“الصوفية في إيطاليا”.. عالم روحاني يجمع المهاجرين والأنصار في قلب أوروبا

حسن العدم

بينما كان “لوكا” ينطق بالشهادتين بلكنة إيطالية أشبه بطفل ينطق أولى كلماته، سادت بين المريدين رجالا ونساء حالة من البهجة والفرح، بعدها أعلن جبريل ماندل المايسترو: أيها المسلمون والمسلمات، لقد أصبح “لوكا” مسلما جديدا عندنا، وأصبح أخا لنا والحمد لله.

 

تعتبر الصوفية في إيطاليا إحدى أهم البوابات التي يمر الإسلام من خلالها، وهي ملاذ للهاربين من جحيم المادية إلى صفاء الروح، فقد تراجعت المادية في تفسير الأشياء، في مقابل سير حثيث نحو الإيمان بالحياة بعد الموت، وتحوّل من المادية إلى الروحانية. كان هذا محور الفيلم الذي بثته قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “الصوفية في إيطاليا”.

“لامست الصوفية قلبي فأسلمت، إنه دين القلب”

يقول “أندريا ريجا”، وهو ممثل سينمائي: لم تعارض عائلتي اعتناقي للإسلام رغم أنهم كاثوليك، لأنهم تعرفوا على البروفيسور “ماندل”، ورأوا فيه الجدية في الوصول بي إلى التوازن الداخلي، لقد نطقت بالشهادتين قبل سنتين، وكان عليّ قراءة الفاتحة بالعربية، كررتها مرارا قبل الدخول إلى الزاوية، ولكني نسيتها أمام الشيخ، قبل تدارك الأمر لاحقا.

تعتبر الصوفية في إيطاليا نتاجا لنشاط الجماعات الصوفية القادمة من العالم الإسلامي بكل تبايناتها، سواء في أدواتها لتوصيل الفكرة إلى المريدين، أو من حيث انفتاحها وانغلاقها على المجتمعات، وقد اعتنق كثير من الغربيين الإسلام بطعم الصوفية، وهذا أمر يتناغم مع الخواء الروحي والقيمي الذي يعيشونه بغير الإسلام.

“أندريا ريجا” مسلم جديد انتمى لواحدة من طرق الصوفية في إيطاليا

 

يقول “عبد الواحد بلافتشيني” شيخ الطريقة الشاذلية: هناك عدد من الطرق الصوفية في إيطاليا، بحكم تعدد الطرق والبلاد التي جاء منها إخواننا المهاجرون.

ويرى “محسن مولهي” أن أكثر انتشار الإسلام في أوروبا كان عن طريق الصوفية، حيث تعتبر الخلوتية الأكثر شيوعا، وهنالك النقشبندية، وكذلك الأحمدية الإدريسية الشاذلية التي أسسها أحمد بن إدريس الفاسي.

ويعتبر “روجيه غارودي” و”موريس بوكاي” من أعلام الأوروبيين الذي اعتنقوا الإسلام عن طريق الصوفية، لما فيها من تسامح في السلوك والعقيدة. تقول “أسماء تيريزا” إحدى مريدات “ماندل”: “لامست الصوفية قلبي فأسلمت، إنه دين القلب”، وكان ماندل كثير السفر إلى تركيا، وله علاقات مع شيوخ الزوايا، واختار منها “الجرّاحية الخلوتية” ونقلها إلى ميلانو.

ما بعد المسيحية.. دين غير معترف به في بلاد الفاتيكان

بالرغم من قدم الجالية المسلمة في إيطاليا، فإن نشاطها يعود لعام 1975 تتويجا لجهود طلاب وعاملين هاجروا من شمال أفريقيا، لكنهم لم يستطيعوا تشكيل كيان موحد للمسلمين يمثل كافة طرقهم وتوجهاتهم، ويتبنى هموم وتطلعات الأقلية المسلمة، فأكثر من مليوني مسلم في إيطاليا هم بحاجة للرعاية والتنسيق.

 

أحد المسلمين الطليان الجدد يعلن إسلامه أمام شيخ الطريقة المولوية

 

ويرى الأب “بوتوني” مسؤول حوار الأديان في الكنيسة، أن المشكلة تكمن في عدم وجود اتفاقية رسمية بين الحكومة والجالية المسلمة. فالأمر يعتمد على ترشيح ممثل ترتضيه الأغلبية المسلمة، وهذا من صميم مسؤوليتها. ويشاركه الرأي محسن المولهي، إذ يقول: ما زلنا نتحدث بضمائر المفرد، أنا وأنت وهو، ولم نتحدث بعد بضمير الجمع “نحن”، بيننا اختلافات وليس يجمعنا رابط موحد حتى الآن.

