العيد في قوافي الشعراء.. حلل الأدب التي تكسو مباهج الملوك

وقفوا خاشعي القلوب والأبصار يرمقون السماء بطرف دامع يغسل الخطايا برحيق الإيمان الذي تذرفه العيون الخواشع، يقفون على جبل الرحمة تنحط عنهم الذنوب كما ينحط الماء من قمم الجبل الأشم الذي يمثل واحدا من أهم منصات القداسة الإسلامية على الأرض.

في أنحاء العالم الإسلامي يمثل يوم عرفة النور الإلهي العظيم الذي يقدسه المسلمون من مختلف المذاهب والطوائف والألسنة والألوان، يصومه غير الحاج رجاء تكفير سنة ماضية وأخرى مستقبلة في تآلف بين الماضي والمستقبل، ورحلة بين الخوف والرجاء.

بكل أنغام الحياة عبرت قلوب المسلمين عن احتفائها واحتفالها بموسم الغفران الأزلي، ومهرجان الدموع والإشراق الروحي، موسم الحج وما يتضمنه من عجيج بالتكبير والتهليل وطواف بالمشاعر المقدسة والتحام أزلي بين السماء والأرض عندما يعانق التكبير سقف السماء، وتميد الأرض بالملايين الذين يسقونها بالعرق والدموع والتوبة والإنابة.

عيد الأضحى الكبير.. تخليد رباني لآل إبراهيم

عند منبلج الصباح تشرق شمس يوم جديد، إنه يوم النحر؛ يوم تراق دماء الهدي تذكيرا بقصة الفداء العظيم، يوم تلّ إبراهيم ابنه إسماعيل للجبين وشحذ سكينه ليحقق رؤياه التي سجلها القرآن الكريم في واحدة من أعظم ملاحم الإيمان. “قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين”.

تواصى قلب الأب والابن على طاعة الوحي الرباني الذي ألقته السماء في روع الخليل عليه السلام، وانتصرت إشراقات الإيمان على مشاعر الأبوة، ونداءات الملأ الأعلى على حبال التشبث بالحياة، هنالك تدخلت المعجزة الإلهية، فلما أسلما وتلّه للجبين تحركت القدرة الربانية صانعة معجزة الفداء العظيم.

لقد خلّد القرآن الكريم آل إبراهيم عليه السلام في ملاحم إيمانهم وبنائهم للبيت الحرام، وفي هجرتهم إلى أرض غير ذات زرع عند بيت الله المحرم، وفي محاججتهم للملك الظالم النمرود، وفي وضعهم لقواعد البيت العتيق. ثم جاءت لغات البشر وترانيم الحياة لتُخلّد ذكراهم في عيد الأضحى؛ عيد النحر الكبير الذي يمثل ثاني أهم مواسم الأفراح بالنسبة للمسلمين.

“رَأَى العِيدُ وجهَك عيدا لَهُ”.. تخليد الشعر للأعياد

لم يكن الشعر العربي بمنأى عن تخليد الأعياد، وخصوصا تلك المرتبطة بالدين أو الوطن، وتتنوع مضامين شعرية العيد بين الفرح الذي يغمر قلوب العامة، وبين غربة ومأساة الأسير أو السجين، إلى ترانيم العابد وأذكار الأواه.

ولقد تفنن الشعراء بشكل خاص في أن يجعلوا أعياد الملوك والسلاطين فرصة للتقرب والتهنئة، فهذا الشاعر العباسي أشجع بن عمرو السلمي يجمع للخليفة هارون الرشيد بين المدح والتهنئة في أبياته السائرة.

لا زلتَ تَنشُر أعياداً وتَطْوِيها
تَمْضِي بها لكَ أيام وتَثْنِيها

مُستَقبِلاً زِينةَ الدُّنيا وبَهْجَتها
أيامنا لك لا تَفْنَى وتُفْنِيها

ولا تَقضَّت بك الدُّنيا ولا بَرِحَتْ
يَطْوِي لك الدَّهرُ أياماً وتَطوِيها

ولْيَهْنكَ الفتحُ والأيّام مُقبِلةٌ
إليكَ بالنصر مَعقودا نواصِيها

أما الشاعر أبو إسحاق الصابي، فيجعل من ممدوحه عيدا للعيد، لا تكمل بهجة العيد إلا به، ولا تستقر الأفراح إلا عليه.

