العقبة.. ثغر الأردن الضاحك للبحر الأحمر

العقبة أو “ثغر الأردن الباسم” -كما يحلو للأردنيين تسميتها- هي المنفذ البحري الوحيد للأردن، وتقع في أقصى جنوب المملكة على البحر الأحمر.

قدّم مجموعة من الشباب مشروع فيلم يحكي قصتها، وأنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، لتعرضه ضمن سلسلة حلقات برنامجها “قلب مدينة”.

على أنغام السمسمية يحلو السمر

سوف يصحبنا المؤرخ المتخصص في تراث وتاريخ العقبة السيد عبد الواحد عبد الله الذي يقول: أحب العقبة، وكما يقولون “مسقط الرأس غالٍ”، فأنا عقباوي وكذلك أبي وجدي، أحب مدينتي كحب السمك للماء، البحر هنا رمز العطاء والرزق، وبيننا وبينه ألفة ومحبة.

أما جلسات السمر على شاطئ البحر وعلى أنغام السمسمية (آلة موسيقية وترية صغيرة يشتهر بها أهل المدن الساحلية على البحر الأحمر) فتلك قصة أخرى:

أنا من العقبة يا عيوني
من فوق المركب شوفوني

وعينيّ وإيديّ عالصنارة
والشبكة من العقبة أنا من العقبة

يسكن العقبة خليط متجانس من العرب، فمنهم الحجازيون والسوريون والمصريون والفلسطينيون، تجمعهم لهجة محلية عقباوية خاصة، يتفاهمون بها وتميزهم عن اللهجات الأردنية الأخرى، بل وتقترب كثيرا من اللهجة المصرية.

السمسمية هي الأداة الموسيقية المحلية التي يعزف عليها العقباويون في حفلاتهم ومناسباتهم

أعراق العقبة المتجانسة.. عالم عربي مصغر

يقول عبد الله المنزلاوي، وهو باحث ومؤرخ في تاريخ مدينة العقبة: تنقلت العقبة المعاصرة وما حولها تحت حكم ممالك متعددة، فقد كانت تابعة للحكم المصري حت عام 1892، ثم صارت تابعة للحجاز حتى 1924 ثم انتقلت إلى إمارة شرق الأردن بعد ذلك، إلى أن أعلن شرق الأردن مملكة مستقلة، ومن هنا يمكن أن نفهم طبيعة النسيج السكاني لأهل العقبة.

بينما يقول أحمد اليماني وهو مالك أقدم مكتبة في العقبة: كان جدّ والدي أحد الأسرى الذين جلبهم الأتراك من اليمن، أخذوهم وجنّدوهم لحراسة القلاع العثمانية الممتدة من المدينة المنورة في الحجاز إلى سيناء في مصر، وكان نصيب جدي حراسة القلعة في العقبة هنا، وهكذا استقر في العقبة شأنه شأن كثير من المواطنين العرب من دول مختلفة.

مقهى الشناوي أقدم مقهى في العقبة ما يزال يقدم حلوى “اللحوح” العقباوية والشاي والقهوة بالطريقة التقليدية

يبلغ عدد العائلات في العقبة إلى أكثر من خمسين عائلة استقر بعضهم هنا من قبل الحرب العالمية الأولى، فمنهم اليساينة -نسبة إلى ياسين- الذين جاؤوا من حلب السورية، وعائلة الكباريتي والضابط اللتان جاءتا من غزة فلسطين، وعائلة السنوسي القادمة من ليبيا، وعائلة البسيوني التونسية، وعائلة المغربي من مراكش المغربية، واليماني من اليمن، وعائلة رضوان وعائلة الفاخري من الحجاز.

وهناك عائلات من بلاد عربية أخرى مثل مصر والجزائر يتعايشون فيما بينهم ويتزاوجون، حتى أن عبارة “يا خال” صارت مشتهرة على ألسنة العقباويين لكثرة علاقات المصاهرة وقوة روابط النسب بينهم.

