الطب البديل.. علاج الإنسان الأول يصارع للبقاء في عصر التقدم العلمي

“تعددت الأساليب والهدف واحد، الشفاء”. جملة يرددها كثيرا مؤيدو وصفات التداوي الطبيعية والشعبية التي ما زال الإقبال عليها كبيرا، رغم تحذيرات الأطباء من خطورة الاعتماد على هذا النوع من العلاجات دون تأطير علمي.

ورغم تطوره لم يستطع الطب الحديث إقصاء الطب البديل والتقليدي الذي تقول بعض الدراسات إن الإنسان يمارسه منذ ألوف السنين، ويتضمن أساليب علاجية متعددة تناقلتها الشعوب والقبائل والحضارات الإنسانية عبر التاريخ، وتختلف طرق ممارسته حسب المناطق، من الأعشاب والنباتات الطبية، إلى استعمال الإبر والتدليك والتأمل.

بل إن بعض المستشفيات والمراكز الطبية أصبحت اليوم تلجأ إلى بعض هذه النظم القديمة لعلاج المرضى، كما يستنبط منها بعض العلماء طرق علاج بعض الأمراض التي ظلت مستعصية، بينما يطالب البعض بعدم الاعتماد على هذه الممارسات لوحدها، وإبقائها تكميلية فقط للعلاجات الطبية والدوائية الحديثة.

وحتى إن منظمة الصحة العالمية قامت بإجراء تحليل شامل للوضع الراهن للطب التقليدي (الشعبي) والتكميلي حول العالم، وعملت بالتعاون مع خبراء في المجال على وضع استراتيجية لهذا النوع من الطب للفترة 2014-2023.

فما هو إذن هذا الطب التقليدي؟ ولما يفضل البعض إبقاءه تكميليا فقط؟ وما هي أنواع العلاجات الطبيعية التي ظلت تستعمل حول العالم رغم تطور الطب الحديث؟ وكيف أصبحت بعض الدول -خصوصا الآسيوية- تعتمده كعلاج معترف به رسميا؟

مهارات الشعوب التقليدية.. علاج باعتراف المنظمة العالمية للصحة

غيرت منظمة الصحة العالمية منذ 2002 استراتيجيتها تجاه الطب التقليدي، وأصبحت تعتبره بديلا حقيقيا أثبت جودته ونجاعته، ويسهم في ضمان حصول كافة البشر على الرعاية المطلوبة، إذا استعمل بطريقة آمنة ومعقلنة.

وتعرّف المنظمة الطب التقليدي بمجموع المعارف والمهارات والممارسات التي استخدمتها الشعوب والقبائل الأصلية على مر الزمن، للحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض الجسدية والعقلية وتشخيصها وعلاجها.

الإبر الصينية علاج تقليدي صيني قديم لا يزال يستخدم حتى عصرنا هذا

وحددت المنظمة شروط ممارسة هذا الطب التقليدي في استراتيجيتها العالمية، خصوصا للفترة 2014-2023، لتساعد القائمين بشؤون الرعاية الصحية في عدد من الدول، على إيجاد سبل تقديم طب تقليدي وشعبي آمن، يمكن المريض من رؤية أوسع لتحسين صحته وتحقيق استقلاله الذاتي.

وجاء هذا الاهتمام من المنظمة العالمية للصحة نتيجة الأرقام التي تشير إلى استمرار إقبال السكان على العلاجات التقليدية بدلا من وسائل الطب الحديث، إذ تقدر نسبة هؤلاء بـ80% في أفريقيا وآسيا. كما أظهرت دراسات عدة أن أغلبية السكان في الدول المتقدمة جربوا بالفعل علاجا تقليديا مكملا مثل الوخز بالإبر أو الحجامة.

ويزيد الإقبال على العلاجات التقليدية كلما قلت أعراضها السلبية المحتملة، وهذا ما يفسر تزايد الإقبال على الوخز بالإبر الصينية والتدليك والتأمل وغيرها، مقارنة بتلك التي تعتمد على الاستهلاك المباشر كالأعشاب والمحاليل الطبيعية.

الأعشاب والعسل.. أدوية طبيعية ألهمت الطب الحديث

نجد اليوم أن حوالي 40% من المنتجات الصيدلية المستعملة في الطب الحديث مستمدة من مواد طبيعية جرى التأكد من سلامتها، وأخضعت لتجارب سريرية، وتكون عادة مشتقة من أعشاب ونباتات كالكركم والزنجبيل والبابونج والعسل، وغالبا ما تكون فعالة في الأمراض البسيطة كالتهابات الحلق واضطرابات الجهاز الهضمي.