وما زال للفاتيكان تحفظات على هذا الدين الذي جاء بعد المسيحية وظهر مؤخرا في البلاد، فالوضع يتطلب الحصول على اعتراف رسمي تتعامل الدولة بموجبه مع المسلمين ككيان معترف به، وعلى الفاتيكان تقبّل حقيقة وجود مليوني مسلم لا يمكن تجاهلهم ومعاملتهم كدرجة ثانية، مثلهم مثل بقية الطوائف، كالجالية اليهودية التي لها علاقة رسمية مع الدولة ينظمها قانون خاص.

“جبريل ماندل”.. الشيخ المايسترو ينير الطريق لشباب إيطاليا

استطاع البروفيسور “ماندل” -وهو إيطالي من أم يهودية وأب أفغاني- جمْعَ مريديه بمعزوفاته الشجية ولوحاته الجميلة، حتى لقبه أتباعه بالمايسترو، فهو فنان ومعالج نفسي وصوفي، وعالم نفس وأديب، ويجمع مريدوه أنه قادهم نحو النجاح سواء في حياتهم الروحية والعائلية والمهنية.

“جبريل ماندل”.. الشيخ الرسام، وأحد ممثلي المسلمين في إيطاليا

 

وهو شخصية موقرة ومعترف به كأحد ممثلي المسلمين في إيطاليا، فقد جاءه الشباب الإيطاليون حيارى تواقين إلى المعرفة فدلهم على أول الطريق فأسلموا وتصوفوا، وصاروا عائلة تهتدي بهدي شيخها الذي أنار لها الطريق. وقد حصل على كثير من الجوائز والميداليات والتكريمات عن أعماله المعرفية والفنية المختلفة، وترجم القرآن وكتاب “المثنوية” لجلال الدين الرومي.

وقد أسلم مبكرا في كابل على يد جده شيخ النقشبندية هناك، وعاد إلى ميلانو وأسس الطريقة الخلوتية الجَرَّاحية، وهو شخصية معرفية جذب الكثيرين بأعماله المتنوعة وكتبه الفلسفية. كما أنه متزوج وليس راهبا.

مدارس الصوفية.. جدل بين النقاء الروحي والتجارة الدينية

يثور جدل ولغط كبيران حول الصوفية، ومما يؤخذ عليها تلك الحركات المبهمة والترانيم غير المفهومة والولاء المطلق للشيخ، ويُعرّفها المريدون بأنها أفضل طريق سويّ للبحث عن الحقيقة وإزالة الأقنعة التي تغطي دواخل النفس، وهي طريقة للبحث والتعلم وتعميق الأفكار، وكيفية التعامل مع الخالق والمخلوق.

“أسماء تيريزا” مغنية الطريقة المولوية في إيطاليا

 

والصوفية مدرسة تربي فيك القيم، وتساعدك على اكتشافها وتنميتها، وليست تلك الجلسة الخاصة بين المريد وشيخه فحسب. وتكمن القيمة الكبرى للصوفية في احترام خصوصية جميع الأديان.

ويوصف التصوف بالمسار الداخلي للإسلام، لذلك توجد عدة طرق ومسارات بصفاتٍ مختلفة، والاختلاف رحمة للأمة، لكن الدجل والشعوذة وادعاء علم الغيب هي ممارسات خاطئة يقوم بها أتباع بعض الطرق، فيأكلون الأفاعي ويمشون على النار ويطعنون أنفسهم، وهذه ليست من الإسلام، بل من عقائد أخرى كالهندوسية.

لكن بعض الطرق مزيفة، فهناك من يلصق نفسه بالصوفية لغرض دنيوي، فيصبح صوفيا فجأة ويؤسس طريقة، ويسمح حتى لغير المسلمين بالانتماء لها، وهذا موجود مع الأسف في إيطاليا وسويسرا.