يقول عادل علي، صاحب أقدم صالون حلاقة في العقبة: تأسس هذا الصالون سنة 1948، عندما هاجر جدي من منطقة بئر السبع بفلسطين واستقر هنا في العقبة، وكانت العقبة صغيرة في ذلك الزمان، فإنما هي حارة أو حارتان، ولا يزيد عدد سكانها عن ألف نسمة، ثم توسعت وازدهرت حتى صارت مدينة شاسعة المساحة عامرة بالسكان كما نرى اليوم.

ما يزال أهل العقبة يصنعون قواربهم الخشبية الزجاجية التي تسمح للراكب أن يرى الشعب المرجانية في البحر

ساحل البحر الأحمر.. هبة الله لأهل العقبة

تعتبر العقبة مدينة سياحية، فهي -بالإضافة إلى تاريخها وتراثها الضارب في القدم- مدينة ساحلية تقع على خليج العقبة الممتد من البحر الأحمر، يقصدها السائحون من مختلف مناطق العالم، وتشتهر بالحرف اليدوية التي تجتذب السياح، ومنها صناعة الرمل الملون الذي يجلبونه من مدينة البتراء ووادي رمّ، ويعبأ في أواني زجاجية بأشكال وألوان زاهية.

يمتهن أكثر أهل العقبة صيد السمك بشكل أساسي، وكانت الثروة السمكية في العقبة وافرة جدا قبل حرب 1967، حتى وصلت صادرات العقبة من الأسماك إلى جنوب سوريا والضفة الغربية في فلسطين والسعودية.

يبدأ يوم الصيادين باكرا في السادسة صباحا، ويستمرون في البحر حتى غروب الشمس، ثم يبيعون محصولهم إلى المستهلكين الأفراد الذين ينتظرونهم على الشاطئ، وأما الكميات الكبيرة فيذهبون بها إلى التجار والمحلات الكبيرة في السوق المركزي، ويحرصون على الاحتفاظ بشيء للعائلة.

وتتفاوت مواسم الصيد وكميات الأسماك وأنواعها، ويمكن تقسيم السنة إلى أربع دورات سمكية، فهذا موسم “التونا” وذلك موسم “الهامور” وهكذا. وللصيادين علاقة حميمة مع البحر، فهو حياتهم ومصدر رزقهم، ولهم معه طقوس، وحتى طيور البحر لا ينسونها، فما يزيد معهم من السمك الصغير “الطُعم”، يلقونه على الشاطئ لتتغذى عليه الطيور، فيعود عليهم بالبركة في الرزق في اليوم التالي.

سمك الهامور هو وجبة الضيافة الرئيسية على الصيادية العقباوية فخر الطعام في تلك المدينة

وجبة الصيادية.. رمز الكرم العقباوي

أشهر الأكلات الشعبية في العقبة هي “الصيادية”، وهي رمز الكرم العقباوي في استقبال الضيف، وتقدَّم في المناسبات الكبيرة أيضا، ويستخدم فيها سمك “هامور الشلو” الكبير نسبيا لوفرة اللحم فيه وطعمه الطيب، وتُطهى بطريقة خاصة مع صلصاتها المميزة، وتقدم مع طبق الأرز بتوابله التي يتميز بها أهل العقبة، وهناك أطباق أخرى مثل “الكُشنة” والسمك المشوي والمقلي وغيرها.

وفي مقهى “الشناوي” يحلو السمر، وهو مقهى تأسس سنة 1960، وكان يرتاده كبار رجالات العقبة، من المسؤولين الحكوميين والتجار وشيوخ العشائر، وكذلك الصيادون والمواطنون القادمون من البادية الأردنية للتزود بالمواد التموينية، وتقدّم في المقهى القهوة العربية والمشروبات الساخنة، إضافة إلى الحلوى العقباوية المشهورة “اللحوح”.