كما ساهمت هذه الأعشاب والنباتات أيضا في صناعة أدوية لعلاج أمراض مستعصية، فالأسبرين الذي أحدث ثورة في خفض الآلام والأوجاع اكتشف بناء على تركيبات الطب التقليدي الذي كان يستخدم لحاء شجرة الصفصاف، كما أن علاج “الملاريا” بمادة “الأرتيميسينين” استمد من خلطات طبيعية موجودة في نصوص الطب الصيني القديم.

العسل هو أحد أهم الوصفات الطبية في الطب البديل لما فيه من فوائد كشف عنها العلم

وقد أظهر هذا المزج بين الأعشاب الطبيعية والطب الحديث كفاءة العلاجات القديمة التي استعملت منذ القدم، فالعسل مثلا معروف بفوائده الطبية الكثيرة، خاصة عند العرب ودول الشرق الأوسط، وأثبت قدرته على شفاء كثير من الأمراض، ويستعمل ضمن الطب البديل لعلاج السعال والتهاب اللوزتين.

وينصح الأطباء أيضا بشرب الماء بالعسل الذي يشبه مفعوله مفعول المضادات الحيوية، كما أنه يحتوي على مضادات الأكسدة وعدد من الفيتامينات والأنزيمات المقاومة للبكتيريا. وبالإضافة إلى فوائده العلاجية، يستعمل العسل على نطاق واسع في مجال التجميل، خصوصا للعناية بالبشرة والشعر.

علاج الحجامة.. عودة إلى التراث الطبي للحضارات القديمة

لا تقتصر العلاجات الطبيعية على الأعشاب والنباتات الطبية، بل تمتد أيضا إلى عدد من الممارسات التي تستهدف الجسد والعضلات والدم المتدفق في العروق، ولعل من أشهرها الحجامة التي عرفتها البشرية منذ عصر الآشوريين والفراعنة منذ سنة 2200 قبل الميلاد، كما تطورت كثيرا في الصين قبل ثلاثة آلاف سنة، إلى جانب الإبر التي تعتبر إحدى أسس الطب الشعبي الصيني.

وقد انتشرت الحجامة -التي تعتمد على إزالة الدم من الجسم بطرق مختلفة- بشكل كبير لدى العرب، وتبناها الإسلام بعد ظهوره، إلا أن الإقبال عليها تراجع مع تطور الطب الحديث، قبل أن تعود إلى الواجهة في السنوات الأخيرة، وتتطور ممارستها بتقنيات جديدة، مستفيدة من علاج الوخز بالإبر الصيني الذي يعتبر أحد أكثر أشكال الطب التكميلي شعبية واستخداما في جميع أنحاء العالم.

الحجامة.. طريقة علاج عرفتها الأمم منذ ألوف السنين

وتستهدف الحجامة بالطريقة الصينية نقاط الطاقة في الجسم المعروفة برمز “كيو آي” (Qi)، التي يعتبرها الطب الصيني أساس تطور الحالة المرضية واعتلال الصحة، إذ توضع أكواب زجاجية مليئة بالهواء الساخن فوق هذه النقاط لتعزيز تدفق الطاقة حول خطوط الطول في الجسد، وهو ما يساعد في التخفيف من الآلام وتخفيف الأوجاع.

أما الطريقة التقليدية العربية فهي تعتمد على إحداث جروح في مناطق معينة لسحب الدم المتكدس داخل الجسم. وتتطابق أهداف الطريقتين في التخلص من الخلايا الميتة وتنقية الدم، وتحفيز تجديد الخلايا ونشيط الدورة الدموية.

ورغم عدم وجود دليل على أن الحجامة علاج طبي مؤكد، فإن ممارسيها يزعمون أنها تساعد في تخفيف آلام العضلات والتهاب المفاصل، ويستعملها الرياضيون من أجل تخفيف الآلام والمساعدة في علاج الإجهاد البدني الناتج عن التدريب والمنافسات. وقد استعملت بكثرة في أولمبياد ريو دي جانيرو 2016، فقد ظهر السباحون ولاعبو الجمباز وعلى أجسادهم علامات بشكل دوائر حمراء، بسبب لجوئهم إلى الحجامة الجافة التي تستعمل الكؤوس الساخنة على الجلد لسحب الأنسجة اللينة من سطح الجسم.

