الشطرنج.. ملك الألعاب ولعبة الملوك

الوثائقية-خاص

لعبة استُحدثت لتسلية الملوك، وجُعلت أهم قطعة فيها باسم “الشاه” وتعني الملك، وحتى بعد شيوعها في صفوف “العامة”، ظلّت لصيقة بالنخبة وسمّيت برياضة الأذكياء. ويمارسها اليوم ما يقرب من ثلاثة أرباع المليار من سكان العالم، لكنّ ألغازها تظل عصية على الحصر أو الحل.

أكثر البحوث العلمية موثوقية تمنح هذه اللعبة عمرا مساويا لعمر الإسلام، حيث كانت الفتوحات التي قام بها المسلمون لإمبراطورية كسرى أنو شيروان، فرصة لخروج هذه اللعبة من بلاد فارس إلى العالم.

 

حاز العرب اللعبة كما يحوزون بقية الغنائم، وطوّروها وأطلقوا عليها أسماء وأشكالا تطابق خصوصياتهم الثقافية والدينية، ثم حملوها معهم إلى أطراف العالم التي فتحوها بالدعوة والسيف، ليصلوا بها إلى بلاد الأندلس، حيث شهدت طفرة جديدة من التجديد والانتشار.

لعبة عابرة للإمبراطوريات

رقعة مربعة الشكل مقسّمة إلى 64 مربعا صغيرا، تتحرك فوقها 32 قطعة منقسمتين بين فريقين، أسود وأبيض، لكنها أكثر من مجرد رقعة للعب والتسلية، بل يرى فيها جل من يعرفها منطقة تتكاثف فيها ألغاز التاريخ والاقتصاد والسياسة والأدب.

وعبر التاريخ، تأثرت لعبة الشطرنج بتعاقب الامبراطوريات وتأثرت بخصوصياتها. ففي عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد مثلا، عكست لعبة الشطرنج تعاليم الإسلام وتأكيده على أن الفكر أقوى من الحظ.

تأثرت لعبة الشطرنج بتعاقب الامبراطوريات

 

هذا التأثير العربي، هو ما يرجّح أن القطعة الأقوى والتي كانت توصف عند الفارسيين بمستشار الملك، بات تحمل اسم الوزير.

وفي عهد إيزابيلا ملكة إسبانيا التي شاركت في رعاية رحلة كريستوفر كولومبوس، رمزت اللعبة إلى السلطة الأنثويّة وعكست هيبة الملكة وقوتها.

أما بخصوص الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، فالبطولة بين بوبي فيشر وبوريس سباسكي أصبحت معركة رمزية في خضم الحرب الباردة التي دارت في القرن الماضي.

مسقط رأس هارون الرشيد.. أقدم قطعة شطرنج

في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول 2019، أعلن عالم الآثار من جامعة فيكتوريا في كندا، الأمريكي “جون أوليسون” أنه عثر على صخرة غريبة في منطقة الحميمة -حيث ولد هارون الرشيد- جنوبي الأردن عام 1991، وأن تاريخها يعود إلى 1300 عام مضت، ويُرجح أن تكون أقدم قطعة شطرنج تم العثور عليها حتى يومنا هذا.

تحدّث “أوليسون” عن حقيقة هذه القطعة في اجتماع سنوي لمعاهد وكليات أميركية متخصصة بالآثار الشرقية. وأشار بأنه ظل يحتفظ بها في منزله بمدينة فيكتوريا، وأن لعبة الشطرنج كانت لعبة شعبية في العالم الإسلامي قديما، في إشارة ربما إلى العصر العباسي بشكل خاص.

عالم الآثار الأمريكي جون أوليسون يعثر عام 1991 في منطقة الحميمة جنوبي الأردن على أقدم قطعة شطرنج يعود تاريخها إلى 1300 عام

 

وأوضح “أوليسون” أن شكل الحجر يتطابق مع القطع التي يعود تاريخها إلى وقتٍ لاحق، وهي محفورة من الحجر أو الخشب أو العاج، واكتُشفت في المنطقة نفسها. ونظرا إلى الاعتقاد السائد بأن لعبة الشطرنج قدمت من الهند عن طريق التجار والدبلوماسيين المسافرين، فإن موقع الاكتشاف أمر منطقي.

ومما يعزز هذا التفسير، أن منطقة العثور على هذه القطعة تقع في طريق تجاري شهير في ذلك الوقت. ويحتمل أن يكون هو الطريق الروماني القديم، الذي يرجّح أنه لعب دورا كبيرا في وصول اللعبة إلى الشرق الأوسط وأوروبا. وتشبه القطعة التي ظهرت حديثا، ما يجسّد قطعة “القلعة” في لعبة الشطرنج.

