وينسبون الفعل للإرهابيين، وضباطا كبارا برتبة عقيد وما فوق يقتلون مدنيين بدم بارد لمجرد الاشتباه بهم، ورأيت ضباطا يعذّبون إسلاميين حتى الموت، فلم أستطع السكوت، وقررت أن أكسر حاجز الصمت.

ويضيف: لقد قالها ضابط جزائري: “هناك إسلاميون يريدون الذهاب إلى الجنة، هيا لنأخذهم إليها بسرعة، لا أريد أسرى أو معتقلين، اقتلوهم بسرعة”.

لقد كانت أهداف العسكر واضحة: “يجب أن تضغطوا على جبهة الإنقاذ لتحملوهم إلى العنف وحمل السلاح، وهنا يصبح المبرر كافيا للتخلص منهم جميعا بحجة التطرف والإرهاب”.

اندلعت أحداث العنف الأهلية في الجزائر التي وسمت باسم “العشرية السوداء” عام 1992 بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخابات تعددية في البلاد منذ استقلالها عام 1962، وفي تلك اللحظة فقد الحزب الواحد الحاكم أهليته لقيادة البلاد مجددا، وأجبر العسكر الرئيس الشاذلي بن جديد على الاستقالة، ودخلت البلاد في نفق مظلم استمر عقدا من الزمان.

فوز جبهة الإنقاذ بالإنتخابات الجزائرية عام 1992 أقض مضاجع فرنسا والغرب، فتولى العسكر المهمة، وكانت المجازر

 

جبهة الإنقاذ والعسكر.. حوار النار بين الضحية والجلاد

يقول “ريفوار”، وهو صحفي تحقيقات فرنسي: شهد عام 1993 اغتيالات بالجملة لعدد كبير من الصحفيين والمثقفين، وكان يشاع رسميا أن الإسلاميين هم من قاموا بهذه الاغتيالات، وقد تحققت بنفسي من عدة حالات، ووجدت أن الاستخبارات هي من قام بهذه التصفيات، بهدف إرهاب الصحافة.

ويعلق الحقوقي وخبير القانون الدولي سعد جبار قائلا: كانت حرباً قذرة بمعنى الكلمة، وقد ذهب ضحيتها 200 ألف على الأقل، إضافة إلى عشرات آلاف المفقودين الذين لا يعرف مصيرهم حتى الآن.

يقول المؤلف: كان هناك تساؤل: هل يجب قتل ثلاثة ملايين جزائري؟ وكان الجواب من قبل العسكر واضحا: نعم، يجب تصفية كل من صوَّت لصالح جبهة الإنقاذ، وهذه الفكرة أثارت غضبي، وعمليات القتل العشوائي التي مارستُها في دوار الزعترية جعلتني أدرك مدى سذاجتي.

قبل هذا الكتاب كان هناك خلاف حاد في الجزائر “من يقتل من؟”، فالجيش والمخابرات يتهمون الإسلاميين الإرهابيين بالقتل، بينما كان الإسلاميون يتهمون الجيش بقتل المدنيين من أجل إلصاق التهمة بهم.

يقول المؤلف: كنت أؤمن إيمانا عميقا بالجيش الجزائري، وكانت لدي عقيدة راسخة أن هذا الجيش هو السليل الشريف لجيش التحرير الوطني الذي خلص الجزائر من الاستعمار، ثم بدا لي فيما بعد أن الجزائر لا تملك جيشا، بل الجيش هو الذي يملك الجزائر.

ويرد عليه أنور مالك، وهو ضابط سابق بقوله: العلاقة بين الجيش والجزائر هي علاقة تكاملية، فلا جزائر بدون جيش، ولا جيش بدون جزائر، أما حالة الفساد المستشرية في الجيش، فهذا شأن آخر.

بوتفليقة.. يقترح خطة الوئام المدني ويضع قانون المصالحة الوطني الذي يحمي العسكر من المساءلة عن جرائمهم

 

خطة “الوئام الوطني”.. تغطية على جرائم العسكر

في نيسان/أبريل 1999 تولى بوتفليقة الحكم في الجزائر، وكان من أهم أولوياته استتباب الأمن في البلاد، وكانت خطة “الوئام الوطني” التي وافق عليها الشعب بأغلبية ساحقة هي الأمل في محو آثار العشرية السوداء، لكن صدور الكتاب في ذلك التوقيت أفشل جهود بوتفليقة، وهو ما أثار حفيظة النظام والإعلام، فدعاه لشن حرب دعائية شعواء ضد الكتاب ومؤلفه، وكان لصدور الكتاب من فرنسا حساسية خاصة لدى دوائر القرار في الجزائر، وهذا ما رسّخ فكرة أن الكتاب تفوح منه رائحة الكيد الفرنسي تجاه الجزائر وجيشها.

يقول “فرانسوا جييز”، ناشر الكتاب: الجديد الذي قدمه الكتاب يكمن في أمرين: الأول الشهادات المباشرة التي شهدها المؤلف، والثاني هو القيمة المضافة التي قدمها المؤلف عن طريقة عمل “آلة الموت” التي استخدمها النظام في إبادة المتمردين، والتي لم تكن معروفة سابقا.

ويعلق محيي الدين عميمور، وهو وزير ثقافة أسبق: كان توقيت الكتاب محرجا في فترة إعادة البناء، وكان مكان صدوره يثير الشكوك حول مؤامرة تستهدف الدولة، والدعوى القضائية التي رفعت في فرنسا من قبل الدولة الجزائرية ضد الكتاب كانت هي أيضا مثيرة للارتياب، وإقصاء الحكومة وإدارة الملف من قبل الأمن فقط وضع علامات استفهام أكثر، ولذلك آثرتُ الانسحاب من المشهد.