علم النفس.. ممارسات متجذرة في الصوفية منذ ألف عام

من القضايا التي يحاول الطبيب النفسي “ماندل” معالجتها معرفة الباطن ومحاولة علاجه، وتجاهل الظاهر وتفاصيله، من خلال نظرته النفسية للتصوف، فعلم النفس والصوفية خاصيتان للصوفي، بل يمكن القول إن كل مايسترو صوفي هو عالم نفس، وإن عمر علم النفس الصوفي يتجاوز الألف عام، ومنذ ذلك الزمن قسمت النفس إلى الوعي واللاوعي، والأنا واللاأنا المميز.

حلقة ذكر لواحدة من طرق الصوفية في إيطاليا

 

وعند الحديث عن دراسة النفس علينا أن نعي ما يقوله الصوفيون، فالإنسان من وجهة نظرهم يتكون من أربعة أشياء يتصل بعضها ببعض بطريقة تفاعلية؛ فجزء روحي وجزءان ماديان ورابع شامل، والصوفية بمعناها الصحيح هي التآلف المثمر بين الجوانب الخارجية والداخلية للإنسان. فالصوفي يأخذ الدنيا بعين الاعتبار، ولكنه لا يملك شيئا منها، ولا يكون مملوكا لشيء منها.

وفي المقارنة بين الصوفية في العالم الإسلامي وصوفية الغرب، نجد أن الصوفية الغربية قد اجتذبت بعض الأتباع حتى قبل أن يسلموا، وانخرطوا في حلقاتها، مما يطرح سؤالا ملحا: ما طبيعة العلاقة بين الصوفية والإسلام، وهل يوجد فاصل بينهما؟ يجيب “ماندل” وكثير من متصوفة الغرب بأنه لا يمكن الفصل بين الصوفية والإسلام، بل يستحيل وجود صوفية بلا إسلام.

“خلطة الأديان”.. قد تتعدد الطرق إلى الله والهدف واحد

مما يثير الانتباه ويدعو للدهشة هذا الحضور اللافت للديانات الأخرى، بل والمشاركة في أداء الأذكار تحت مسمى التسامح الإنساني، الأمر الذي دعا البعض لوصف الصوفية بـ”خلطة الأديان”، يقول أحد الأتباع: يمكنني القول إنني منذ بدأت حضور حلقات الذكر رأيت مشاركة البوذيين واليهود والمسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس في مناسباتنا الدينية، وكنا دائما نرحب بهم ونستقبلهم أحسن استقبال.

يرى الأب “مانويل” أن الصوفية طريقة روحية بينها وبين المسيحية نقاط التقاء عدة كالزهد وغيره

 

ويرى الأب “مانويل” أن الصوفية طريقة روحية، نجد بينها وبين المسيحية نقاط التقاء عدة كالزهد وغيره، ويشاركه الرأي الحاخام اليهودي “لاراس” الذي يقول: في اليهودية أيضا روحانيات يتصل فيها الفرد مباشرة مع الإله، وهؤلاء يسمون “تيار الهجر”.

وقد سبقهم في هذا شيخهم جلال الدين الرومي، ففي بعض كتبه: ألا تعلم أن طرقا متعددة قد تأخذك إلى نفس الهدف، ثم يتهم الناس بعضهم بعضا بالشرور؟ حتى إذا بلغوا الهدف وجدوه واحدا، وهو الله.. كل يعبده بطريقته ويظن أنها الأصوب.

ويخالفهم “عبد الواحد بلافتشيني” شيخ الطريقة الشاذلية، إذ يقول: نسمع عن بعض الطرق الصوفية التي تستضيف شخصيات من ديانات أخرى، أو حتى من اللادينيين أملا في إسلامهم، وهذا في رأيي خطأ، فالإسلام لا يتأتى عن طريق الإعجاب.

“ذلك الشراب الذي يتحدث عنه شيوخ الصوفية”.. سُكر الحضرة

في حلقات الذكر تأخذك الصوفية إلى عوالم أخرى، يقول أحدهم: أذكر مرة أنني رأيت والدي الذي مات قبل 30 سنة، كنت أحاوره وهو يقول لي أريت الصوفية كم هي جميلة؟

والحضرة بتعريفهم هي حضور المريد بين يدي الله لتلقي البركات، ويستحضرها بأذكار خاصة مثل: “يا لطيف” أو “الله حيّ”.