“كنز الحضارة الصينية”.. انتقادات دولية لتجارة ضخمة

وصف الرئيس الصيني “شي جين بينغ” الطب التقليدي بأنه “كنز الحضارة الصينية”، كيف لا والصين هي الدولة الأكثر توثيقا لممارستها الطبية التقليدية التي استخدمها المعالجون الصينيون لأكثر من 3000 عام، مستغلين الأعشاب والأتربة وبعض أجزاء الحيوانات، وحتى الوخز بالإبر استنادا إلى مفهوم الطاقة التي تتدفق عبر مسارات محددة بالجسم.

وقد حصلت الصين في 2016 على اعتراف منظمة الصحة العالمية وإشادتها بمجهوداتها لتوسيع نطاق القبول العالمي للأدوية التقليدية التي تقول بعض التقارير إنها تدرّ على اقتصاد هذه الدولة الآسيوية عائدات تبلغ نحو 50 مليار دولار أمريكي سنويا.

ويشكل الطب البديل منافسة حقيقية لمختبرات الأدوية في العالم، على اعتبار الصين سوقا استهلاكية ضخمة، فقد سعت هذه المختبرات جاهدة لكشف عيوب هذه العلاجات التقليدية، وطالبت بإخضاعها لدراسات وتجارب قبل إعطائها التراخيص اللازمة. وقامت دراسة بريطانية نشرت سنة 2018 باختبار 487 منتجا صينيا يتعاطاه المرضى، وكشفت أن هذه المستحضرات تتوفر في تركيبتها على أزيد من 1200 عنصر خفي، من بينها عقاقير محظورة وأنسجة حيوانية، وحتى نباتات تنتج مواد كيميائية سامة. بالإضافة إلى أن بعض العينات أظهرت وجود أحماض نووية لأنواع حيوانية مهددة بالانقراض أو محمية بموجب القوانين الدولية.

وبسبب هذه الانتقادات أعلنت الحكومة الصينية أنها تعتزم تقنين تجارة قرون وحيد القرن وعظام النمور، إذ تشكل هذه التجارة تهديدا لوجود هذه الأصناف البرية بسبب الصيد غير المشروع، خصوصا أن بعض المعالجين يعتقدون أنها تساعد في علاج مجموعة من الأمراض، بدءا من الحمى وصولا إلى العجز الجنسي، رغم عدم ثبوت ذلك بشعل علمي.

حبة البركة.. علاجات إسلامية أثبتتها الأبحاث الحديثة

يدعو الدين الإسلامي إلى التداوي كضرورة وواجب، وقد حارب الخرافات الطبية، ونهى عن استشارة العرافين والكهنة، وحث على النظافة وحفظ الصحة في العبادات من وضوء وصوم. ويقول علماء الدين إن الله جعل الشفاء في القرآن الكريم مصداقا لقوله تعالى: “وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ”.

ويختلف العلماء حول طبيعة الشفاء المقصود في الآية القرآنية، إن كان شفاء للقلوب فقط، ويمسّ الجانب النفسي والعقلي، وليس الأمراض العضوية بشكل مباشر، أم أنه ينفع كليهما؟

لكن الترابط بين الجانب النفسي والعضوي الذي أكدته الأبحاث العلمية يظهر أن شفاء الجسد يمر أولا عبر صفاء الذهن وراحة البال. ومن هنا يجمع الباحثون على ضرورة التوكل والأخذ بالأسباب، من خلال الذهاب إلى الأطباء والخضوع لتعليماتهم، مع التوكل على الله، وطلب الشفاء منه واللجوء لقراءة القرآن، والأخذ بالأحاديث الواردة في الحث على التداوي ببعض السور القرآنية.

أثبتت البحوث الطبية بأن حبة البركة أو الحبة السوداء لها فوائد صحية كثيرة

وتحدث القرآن الكريم أيضا عن شفاء الأبدان لعموم الناس، مقدما عسل النحل كمثال على ذلك فقال: “يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ”، وهذه دعوة مباشرة للإقبال على تناول العسل للشفاء من بعض الأمراض العضوية، وهو ما أثبته العلم بشكل ملموس.