كجزء من التراث، يلعب العقباويون من كبار السن ما يسمى بلعبة “السيجة والطاب”

يحدثنا المؤرخ أحمد عبيد عن ألعاب التسلية الشعبية مثل “السيجة والطاب” وهي لعبة يتوارثها الأبناء عن الآباء منذ القدم، ويلعبها شخصان باستخدام قطعة مستطيلة من الخشب عليها مربعات صغيرة، وجنودها عبارة عن قطع من الحجارة من لونين؛ فريق غامق وآخر فاتح، بالإضافة إلى أربعة أعواد متساوية الطول مقطوعة من جريد النخيل.

من الأحياء المشهورة في العقبة منطقة “الحفاير”، وهي تشتهر بزراعة النخيل والبقوليات والنباتات المنزلية الأخرى، وعلى الرغم من مجاورتها للبحر المالح، فإن تربتها تحتوي تحتها على مياه حلوة صالحة للري والشرب، يستخرجها أهلها بحفر الآبار على أعماق قليلة.

حفلات الأعراس العقباوية تمتد عادة لثلاثة أيام وتنتهي بـ”المَدّة” وهي وليمة العرس

عرضة الرفيحي.. حفلات الأعراس في العقبة

رغم اندثار صناعة القوارب الخشبية تقريبا في العقبة، وحلول القوارب من مادة “الفايبر” مكانها، فإن السيد قاسم حماشة ما زال يعمل في هذه المهنة التي ورثها عن آبائه وأجداده، ويعتبر نفسه من المحافظين على إرث العقبة وتراثها، وهو يزين قواربه الخشبية بفتحة زجاجية في الأسفل، تتيح للركاب التمتع بمناظر البحر الأحمر الخلابة من الشعب المرجانية والأصداف والأسماك الملونة.

حفلات الأعراس في العقبة لها مذاق فريد، فهي تنبض بدفء المودة والقربى والأُلفة، إذ يجتمع الناس للاحتفاء بالعريس عدة ليالٍ يسمرون فيها ويغنون ويرقصون، ويأكلون ما لذ وطاب من الأطباق الشهية التقليدية التي يقدمها أهل العريس كوليمة لهذه المناسبة السعيدة، وتسمى الليلة الأولى في هذا الحفل السهرة أو التعليلة، وفيها يسمر الشباب ويدبكون الدبكات الشعبية ومن أشهرها عَرْضَة الرفيحي.

وفي الليلة الثانية يسمر أهل العريس وأقرباؤه وأصدقاؤه على أنغام “السمسمية”، ويستقدمون لهذا الغرض فرقة متخصصة بالعزف على السمسمية فتشدو بالغناء الملائم لحفلة العرس، ويرافق ذلك استعراض على ظهور الخيل مع اللعب بالسيوف.

وفي اليوم الثالث ينحر أهل العريس الإبل ويذبحون الأغنام لإطعام “المعازيم” المدعوين لحفل الزفاف، وتقدم اللحوم مع الأرز “البخاري” المطهو بطريقة خاصة، والمضاف إليه اللوز والصنوبر وأنواع التوابل الشهية، ووليمة العرس في العقبة تسمى “المَدَّة”.

قلعة العقبة، حيث كان كل سكان العقبة يسكنون وكانت تستقبل قوافل الحجيج والتجار

فتح العقبة.. هدية رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقال إن تسمية العقبة بهذا الاسم جاء بسبب صعوبة الوصول إليها من جهة البر، فمدخلها الشمالي يمرّ عبر مرتفعات “النقب” الشاهقة، وتشير بعض الأحافير إلى أن تاريخ العقبة يعود إلى 3000 سنة، وكانت تسمى “أيلة” في عهد الأدوميين، وعثر فيها على أواني فخارية تزينها نقوش مسمارية وعربية قديمة.