بصمة تعاليم الإسلام

ينسب بعض المؤرخين هذه اللعبة إلى زمن بعيد ويصلون بها إلى النبي سليمان عليه السلام، أما كتب أخرى فأشارت إلى أن اليونان هم أول من عرفوا هذه اللعبة ونُسبت إلى الملك “يالاميدس”. وتُشير روايات أخرى إلى أن العرب أخذوا هذه اللعبة عن الهنود.

لكن الكشف العلمي الجديد الذي أكد اكتشاف أقدم قطعة شطرنج بعمر يناهز 1300 سنة، يعزز الفكرة السائدة في أوساط الباحثين في التاريخ والآثار، والتي تقدّر عمر لعبة الشطرنج بنحو 1500 عاما.

كانت لعبة “الشطرنج” جزءاً من الحياة العربية والإسلاميةكما ورد في بعض كتب التاريخ والأدب

 

والمؤكد أن العرب نقلوا هذه اللعبة عن الفرس، وبسببهم انتشرت واشتهرت في جميع أنحاء العالم خلال الفتوحات الإسلامية التي طالت أقطار الأرض جمعاء.

وبما أن الإسلام حرّم صناعة التماثيل على شكل البشر أو الحيوانات، فإن قطع الشطرنج أخذت هذا الشكل الرمزي الذي سيأخذه عنهم الأوروبيون، وبقيت بذلك قطع اللعبة كما هي دون تغيير.

الخلافة الإسلامية.. العصر الذهبي للشطرنج

بعد اكتشافها في بلاد فارس ونقلها إلى بلاط الخلافة العربية الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي، أصبحت لعبة الشطرنج جزءاً من الحياة العربية والإسلامية، في مستوى الطبقات النخبوية من ساسة وشعراء وأدباء وعسكريين. ومما سجلته مصنفات عربية قديمة، أن لعبة الشطرنج لعبها إلى جانب الأمراء والخلفاء نحويّون ولغويون وشعراء وأطباء، وأصبحت من الألقاب التي يحملها البعض لتصبح جزءا من اسمه، وهو ما يفسّر وجود لقب “الشطرنجي”.

وقد كان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي يهوى اللعبة، ويفضل أن يكون الطرف المقابل له شاعرا أو أديبا أو قائدا عسكريا. كما تروي كتب التاريخ أن الشطرنج كانت لعبة أثيرة لدى الخليفة المعتضد، ولعبة الخليفة هارون الرشيد المفضلة، بحسب كتاب “الأغاني”. كما عرف عن الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك ولعه بهذه اللعبة، وكان يعتبرها من أهم الركائز الأساسية في حياته اليومية، ويخصص لها جزءا كبيرا من وقت فراغه، ويرى أنها حرب مصغرة يخوضها كما يخوض المعارك الحقيقية.

أبو بكر محمد بن عمار القضاعي الأندلسي يهزم ملك قشتالة “ألفونسو”

 

وشهد عهد الدولة الأموية ثم العباسية بروز لاعبين عرب، أبرزهم على الإطلاق أبو حافظ الشطرنجي، وهو الشاعر في بلاط هارون الرشيد. وفي الأندلس تميز محمد بن عمار الذي خاض مباراة شهيرة أمام ملك قشتالة ألفونس فهزمه في 5 جولات متتالية. وتورد المصادر التاريخية تفاصيل قصة لاعب عربي اسمه أبو بكر محمد بن عمار القضاعي الأندلسي، الذي فاز على “ألفونس” ملك قشتالة “إسبانيا” في مباراة مشهودة جمعتهما في فترة الوجود الإسلامي في الأندلس.

صراعات الحضارات.. من اخترعها؟

إلى جانب المعطيات العلمية التي تكشفها كتب التاريخ ودراسات علماء الآثار التي يقف مداها عند القرن السادس الميلادي في تعقب آثار لعبة الشطرنج في عمق التاريخ، يستمر تباري عدد من الحضارات الأخرى، حول السبق في اختراع لعبة الشطرنج.

أهم هذه الحضارات المتبارية، هي كل من الحضارة الفرعونية والحضارة البابلية والحضارة الهندية القديمة ونظيرتها الصينية. ويرى البعض أن أصلها يعود للحاكم الصيني “هان شنغ”، فعندما طال حصاره لمدينة “شن سي”، ابتكر هذه اللعبة لتسلية الجنود وكانت تُعرف باسم “تشوك تشو هنغ كي”، أي علم الحرب باللغة الصينية.