كما نصّت أيضا أحاديث صحيحة منقولة عن رسول الله ﷺ، على نصائح وأمور تتعلق بكيفية العلاج من بعض الأمراض، وأصبح هذا المنهج يسمى الطب النبوي الوقائي والعلاجي. فبالإضافة إلى تناول العسل وممارسة الحجامة، أوصى رسول الله ﷺ بالتداوي بالحبة السوداء -أو حبة البركة- التي أكدت دراسات كثيرة نشرت في دوريات علمية في روسيا والنمسا وألمانيا، فوائد استخدامها في علاج عدد من الأمراض، من بينها أمراض الكبد والجهاز الهضمي، كما أنها تساعد في تقوية الجهاز التنفسي وتحسين مستويات الطاقة أثناء ممارسة التمارين الرياضية، وهو ما سبق ذكره في تعاليم الطب التقليدي، إذ قال العالم والفيلسوف ابن سينا في كتابه الشهير “القانون في الطب” إن حبة البركة يمكن أن تحفز الطاقة وتساعد في التغلب على الإرهاق والإجهاد.

سوء الاستخدام وعبث المتطفلين.. أخطاء قاتلة

لا يمكن بأي حال من الأحوال تهميش العلاجات الطبيعية وفوائد استعمالها بشكل معقول، ودورها في تطور الطب الحديث الذي اعتمد عليها لصناعة عقاقير أثبتت فعاليتها في علاج كثير من الأمراض.

لكن الإشكال في هذه العلاجات التقليدية أو الشعبية هو صعوبة حصر استعمالها، وكثرة المتدخلين في مسار العلاجات بها، فالاستخدام غير الصحيح لبعض الأعشاب والخلطات قد يسبب مشاكل صحية يمكن أن تتطور إلى التسمم أو الوفاة أو فقدان بعض خصائص الأعضاء الحيوية.

حيث يستغل بعض “العطارة” أو ممارسي الطب البديل ومراكز العلاج بالأعشاب، حماس المرضى الزائد لبعض العلاجات التقليدية، أو تأثرهم بتجارب لمرضى سابقين، من أجل بيع منتجاتهم دون أن تكون لديهم خبرة كافية، أو دراية بالأعراض الجانبية لهذه العلاجات.

سوء استعمال الطب البديل يمكن أن يؤدي إلى أعراض جانبية مؤذية وأحيانا مميتة

فالاستخدام غير الصحيح لعشبة “الإيفيدرا” يسبب في مضاعفات خطيرة لمرضى القلب والضغط الدموي وداء السكري، وقد أدى الترويج له -في الولايات المتحدة وكندا- لأغراض تخفيف الوزن أو بناء الأجسام وزيادة الطاقة، واستخدامه على المدى الطويل إلى حدوث وفيات وأزمات قلبية في بعض الحالات.

أعشاب كورونا.. سلاح ذو حدين قد يؤدي إلى الموت

خلال أزمة كوفيد 19 الصحية ظهر إقبال كبير على استعمال بعض الأعشاب كالقرنفل والشيح والزعتر والعرقسوس والشاي الأسود وغيرها، في ظل غياب دواء فعال ضد الفيروس، وخصوصا بعد نشر معلومات أفادت بأن 85% من المصابين بكورونا في الصين تلقوا ‏مزيجا من العلاج الدوائي والتقليدي‎.

لكن النتائج أحيانا جاءت عكسية، وتسبب الإصرار على هذا العلاج في وقوع حالات تسمم، وأيضا في تفاقم بعض الحالات بسبب تأخر تناول البروتوكولات العلاجية المعتمدة في عدد من الدول.

يصعب تهميش دور العلاج التقليدي أو تقزيمه لأنه واقع معاش في حياة الشعوب

وينصح الأطباء أيضا بالتشاور معهم قبل تناول بعض المكملات العشبية التي قد تؤثر سلبا على العلاجات الأساسية لبعض الأمراض، نتيجة تفاعلها مع الأدوية، مما يقلل فعاليتها، أو يتسبب في مشاكل أثناء العمليات الجراحية قد تتطور إلى مضاعفات مميتة مثل زيادة خطر النزيف.

وبما أن العلاج التقليدي هو واقع معاش، ويصعب تهميشه أو تقزيم دوره في حياة الشعوب، رغم التطور الذي يعرفه الطب الحديث، فإن مسألة التكامل في العلاج تبقى أمرا محمودا، ولكن مع إعطاء منظومة الطب البديل والتكميلي المكانة التي تستحقها، ومحاربة المتطفلين على الميدان، وخلق مراكز أبحاث حول هذا المجال، وتقنين استعمال مختلف طرق العلاج التقليدي المتعارف عليها.