الفلّاقة.. ملحمة تحرير تونس من الاحتلال الفرنسي

عبد الله أيد

 

“أن يسلموا لنا جوّنا وبرنا وبحرنا أو نستمر في الحرب كما كنا، فالقنص هو الحكم والضامن الأوحد لحقوقنا”..

هكذا يتناول الجزء الأول من فيلم “الفلّاقة.. ملحمة الرصاص والدماء” فلسفة الفلاقة وفكرهم في الصمود والبسالة ضد فوهات البنادق وأمطار القذائف الجوية الفرنسية، وتوحيد النضال العسكري الميداني مع النضال السياسي.

الفلاقة هو ذلك المصطلح الذي تحمل دلالته الأصلية في اللهجة المحلية معنى قاطع الطرق الذي يقطع على الناس طريقهم ويسلبهم ممتلكاتهم؛ لكنه إبان الثورة التونسية تحول إلى مصطلح سام متشبع بمعاني الشهامة والفروسية والبطولة وحب الوطن، يتلقى أصحابه الدعم المادي والمعنوي من الشعب.

لقد تحول مصطلح الفلاقة من مصطلح مرعب إلى مصطلح يحمل الأمان، وتحول حاملوه إلى مقاومين مجاهدين يدفعون أرواحهم فداء للأرض التي أنجبتهم، إنهم قطاع طرق لكن على المحتل لا على مالك الأرض.

كانت تونس كغيرها من البلدان الإسلامية في أواخر القرن التاسع عشر جزءا من تركة الرجل المريض التي تقاسمتها القوى الغربية العظمى حينئذ، فكانت من نصيب المستعمر الفرنسي الذي كان له نصيب الأسد في المنطقة العربية بأفريقي، حيث سيطر على جميع أقاليم شمال غرب أفريقيا تقريبا.

 

الثورة على المحتل

وفي مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر اشتعلت ثورة الجهاد المقدس في الشمال التونسي ضد المحتل الفرنسي الذي ألحق تونس بشقيقتها الكبرى الجزائر التي يحتلها منذ خمسين عاما، وبدأت عدوى الثروة تدب نحو الجنوب تحت حاضنة شعبية توفر الدعم المعنوي والمادي لرجال الكفاح الذين يقاومون بأسلحتهم العتيقة أحدث رشاشات الجيش الفرنسي المتطورة آنذاك.

كانت الثورة التونسية الأولى ثورة أشبه بالثورات القبلية التي لا تجد دعما كافيا إلا في مرابع البدو حيث الجبال وشعابها وكهوفها ومخابئها التي تحمي المقاتلين عند محاولة الاجتياح البري أو القصف الجوي، بينما تنشط حركات سياسية شبابية في المدن عبر مظاهرات مطالبة بالحقوق التي استُلبت من الشعب ومنحت للمستعمرين الفرنسيين ليتضاءل بذلك النضال المسلح إلى مناطق الجنوب الشرقي التونسي حيث الأرياف والقبائل البدوية التي تتعاون مع الثوار الليبيين، وخصوصا إبان ثورة أولاد دباب أثناء الحرب العالمية الأولى، وكانت تلك الثورة ذروة النضال العسكري التونسي، لكنها شهدت بعد أن وضعت الحرب أوزارها فتورا بسبب تفرغ المحتل الفرنسي لوأد الثورة عبر تكثيف غاراته الجوية على معاقل الفلاقة وإعمال سيف الإعدام الميداني بين قادتهم الذين سقطوا بين يديه أمام الجمهور. وبخفوت شعلة الثورة شهدت المناطق القبلية -حاضنة الثورة المسلحة- هجرات جماعية كبرى إلى ليبيا.

نتيجة لهذه الظروف كلها وجد التونسيون أنفسهم في نهاية عشرينيات القرن العشرين مضطرين إلى النضال بشكل سلمي مدني في المدن بعد أن كُسرت شوكة المقاومة، وذلك عن طريق الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والصحافة المحلية، وتجسّد النضال ضد المستعمر في تنظيم مظاهرات شعبية وإضرابات عمالية حتى قيام الحرب العالمية الثانية.

ما إن اندلعت نيران الحرب العالمية حتى انشغلت فرنسا بمقاومة احتلالها الداخلي والحرب على الاحتلال النازي، فوجدها الفلاقة فرصة سانحة لترتيب صفوفهم من جديد ورفع رايات الثورة بعد غفوة تناهز عقدين من الزمن ضد جيش منهك يقاتل في دياره إضافة إلى أكثر من جبهة خارجية أخرى، مما أتاح للثوار الحصول على الكثير من الأسلحة وتنفيذ العديد من العمليات النوعية ضد الفرنسيين والسيطرة على بعض مواقعهم، وبالتالي نهب أسلحتهم وذخائرهم.

إلا أنه وبعد أن انتهت الحرب العالمية عاد الصوت السياسي ليرتفع مرة أخرى على صوت البندقية، وذلك عبر الأحزاب السياسية والحكومة التونسية التي كانت تتفاوض مع الفرنسيين من أجل نيل بعض الحقوق، لكن الغطرسة الفرنسية رفضت الاستماع لصوت السياسة ليقوم المناضلون التونسيون بالمزج بين السلاح والسياسة من أجل الضغط على الفرنسيين باللغة التي يفهمونها لكن تحت غطاء سياسي يحكمها ويوجهها ويصبغها صبغة سياسية واعية. وهنا كان الاتحاد الرسمي بين المقاتلين والسياسيين، فمكافحٌ بين الشعاب الجبلية، ومكافح بين أروقة الحكومة.