وحدها الحضارة الغربية تقرّ بدون أدنى منازعة، بأنها ليست أول مصدر للعبة الشطرنج، بل العرب المسلمون هم أول من نقلها إليها. وتقول بعض الكتابات الغربية، أن كلمة الشطرنج تتحدّر من أصل فارسي مستلهم هو أيضا من كلمة “تشاتورانجا”، اللعبة الهندية القديمة التي كانت تعتمد على مواجهة بين أربعة جيوش افتراضية، قبل أن تنتقل اللعبة إلى العرب الذين حملوها معهم في طريق تجارة الحرير نحو بلدانهم ومنها إلى أوروبا.

الوزير الهندي “سيسا” مخترع رقعة الشطرنج طلب من الملك “شرهام” أن يكافأه بحبة رز مضاعفة كل مرة على كل مربع من مربعات الرقعة

“تشاتورانجا”.. الأم الحقيقية للشطرنج

تتمثل لعبة “تشاتورانجا” الهندية التي يحتمل أن تكون “الأم الحقيقية” للشطرنج، في رقعة لعب صممها فيلسوف هندي، وهي عبارة عن معركة افتراضية تدور بين أربعة جيوش، على رأس كل منها ملك “راجا”، ويتحالف فيها لاعبان ضد الآخرين.

الوزير “سيسا” يطلب من الملك “شرهام” مكافأته بحبة رز مضاعفة على كل مربع من مربعات رقعة الشطرنج

 

وكانت قطع اللعب في “تشاتورانجا” تتألف من جنود مشاة وفرسان وفيلة وسفن، وتبدأ اللعبة بتمركز كل جيش في أحد أركان الرقعة المربعة المكونة من 64 مربعا صغيرا، حيث تقف القطع الأساسية خلف الجنود المشاة، ويستعمل النرد لمعرفة الفريق الذي سيتحرك في كل دور، وتدريجيا جرى التخلي عن النرد لتحريم الحظ في المعتقدات الدينية، كما تم دمج الجيشين المتحالفين ليصبحا جيشا واحدا في مواجهة جيش آخر.

لكن البعض يعيد أصل لعبة الشطرنج إلى العهد الفرعوني، خاصة بعدما اكتشف علماء الآثار خلال تنقيبهم في مقبرة “توت عنخ آمون” عام 1930م ما يُشبه رقعة شطرنج صُفّت عليها قطع اللعب.

فهذا الاكتشاف يعني أن الفراعنة هم أول من عرف هذه اللعبة ومارسها أيام الملك الفرعوني “رمسيس الثالث”، وذلك حوالي سنة 1400 قبل الميلاد. وتذكر بعض كتب التاريخ اليونان باعتبارها أول مصدر للعبة الشطرنج، حيث يجري الحديث عن مخترع اسمه “يالاميدس”. فيما يعتمد البعض نتائج حفريات جرت في العراق، وكشفت عن لوحة لعب شبيهة بلعبة الشطرنج، تعود إلى قرابة ألف عام قبل الميلاد، مما يعني أن الحضارات التي بين النهرين قد عرفت اللعبة بدورها قبل الهند وفارس.

أما الرواية الهندية فتشير إلى أن الوزير “سيسا” الذي كان يعمل عند الملك “شرهام”، هو من ابتكر هذه اللعبة لتسلية الملك وشحذ تفكيره. ومن شدة إعجاب الملك بهذه اللعبة طلب من وزيره أن يختار مكافأة بنفسه. فكان من ذكاء الوزير “سيسا” أن طلبة حبة أرز واحدة (أو حبة قمح في روايات أخرى) تُوضع في المربع الأول وتتضاعف في المربعات التالية حتى تنتهي مربعات الشطرنج الأربعة والستين.

المباراة النهائية لبطولة العام لسنة 1972 بين الأمريكي بوبي فيشر والروسي بوريس سباسكي

 

وكان مخترع اللعبة يرمي من وراء هذا الطلب، إلى إفحام باقي أعضاء حاشية الملك الذين استهزؤوا من لعبته، حيث صُعقوا عندما اكتشفوا إلى أن الكمية التي ينتهي عندها الأمر من الأرز (أو القمح)، تفوق مجموع ما تنتجه الهند وقتها، وربما العالم كله.

الحروب الباردة.. بروباغندا التفوق في الشطرنج

كما كان يحصل معها عند كل انتقال من حضارة مشرقية إلى أخرى، خضعت لعبة الشطرنج لتعديلات تتلاءم مع خصوصيات الثقافة الغربية، والتي سوف تسود العالم منذ تنظيم أول بطولة عالمية في هذه الرياضة عام 1866 ميلادية.

تقول بعض مصادر التاريخ إنه قبل هذه البطولة العالمية، جرت أول مباراة إقليمية بين لاعبين من منطقة آسيا الصغرى، تقابل فيها كل من جابر الكوفي وزيراب قطان في مدينة خراسان، عام 819 للميلاد، وذلك في حضور الخليفة المأمون الذي يُعد من عشاق هذه اللعبة، رغم أنه لم يكن ماهرا فيها.

