العصر الذهبي للعلوم.. شعاع علم البصريات الأول الذي أطلقه ابن الهيثم

يدخل الضوء ذلك الشعاع الكهرومغناطيسي الذي تدركه أبصارنا في جميع التطبيقات في حياتنا اليومية، وقد ظل محط اهتمام وبحث العلماء على مر التاريخ، محاولين فهم ماهيته.

لقد شهد عالمنا المعاصر نزوعا لا مثيل له نحو التكنولوجيا، ويعد علم البصريات والضوء ركيزة مهمة لهذه الطفرة والتطور الذي لم يأت محض صدفة أو مرة واحدة، بل امتد منذ العصر الذهبي للعلوم في الإمبراطورية الإسلامية.

يصحبنا في هذا الفيلم الوثائقي العلمي البروفيسور في علم الفيزياء النظرية جمال خليلي، ويوضح لنا خلاله التطبيقات المتطورة لعلم البصريات والضوء وتتبع أصوله وموارده.

في الأردن.. مشروع المركز الدولي لضوء السنكروترون

في الأردن يقام مشروع عملاق للمركز الدولي لضوء السنكروترون للعلوم التجريبية وتطبيقاتها “سيسامي” (Synchrotron-light for Experimental Science and Applications in the Middle East)، وهو مسارع جسيمات سيولد ضوءا ذا طاقة عالية، باستخدام تجارب غير مسبوقة.

إن الضوء الذي يولده هذا السينكروترون سوف يمكّن العلماء والباحثين من دراسة تركيب المادة بالتفصيل وبصورة دقيقة لا يمكن تصورها.

الدكتور ماهر عتال قائد مجموعة الفيزياء بجامعة البلقاء التطبيقية يشرح مبدأ عمل السنكروترون

فعلى سبيل المثال يقوم العلماء بإجراء تجارب لمعرفة كيفية نمو السرطان في الخلايا الحية، كما يمكنهم بواسطته تحليل التصدعات في هياكل الخرسانات ومعرفة أسباب سقوطها، أو معرفة أسباب تلوث التربة وغيرها من الأمور الأخرى.

يجمع هذا المسارع ثلة من علماء الشرق الأوسط والدول المجاورة لإجراء أبحاث في الطب والهندسة يستفيد من نتائجها الجميع.

استجلاب العلماء.. بذرة الثورة العلمية

بالعودة إلى تاريخنا الإسلامي نجد أن الخلفاء المسلمين حرصوا إبان القرون الوسطى على جلب العلماء من شتى أرجاء البلاد، وقد حرص أولئك العلماء بدورهم على اتباع الطرق العلمية في البحث، ودأبوا في عملهم المجدّ ليصنعوا ثورة علمية عظيمة، وقد نهج علماء العصر الحديث نهج أولئك واقتفوا أثرهم في التجربة والتطبيق.

لم يدخل “سيسامي” حيز التشغيل بالكامل، لكن بمقدورنا معرفة كيفية إنتاج الضوء في هذا المسارع باستخدام إلكترونات تتحرك بسرعة هائلة.

طيف عينة الجلد يظهر على شاشة الكمبيوتر بعد تصوير العينة من قبل جهاز السينكروترون لدراسة الخلايا السرطانية

يقول الدكتور ماهر عتال أستاذ الفيزياء وقائد مجموعة الفيزياء بجامعة البلقاء التطبيقية: “تكمن مهمة حلقة التسريع في هذا المسارع في زيادة طاقة الإلكترونات لإنتاج الطاقة الضوئية، حيث تنتج الإلكترونات التي يمكن تسريعها لتبلغ مستوى محددا من الطاقة، ثم تضخ إلى حلقة التسريع عن طريق مدفع إطلاق الإلكترونات، ثم تسرّع بواسطة مصدر التردد الهوائي “أر إف” الذي هو مغناطيس ثنائي القطب، وبعد التسريع يمكن استخلاصها عبر قناة التحويل لتمريرها إلى داخل سينكروترون التشغيل”.

دراسة الجلد.. أثر الضوء في التطبيقات الطبية

يجري تسريع الإلكترونات داخل حلقة التدوير للحصول على طاقة قد تصل سرعتها لسرعة الضوء تقريبا، ثم تحقن في حلقة التخزين، وبعد ذلك يجمع شعاع الإلكترونات لتوليد طاقة الضوء السينكروترون، وبذلك يمكن استخدامه في مختلف التجارب العلمية.

وهناك تجارب يمكن أن تجرى بدون ضوء السينكروترون، حيث تقوم الباحثة الدكتورة ورود شديد بإجراء تجاربها بالأشعة تحت الحمراء، وهو ضوء لا يرى بالعين المجردة.

بحسب مبدأ ابن الهيثم “سير الضوء في خطوط مستقيمة” يظهر الكسوف مقلوبا بين أوراق الشجر ومن خلال ورقة مثقوبة

تقوم الدكتورة بدراسة تأثير العقاقير على جسم الإنسان وعن طريق الحاسوب يمكننا أن نرى معطيات الميكروسكوب، وتشرح الدكتورة ورود عن عينة جلد ستقام عليها الدراسة، فعند الضغط على أي نقطة تحصل على التحليل لدرجات سلم الطيف لهذه النقطة، فإذا أضافت دواء على عينة الجلد فإن المنحنيات في سلم الطيف ستتغير، وهكذا تستطيع دراسة آثار الدواء على عينة الجلد.