رَأَى العِيدُ وجهك عيدا لَهُ
وَإِن كان زاد عليه جمالا

وَكَبَّرَ حين رآك الهلال
كَفِعلك حِين رأيت الهلالا

رأى منك ما منه أبصَرتَهُ
هلالا أَضاء ووجها تلالا

تهنئات العيد الخالدة.. حين تزدان الأعياد بالملوك

على نفس المنوال الذي سلك الشعراء من قبله يأتي المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ليخلع على سيف الدولة عيدية خالدة تجعله سمة العيد وبرهانه وشعاعه، فذلك حيث يقول:

هنيئا لكَ العيدُ الذي أنتَ عِيدُهُ
وعيدٌ لمن سمَّى وضحَّى وعيَّدَا

ولا زالت الأعيادُ لُبسَكَ بعدَهُ
تُسلِّمُ مَخروقا وتُعطي مُجدَّدا

فذا اليومُ في الأيامِ مثلُكَ في الوَرَى
كما كنتَ فيهم واحدًا كان أَوحَدَا

ويستعيض الشاعر ابن الرومي بممدوحه عن العيد، بل يجعلهما عيدين اثنين، بينما يحتفل الناس بعيد واحد.

لِلناس عِيدٌ وَلِي عيدان في العِيدِ
إِذَا رَأَيْتُكَ يَابن السَّادَةِ الصيدِ

إِذَا هُمُ عَيَّدُوا عِيدَيْنِ فِي سَنَةٍ
كَانَتْ بِوجهِك لي أيَّامُ تعييدِ

وفي تفنن الشعراء في تهنئة الملوك والأمراء بالعيد، يأتي الشاعر ابن رشيق القيرواني بنفَس إبداعي جديد، حينما يخلع على العيد ثوب الحزن لأن الأمير ابن المعز بن باديس كان غائبا عن دار خلافته يوم العيد

تَجهَّم العيدُ وانهَلَّت بَوادرُهُ
وكنت أعهدُ منهُ البِشرَ والضَّحِكا

كأنَّهُ جاء يطوي الأرضَ من بُعُدٍ
شوقا إليك، فلما لم يَجِدك بَكى

“تَجلَّى هلالُ العيدِ من جانبِ الغربِ”.. مباهج عيد الفطر

وإذا كان عيد الأضحى قد نال من الشعراء احتفاء خاصا، فقد كان لعيد الفطر أيضا منزلته في ذاكرة الشعراء ودواوين الأدب، حيث يقول البحتري مهنئا به:

مَضى الشهرُ محمودا ولو قَال مُخبِرا
لأَثْنى بما أَوليتَ أيَّامَهُ الشَّهرُ

عُصمتَ بتقوى الله والوَرعِ الذي

أتيتَ، فلا لَغوٌ لديكَ ولا هُجرُ

وقدَّمتَ سعيا صالحا لك ذُخرُه
وكل الذي قَدمت من صالح ذخرُ

وحال عليك الحولُ بالقَطر مُقبِلا
فباليُمنِ والإِقبالِ قابَلَك الفِطرُ

أشهر شعراء العصر العباسي البحتري كان لعيد الفطر نصيب من دواوين شعره

أما ابن الرومي فيحتفي بالعيد، ويرى في إهلاله إيذانا بالعودة إلى مباهج الحياة والإذن “بالأكل والشرب”.

ولمَّا انقَضى شهرُ الصيام بفضلِهِ
تَجلَّى هلالُ العيدِ من جانبِ الغربِ

كحاجِبِ شمسٍ شابَ من طُولِ عُمرِهِ
يُشيرُ لنا بالرمزِ للأَكلِ والشُّربِ

“عيد بأية حال عدت يا عيد”.. خيبة في ديار الإخشيدي

في عالم آخر من حياة الناس يمر العيد كئيبا مثقلا بالأماني الجريحة والأحلام المخفقة، فخلف الزنازين وعلى أكتاف عابري الأيام حقائب مفعمة بالشجى والحنين، ولم يكن أبو الطيب المتنبي وهو يحتفي بعيد سيف الدولة على أهبة لعيد آخر من أعياد الألم، عندما يخيب ظنه المجنح وآماله السكرى في وعود كافور الإخشيدي.

في يوم العيد يخلع المتنبي حلة غضب شائكة على الإخشيدي تملأ الأرض من هجائه، ويكسو صفحات التاريخ بقارٍ حالك من صبيب الهجاء، فذلك حيث يقول:

عِيدٌ بِأَيةِ حالٍ عدتَ يا عِيدُ
لما مَضى أَم لأمرٍ فيكَ تَجديدُ

أما الأحبَّةِ فالبيداءُ دونهُمُ
فليتَ دونَكَ بِيدًا دونَها بيدُ

ويتسع غضب المتنبي في يوم العيد ليشمل مصر كلها، بسبب صمتها عن حاكمها الإخشيدي.

نامت نَواطيرُ مصرٍ عن ثَعالِبِها
فقد بَشِمنَ وما تَفنى العَنَاقِيدُ

أكلما اغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ
أو خانهُ فلَهُ في مصرَ تمهيدُ

المعتمد بن عباد.. عيد الطين بعد عيد الكافور

في الغرب الإسلامي وجد العيد نفسه موعد حزن وميلاد آلام، مع الملك الأسير المعتمد بن عباد الذي تبدلت له أحوال الدنيا، وها هن بناته بعد الترف والرفاهية وبعد الأعياد القرطبية، يجدن أنفسهم في عيد بائس يغزلن للناس ما يملكن قطميرا.