كتاب “الحرب القذرة” يفضح العسكر الجزائري ويكشف حجم الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب الأعزل

 

مصداقية المؤلف.. صراع استخباراتي في المحاكم الفرنسية

انتقلت الحرب إلى باريس، حيث ادعى ضابط سابق اسمه محمد سيفاوي أنه صاحب الكتاب الأصلي، واتهم دار النشر بالتلاعب ونشر ادعاءات مؤلفه حبيب سويدية دون التحقق من صدقيتها.

وفي ذلك السياق يقول الصحفي “فرانسوا جييز”: التقيت بمحمد سيفاوي ضمن “مراسلون بلا حدود”، وجرى الاتصال بينه وبين المؤلف، وحصل اتفاق على إصدار الكتاب بتزويد معلومات من الطرفين”.

وحول ادعاء سيفاوي يقول المؤلف: تبين لي فيما بعد أن هذا الرجل (سيفاوي) عميل للمخابرات الجزائرية، وأخبرتُ دار النشر بعدم رغبتي في استمرار التعامل معه، وبالفعل فسخ العقد، وأبرمتْ دار النشر عقدا جديداً معي.

ويشكك البعض في قدرة المؤلف سويدية أساسا على الكتابة، إذ يقول عنه أنور مالك، وهو كاتب وضابط سابق: سويدية لم يكن كاتبا من قبل، كنت معه في السجن وكان يطلب مني أن أكتب الرسائل لعائلته، وقبل نشر الكتاب لم أر له أي مساهمة في صحيفة أو حتى في موقع إلكتروني، فمن أين جاء بهذه الموهبة الخارقة فجأة؟.

الحكم بالإعدام غيابيا على مؤلف “الحرب القذرة” حبيب سويدية لكشفه جرائم العكسر القذرة

 

حكم بالإعدام.. شهادة ملوثة بالدماء

في نيسان 2002 أصدرت محكمة جزائرية حكماً غيابيا بحق (سويدية) بالسجن عشرين عاما، بتهمة تثبيط معنويات الجيش الجزائري وبث ادعاءات كاذبة عنه، وعندما لم تفلح السلطات الجزائرية في القبض على المتهم وتنفيذ الحكم فيه بعد حماية فرنسا له، قام خالد نزار -الرجل القوي في الجيش- بملاحقته قضائيا بتهمة قتل مدنيين أثناء أدائه الخدمة العسكرية، وحكم عليه بالإعدام سنة 2006.

في فرنسا ثارت حرب أخرى بين خالد نزار والمؤلف هي حرب الشهود، حيث كان نزار يأتي بإرهابيين من الجزائر يشهدون بأنهم هم الذين قتلوا أسماء معينة “كنت قد دونتُها في كتابي على أنهم من الضحايا الذين قتلهم الجيش”.

يقول المؤلف: أشعر بالخزي الآن عندما أتذكر كيف كنا نفصل الرؤوس عن الأجساد ونحملها معنا، ونترك الأجساد لتنهشها الطيور الجارحة، كان الضباط من أمثال العماري وقايد صالح يقولون لنا: لا داعي لأن تتعبوا أنفسكم بهذه الجثث، تكفي الرؤوس، هاتوها إلى المعسكر.

ويتابع سويدية: ليس كل الجيش الشعبي متورطا في هذه الجرائم، هنالك أفواج معينة من القوات الخاصة هي التي كانت تنفذ تلك الجرائم.

مؤلف كتاب “الحرب القذرة” حبيب سويدية عمل ضابطا بالقوات الخاصة الجزائرية قبل أن يهرب إلى فرنسا

 

محاكمة الصغار وحصانة الكبار.. ريبة قانون المصالحة الوطنية

“أتوجه بكلامي إلى السيد محمد العماري: لقد وصلني أنك تتهمني بأنني سارق، أنا لم أسرق قط في حياتي، وأنتم تعلمون ذلك، أنا مجرد ضابط صغير في الجيش الشعبي أقسَمَ على محاربة الإرهاب كما طلبتم منه، ولولاي ومجموعة من الضباط الصغار أمثالي لما بقي أحد منكم في السلطة حتى الآن”.

“لقد ارتكب الجيش الشعبي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وكنت أنا ضابطا في هذا الجيش، وأعترف بما اقترفت يداي، وأنا أتحمل المسؤولية عن ذلك، أدعوكم لتشكيل لجنة تحقيق محايدة ونزيهة، ودعوها تحقق في الأمر وتنظر في الشهادات، وأنا مستعد للتعاون معها إلى أبعد حد، أما أن تطووا الملف الأسود كأن شيئا لم يكن، ثم تتهموني أنا ومجموعة من الضباط الصغار بأننا كاذبون ونفتري على الجيش فهذا لا يجوز”.

ويقول الحقوقي سعد جبار: حين تتأملون فسوف تلاحظون أن قانون المصالحة الوطنية قد أعطى الحصانة الكاملة للجيش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وأنه يجرِّم كل من يتهم الجيش والأمن بأي خرق لحقوق الإنسان، وهذا بحد ذاته أمر يدعو للشك والريبة.

ويبقى هذا الكتاب شهادة لشاهد واحد فقط على ما ارتكب خلال العشرية السوداء، أما الكثير من الحقائق فقد اندثر تحت ركام المدن المهدمة، وفي أحشاء مئات آلاف الجثث التي أكلتها الطيور، وفي صدور عشرات آلاف المفقودين الذين لا تعرف مصائرهم حتى الآن.