ولكن عند تشغيل السينكروترون ستحصل ورود على فرصة أفضل في أبحاثها، حيث أنها ستحصل على ضوء شديد التوهج يتيح لها إجراء تجارب بشكل أوضح وأكثر دقة، وبالتالي ستكون النتائج أفضل.

ابن الهيثم.. رائد علم البصريات المجنون

إن استخدام السينكروترون في التجارب العلمية يحتاج لفهم رياضي دقيق لطبيعة الضوء، فقد اعتمد علماء المسلمين على تحليل حسابي للعلوم، وهم أول من أرسى قواعد طبيعة الضوء. ويعتبر كثيرون أن إسحق نيوتن هو مؤسس علم البصريات، لكن الحقيقة أن ابن الهيثم المولود في البصرة هو الرائد والمؤسس لهذا العلم.

تجارب ابن الهثيم تقلب مفاهيم الإغريق السائدة عن الضوء ويثبت بأن الجسم هو الذي يرسل شعاعا فتبصره العين

فقد برع ابن الهيثم في علم البصريات والرياضيات والفلك وكثير من العلوم الأخرى، وفي شبابه سافر إلى مصر واعدا الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أن يبني سدا يوقف فيضان نهر النيل، لكن عندما ذهب إلى مصر أدرك أنه من غير الممكن فعل ذلك من الناحية الفنية، فتظاهر بالجنون ليفلت من غضب الخليفة الذي أرسله إلى مصح عقلي، وفي المصح قام بتأليف كتابه القيم “المناظر” الذي أسس فيه لعلم البصريات.

القمرة المظلمة.. مبدأ البصريات الذي صنع الكاميرا

يقوم المهندس مهدي الحداد من جامعة كامبريدج بإجراء أهم عملية قام بها ابن الهيثم، وهي الحُجرة المعتمة أو القُمرة المظلمة التي منها اشتق اسم الكاميرا، فالمطلوب في هذه التجربة غرفة معتمة وثقب على أحد شبابيكها ولوحة بيضاء، وفيها ظهر برج لندن بكامل تفاصيله وبشكل مقلوب على اللوح.

القمرة المظلمة هي غرفة معتمة يسمح للضوء بأن يدخل إليها من ثقب صغير فتظهر صورة الأشياء فيها مقلوبة

إن تجربة القُمرة المظلمة هي بمثابة كاميرا كبيرة الحجم ذات ثقب أراد ابن الهيثم بها أن يثبت أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، وقد أسهم تفسير ابن الهيثم للحجرة المعتمة في فهمنا الحالي لآلية عمل الجهاز البصري لدى الإنسان فالعين نفسها هي الحجرة، وينطبق الأمر ذاته على التصوير الفوتوغرافي الحديث.

وهذه الظاهرة بذاتها هي التي تحدث أثناء كسوف الشمس حين تتخلل أشعتها المكسوفة أوراق الشجر وتسقط على الأرض بنفس شكل الكسوف، لكن بصورة مقلوبة جانبيا حفاظا على مبدأ ابن الهيثم في سير الضوء بخطوط مستقيمة.

“كتاب المناظر”.. أعظم المراجع العلمية في الفيزياء

في مدينة إسطنبول حيث يوجد متحف التكنولوجيا والعلوم الإسلامية تعكف “زينب كليلي” إحدى مشرفات المتحف على شرح أعمال ابن الهيثم بما فيها التفسير العلمي لأسباب ظهور الصورة مقلوبة رأسا على عقب.

تقول زينب: يمر شعاع الضوء العلوي عبر الثقب، في حين ينتهي المطاف بشعاع الضوء السفلي في أعلى الجدار تتقاطع الأشعة لأنها تسلك أقصر المسارات وتسير بخطوط مستقيمة، إن حقيقة سير الضوء بخطوط مستقيمة كانت قبل ابن الهيثم إلا أنه استطاع إثبات ذلك رياضيا.

في متحف العلوم بحديقة “غولهان بارك” بإسطنبول زينب كليلي تشرح مبدأ عمل الكاميرا ذات الثقب

يرد ذكر “كتاب المناظر” لابن الهيثم كواحد من أعظم المراجع العلمية في الفيزياء، وقد تُرجم إلى اللاتينية وكان له أثر على كبار علماء عصر النهضة الأوروبي كـ”دافنشي” و”ديكارت” وغيرهم.

انعكاس الضوء على العيون.. دحض نظرية الإغريق

قبل ابن الهيثم كانت نظرية الإغريق في الرؤية هي السائدة، فعلماء مثل أفلاطون وإقليدس تبنوا نظرية أننا نرى الأشياء لأن أعيننا ترسل عليها ضوءا فنبصرها، لكن ابن الهيثم دحض نظريتهم وفندها موضحا بأن الرؤية تحدث من خلال الضوء الواصل إلى أعيننا من الأشياء بعد انعكاسه عنها، أو مباشرة من خلال الأجسام المضيئة حولنا كالشمس والشموع.

وبذلك جمع بين النظرية والتجريب العملي، وإليه يرجع الفضل في ابتكار تجارب عملية متناهية الدقة، وقد أضفى صفة رياضية على جميع نظرياته، وهكذا أضاء العالم بعلمه ومعرفته.