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا
فساءكَ العيدُ في أغماتَ مَأسُورا

تَرى بناتِكَ في الأطمارِ جائعةً
يَغزِلْن للناس ما يَملكْنَ قِطميرا

برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً
أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا

يطأْنَ في الطين والأقدامُ حافيةٌ
كأنها لم تطأْ مسكا وكافورا

فدوى طوقان.. عيد التحرر لا أعياد الجثث المترفة

للعيد في فلسطين قديما وحديثا طعم خاص، فرائحة الشواء تذكي أشواق اليتم، وتعيد تفجير بارود الآلام في نفوس المقادسة والفلسطينيين عامة، ومع كل عيد تجدد ذاكرة الأرامل وأمهات وآباء الشهداء تاريخ الألم وعهد النضال.

الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان المليء شعرها بمواويل الشتات وتغريبة الحلم المسافر

لقد سجلت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان جزءا من تلك الذاكرة العيدية المضمخة بالجراح، ومواويل الشتات وتغريبة الحلم المسافر، إذ تقول:

أختاه هذا العيد رف سناه في روح الوجود

وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد

وأراكِ ما بين الخيام قبعت تمثالا شقيا

متهالكا يطوى وراء جموده ألما عتيا

يرنو إلى اللاشيء منسرحا مع الأفق البعيد

أختاه مالك إن نظرت إلى جموع العابرين

ولمحت أسراب الصبايا من بنات المترفين

من كل راقصة الخطى كادت بنشوتها تطير

العيد يضحك في محياها ويلمتع السرور

أطرقت واجمة كأنك صورة الألم الدفين؟

وتسافر طوقان مع العيد في جلباب فاتنة من قضاء يافا ضرجت عيدها الأيام بحناء الألم وضفائر الأحزان.

أتُرى ذكرتِ مَباهِج الأعياد في يافا الجميلة

أَهَفَت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة

إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهو غرير

والعقدة الحمراء قد رقت على رأس الصغير

والشعر منسدل على الكتفين محلول الجديلة

إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب

تتراكضين مع اللدات بموكب فرح طروب

طورا إلى أرجوحة نصبت هناك على الرمال

طورا إلى طل المغارس في كنوز البرتقال

والعيد يملأ جوكن بروحه المرح اللعوب

ثم تشيح طوقان بوجه فلسطين عن أعياد العالم المترف، فعيد فلسطين يوم تحررها من نير الاحتلال، وللمترفين أعيادهم التي لا تنقضي.

أختاه هذا العيد عيد المترفين الهانئين

عيد الألى بقصورهم وبروجهم متنعمين

عيد الألى لا العار حركهم ولا ذل الضمير

فكأنهم جثث هناك بلا حياة أو شعور

أختاه لا تبكي فهذا العيد عيد الميتين

الشاعر السوري عمر أبو ريشة عُرف بمواقفه الوطنية تجاه فلسطين

عمر أبو ريشة.. عيدية القدس الأسير

أما شاعر الشام عمر أبو ريشة فيرسم بريشة الإبداع عيدية القدس الأسير قائلا:

يا عيدُ ما افترَّ ثَغرُ المَجدِ يا عِيدُ
فكيفَ تلقاكَ بالبشر الزَّغارِيدُ؟

يا عيدُ كم في رَوابي القُدسِ من كَبِدٍ
لها على الرَّفرَف العُلويِّ تَعييدُ

سينجلي ليلُنا عن فَجرِ مُعتَرَكٍ
ونحنُ في فَمِهِ المشبوب تَغريدُ

الشاعر الأندلسي أبي إسحاق الإلبيري يُذكر بأن عيد المؤمنين هو يوم الخروج من ربقة الآثام والدخول إلى دار السلام

فخامة العيد.. بين حلل المستكبرين وأطمار المتقين

ومن الشعراء من اختار أن يأخذ للعيد بُعدا آخرا يعيد التذكير بأن عيد المؤمنين هو يوم الخروج من ربقة الآثام والدخول إلى دار السلام، على نحو ما نسمع عند الشاعر الأندلسي أبي إسحاق الإلبيري:

ما عيدُك الفخمُ إلا يومَ يغفر لكْ
لا أن تَجُرَّ بِهِ مُستكبرا حُلـلـكْ

كم من جديدِ ثِيابٍ دينُهُ خَلَقٌ

تكادُ تلعنُهُ الأقطار حيثُ سلكْ

وكم مُرقَّعِ أَسمالٍ جَديدِ تُقًى
بَكت عليه السَّما والأرضُ حينَ هَلكْ

ما ضرَّ ذلك طِمراهُ ولا نَفعَت
هذا حُلاهُ ولا أنَّ الرقاب ملكْ