ثم خضعت العقبة لحكم الأنباط، وهم قبائل عربية جاءت من اليمن قبل 400 سنة من ميلاد السيد المسيح، وفي عهدهم اشتهرت العقبة كممر استراتيجي لتجارة الحرير، ثم احتلها الرومان في العام 64 الميلادي، ويعتقد أن الآثار البيزنطية فيها تشير إلى أقدم كنيسة مسيحية عرفها العالم على الإطلاق.

ثم فتحها المسلمون صلحا في السنة التاسعة للهجرة، الموافقة للعام 630 الميلادي، وأهداهم الرسول صلى الله عليه وسلم بردته وهو في غزوة تبوك، وقد احتفظوا بها حتى جاءت الدولة العثمانية ونقلتها إلى إسطنبول، وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان بنى المسلمون مدينة “إيلة” الإسلامية، وجعلوا لها أربع بوابات: بوابة مصر وبوابة الشام وبوابة البحر وبوابة الحجاز.

وقد غزاها الصليبيون في العهد الفاطمي، مما اضطر سكان إلى المدينة إلى تركها خوفا على أنفسهم، ثم أعادها القائد صلاح الدين الأيوبي إلى حظيرة الدولة الإسلامية، ويتوسط مدينة العقبة برج ضخم وقلعة حصينة تعود إلى أواخر حكم الأيوبيين وأتمها وزاد عليها المماليك، وقد اتخذوها مركزا استراتيجيا هاما للسيطرة على مناطق حكمهم في فلسطين والشام.

في نهاية القرن الثامن عشر كانت العقبة هي منطقة القلعة فقط، وكان جميع أهلها يسكنون داخل القلعة، ثم لما زاد عددهم وضاقت بهم القلعة انتقلوا إلى خارجها وبنوا مساكنهم ومتاجرهم وأسواقهم خارج أسوار القلعة، وبهذا تكون نواة العقبة الحديثة قد تشكلت.

لمدينة العقبة امتداد بفلسطين في أم الرشراش التي تدعى إيلات، لكنها محتلة كحال بقية المدن

أم الرشراش.. شقيقة العقبة المحتلة

أثناء الحرب العالمية الأولى كانت العقبة في قلب الحدث، وقد تعرضت للقصف عدة مرات، ولكن الحدث الأكبر كان احتضانها لطلائع الثورة العربية الكبرى في 1916، وقد بدأت زحفها من الحجاز، وكانت العقبة هي البوابة الفاصلة التي نقلت الثورة من مهدها في جزيرة العرب إلى شرق الأردن والشام والعراق.

في عام 1924 استقبلت العقبة الشريف الحسين بن علي قائد الثورة العربية، وما يزال النزل الذي أُعِدَّ لاستقباله قائما حتى يومنا هذا، ومن العقبة انطلق الشريف إلى معان ومنها إلى عمّان حيث بايعه الناس ملكا على العرب. وتخليدا لذكرى الثورة العربية أقام أهل العقبة اليوم سارية الثورة العربية الكبرى في باحة نزل الشريف حسين، وهي تحمل علم الثورة.

قبل احتلال الصهاينة لفلسطين عام 1948 كانت العقبة تضم القسمين الشرقي وهو العقبة الحالية، أما القسم الغربي فكان يسمى “أم الرشراش، ولما احتلها اليهود غيروا اسمها إلى “إيلات” وقاموا بفصلها عن العقبة الأم، وما يزال كثير من أهل العقبة الذي هجروا من أم الرشراش يحلمون بتحريرها والعودة إليها.

في عام 1948 كان عدد سكان العقبة 600 نسمة فقط، واستقبلوا في أول هجرات أهل فلسطين بعد الاحتلال حوالي 2000 لاجئ، معظمهم من منطقة بئر السبع الفلسطينية، ولم يقبل أهل العقبة تسميتهم باللاجئين، بل استقبلوهم في بيوتهم وامتزج الشعبان في بوتقة واحدة، حتى أنك لا تستطيع الآن أن تميز بينهم.