تشارك النساء في إيطاليا بحلقات الذكر الصوفية

 

وتقول “سناء تيريزا” إحدى مريدات “ماندل”: في حلقات الذكر أحس أنني وحدي مع الله، ثم يحدث ذلك التواصل العجيب بين قلوب الإخوة والأخوات الذين حضروا الذكر معي، كأنها نبضات قلب واحد، والذكر هو ذلك الشراب الذي يتحدث عنه شيوخ الصوفية كثيرا، والذي يعطيك النشوة والفرح.

أما اللحظة التي يصل فيها المريد إلى الفَناء فهي لحظة المفارقة عن العالم السفلي، والاتصال والاتحاد مع العالم العلوي، لكن الدين الإسلامي هو دين التوازن، وهو الفكر الذي يربط العالم الروحاني مع المادي.

“نحن نصلي الصلوات الخمس”.. تهمة العلمانية تلاحق الصوفية

تتلخص العلمانية في عبارة “ما لله لله، وما لقيصر لقيصر” التي تفصل الدين عن الدولة، وقد تبنت بعض الطرق الصوفية هذه العبارة، فأثارت حفيظة كثير من المسلمين، فاتهموها بأنها الوجه الآخر للعلمانية، بل إن كثيرا من المسلمين حارب الطرق الصوفية بحجة أنها سهّلت احتلال أوروبا لكثيرٍ من دول العالم الإسلامي.

عبد الواحد شيخ الطريقة الشاذلية في إيطاليا

 

ولا يوافق البروفيسور “ماندل” على فكرة أن الصوفية مرادفة للعلمانية، مبررا ذلك بقوله: فنحن نصلي الصلوات الخمس، ونؤدي النوافل، ونقوم بكل فرائض الإسلام.

والصوفي لا يؤمن بالسياسة، فهو يراها من الأمور الدنيوية التي تكثر فيها المداهنة والمهادنة، ويؤكد “ماندل” هذه المقولة عمليا بقوله: والدي كان عضوا في مجلس الشيوخ ليوم واحد ثم استقال، وأنا كنت كذلك لمدة 40 دقيقة فقط وقدمت استقالتي، فلا يصلح أن تكون صوفيا وسياسيا في آن واحد.

لكن الصوفي لا يؤمن بالدكتاتوريات، ويعارض من ينتزع حرية الآخرين، ويقاوم الظلم، ففي أثناء الحقبة الفاشية في إيطاليا حُكِم على “ماندل” بالإعدام بسبب أمه اليهودية ومعاداته لـ”هتلر” وانخراطه في المقاومة الشعبية، لكنه سلم من الإعدام بعد انتهاء الحرب واندحار النازية.

فنون الشعر والموسيقى والرقص.. طقوس من تاريخ الصوفية

ربط الصوفيون الفن بالتصوف برباط وثيق، فالشعر مرآة القلوب، ولقد قال شيخهم جلال الدين الرومي من قبل:

ولقد شهدتُ جمالَه في ذاتي .. لمّا صفت وتصقّلت مرآتي
وتزينت بجماله وجلاله .. وكماله ووصاله خلواتي
أنواره قد أوقدت مصباحي .. فتلألأت من ضوئه مشكاتي

وزاوجت الصوفية بين الموسيقى والتصوف، وتعتبر الرقصة المولوية مشهورة في أوروبا، فالفن بنظرهم معبر عن روحانيتهم، والذكر عندهم يستحيل بدون الإيقاع والموسيقى.

تشارك النساء في طقوس الذكر التابعة لطرق الصوفية بإيطاليا

 

إلى جانب حلقات الذكر الدائرية والحركة الجماعية والمسبحة الكبيرة التي تداعب حباتها الأيدي، فإن لكل طريقة هيكلها الداخلي ومراتبها المتدرجة، فهنالك شيخ الشيوخ، وبقية الشيوخ بمهامهم المختلفة، وهناك الإمام والمفتي والذكرباشي المسؤول عن الإيقاع والتناغم.

وبالإضافة لحلقات الذكر فهنالك أيام تخصص لتبادل الأفكار والمعرفة بين مريدي الطريقة وضيوفهم من غير المسلمين، ومن اللافت كثرة عدد النساء في هذه الطريقة، وتصل نسبتهنّ إلى حوالي 40%، يشاركن في حلقات الذكر، وبرزت بعضهن في الإنشاد والغناء أثناء الحلقات، وقد وجد بعض الرجال شريكته من خلال الحلقات، وتزوجوا حسب الشريعة الإسلامية.