وفي منتصف القرن 20 أصبحت الشطرنج إحدى أدوات الحرب الباردة، فقد بدأت سيطرة الروس على اللعبة إبان الحرب العالمية الثانية، واستُخدم الشطرنج سياسيا في رسالة إلى العالم بأن “النظام الشيوعي هو الأقدر على إنتاج رجال مفكرين”.

كان الاتحاد السوفيتي آنذاك ممثلا في بطله “بوريس سباسكي”، والولايات المتحدة الأميركية ممثلة في بطلها “بوبي فيشر”، وكان لا يخفى على الجماهير والمتابعين تأثير هذه المبارزة التي بلغت ذروتها في المباراة النهائية لبطولة العام 1972 ودورها في اللعبة السياسية، مما صنع زخما إعلاميا كبيرا.

قصة الملك والملكة.. خصوصيات البلاط

لكل قطعة في لعبة الشطرنج قصة خاصة تفسّر أصل تسميتها والتطوّر الذي لحق بقدرتها على الحركة واتجاهات اللعب عبر التاريخ، لكن أكثر هذه القطع أهمية على الإطلاق قطعة الملك والملكة، الأول باعتباره مدار اللعبة ومحور دورانها، فبموته ينتهي اللعب، والثانية باعتبارها أقوى القطع على الإطلاق، لما تتمتع به من حرية في الحركة، لكن اسمها يتأرجح بين الوزير وبين الملكة.

من يساعد الملك.. الوزير أم الملكة؟

 

فالمكانة الخاصة التي يتمتع بها الملك في لعبة الشطرنج لا تحتاج إلى تفسير، باعتبار أن هذه اللعبة استحدثت أول الأمر لتسلية الملوك وجعلهم يفكرون في الشؤون الإستراتيجية والعسكرية بطريقة هادئة، وكانت بالتالي القطعة الأهم تمثل شخصية الملك في الواقع، وبالتالي كان لا بد من إحاطته بأكبر قدر من الحماية والهيبة، وهو ما كان عليه الأمر في الواقع، سواء في الهند أو فارس أو دول الخلافة الإسلامية.

ومن بين ما اختص به الملك في لعبة الشطرنج، ضرورة تنبيهه من طرف الخصم في حال وجود تهديد يطاله بشكل مباشر، وهو التنبيه الذي يصطلح على ممارسته بكلمة “كش ملك”، أما إذا كان التهديد قاتلا، فإن الخصم مطالب بإعلان عبارة “كش مات” كي تنتهي اللعبة.

أما “الملكة” أو “الوزير”، -القطعة التي تنطلق في اللعبة مجاورة للملك- فتتمتع بقوة ضاربة كبيرة تفوق جميع القطع الأخرى. وتتضارب المصادر حول تفسير كل من الاسمين، أي “الملكة” و”الوزير”، حيث يفضّل البعض التمييز السهل بين كلمة “الوزير” في الثقافات الشرقية على اعتبار أنها تعلي من شأن الرجال مقارنة بالمرأة، ونسبة كلمة “الملكة” إلى أوروبا حيث يزعم البعض أن ثقافتها تعترف للمرأة بمكانة أكبر.

تغير أحوال الوزير.. ثقافات الشعوب

تقول بعض المصادر إن القطعة الأقوى في رقعة الشطرنج حملت أول الأمر اسم “الفرزان” الذي يعني في الفارسية ما يشبه الوزير أو المستشار الذي يرافق الملك.

لم يقبل العرب أن يجعلوا أقوى القطع أنثى “الملكة” فأطلقوا عليها اسم الوزير

 

لكنه في المرحلة الفارسية لهذه اللعبة لم يكن يتمتع بالقوة نفسها التي يحوزها حاليا، ذلك أن الملك كان يعتبر أقوى قطعة على الإطلاق، يليه الحصان في القدرة على الحركة. أما تحوّل اسم هذه القطعة من “الوزير” إلى الملكة، فيفسّره البعض بأكثر من مجرّد إحالة إلى ملكات أوروبا في القرون الوسطى، بل إلى “العذراء مريم”، ما يجعل لعبة الشطرنج مرآة حقيقية تعكس تاريخ وثقافة الشعوب.

وتذهب بعض المصادر إلى أنه عندما تعرف العرب على اللعبة، لم يقبلوا بجعل أقوى القطع أنثى “الملكة” فأطلقوا عليها اسم الوزير، رغم أن هذه الرواية لم تجد تدعيما وبحثا تاريخيا قويا.