 

الثورة الكبرى عام 1952

حين اندلعت نيران الثورة الكبرى عام 1952 كان الأهالي يدعمون الفلاقة بكل ما تيسر من مؤونة وسلاح وأموال لشراء السلاح أو تهريبه على الإبل من ليبيا بتنفيذ من الثوار بالتعاون مع ثوار طرابلس، بالإضافة إلى السلاح المهرب من الشرق من مصر مرورا بليبيا ضمن التنسيق المشترك بين الثوار وقوى التحرر في الشمال الأفريقي والمشرق العربي.

أما من الناحية التكتيكية فقد اتبع الفلاقة هذه المرة أسلوبا جديدا حيث قاموا بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات صغيرة تتحرك بخفة ورشاقة وبسرية، فمن تلك المجموعات ما هو مختص بالعمل الاستخباراتي وجمع المعلومات، ومنها ما يطهر الجبهة الداخلية من المخبرين، ومنها ما يقوم بتهريب الأسلحة، وآخرون يرصدون الطرق ويقومون بتأمينها من أجل عبور زملائهم، بالإضافة إلى مجموعة تقوم بالتواصل مع الحزب الدستوري الحر من أجل التنسيق المشترك وإعطاء التعليمات بتصفية المخبرين.

وكانت النساء تحمل المؤونة والغذاء والذخائر إلى المقاومين في وضح النهار على الحمير، بينما كان الرجال يسيرون ليلا إلى الأهالي لأخذ العشاء.

كانت النساء تشكل دعامة قوية من دعامات الثورة التونسية، حيث كن يقدمن الكثير من الخدمات الجليلة بشهادة الفلاقة أنفسهم، يقول أحدهم إن أمه كانت تحمل حفيدتها على الحمار وتحتها الكثير من الذخائر الحربية توصلها إلى المجاهدين دون إثارة للشبهات، وآخر يقول إن زوجته كانت تجلس بجانبه أثناء إطلاق النار وبيدها قِربتان؛ إحداهما لإطفاء نار العطش، والأخرى لتبريد البندقية حين تطول المعركة.

ومع تزايد عمليات المقاومة في نصب الكمائن في نقاط تحركات الفرنسيين ومواجهتهم ومهاجمة ثكناتهم العسكرية كان الثوار يغنمون الكثير من الأسلحة الفرنسية والذخائر التي تمدهم بالمزيد من الطاقة المعنوية والعسكرية وتشعرهم بالاقتراب أكثر من خط الخلاص.

وكما هو متوقع فقد راجت في هذه المرحلة من الثورة تجارة الوشاية بالثوار التي أصبحت بضاعة ثمينة تباع للمستعمر الذي يشتريها بنهم، ونظرا إلى هذا العامل وعوامل أخرى منها اختلاف الموازين أثناء المواجهة فقد اتخذ الثوار سياسة التفريق أثناء تنفيذ العمليات وإخلاء المواقع، حيث كان القائد يوزع التابعين له إلى مجموعات صغيرة، فمن ناحية يصعب تتبعها ويسهل تحركها في كرها وفرها، ومن ناحية أخرى يقل الضرر في صفوفه إذا كتب الله لهم القدر المحتوم فوقعوا في معركة فوق طاقتهم فسقطوا شهداء.

أحد الفلاقة يروي أنهم في معركة سيدي عيشة كانوا ثمانين رجلا فقط وقتلوا 130 جنديا فرنسيا

 

“كم من فئة قليلة غلبت”

كان الفلاقة يؤمنون بقضيتهم الصادقة وبحقهم في النضال، وكان ذلك سلاحهم الأقوى الذي لا يمتلك الفرنسيون له مثيلا، لذلك فإنه رغم عدم التكافؤ في المعدات العسكرية فقد سجل الثوار كثيرا من الإصابات في صفوف المعتدين في الكثير من المعارك مع تسجيل القليل من الإصابات وانعدام الإصابات في بعض المعارك.

يروي أحد الفلاقة أنهم في معركة سيدي عيشة كانوا ثمانين رجلا فقط وقتلوا 130 جنديا فرنسيا وأسقطوا طائرة تحمل أربعة جنرالات، بينما اختار الله إلى جواره من صفوف المجاهدين عشرة رجال في الميدان وثلاثة أسرى تم الإجهاز عليهم فيما بعد.

كانت تحركات الثوار في الجنوب تتجه نحو الشمال الغربي مرورا بمدن الوسط، وكان السر في ذلك يكمن في كثرة المستوطنين الفرنسيين في تلك المناطق الشمالية الغربية تحت حماية الجيش الفرنسي، فكانت بذلك هدفا مهما للفلاقة، حيث شنوا هجمات قوية مكثفة على تلك المناطق رغم ضعف التسليح الذي لم يكن يتجاوز في بعض الأحيان مئة رصاصة للفلاق الواحد، لكنها مئة رصاصة كبدت الفرنسيين خسائر جسيمة.

تحت ظروف الثورة القوية التي ضاقت ذرعا بالفرنسيين وتحت الظروف الصعبة التي يكتوي بها الفرنسيون في كل بقعة من أرض تونس، رضخت فرنسا أخيرا مجبرة إلى مبدأ التفاوض الذي منعتها غطرستها منه بادئ الأمر، فالبندقية في بعض الأحيان تكون أبلغ وأقدر على إيصال الرسائل وأسرع في حسم الأمور وتحقيق المطالب من ألف سياسي، وهنا جلست فرنسا على طاولة الحوار للتفاوض بشأن استقلال تونس.

وفعلا قررت فرنسا الالتزام باستقلال تونس الداخلي الذي كانت وعدت به من قبل ثم أخلفت موعدها، بل أعلنت عن ذلك رسميا في تونس في يوليو/تموز ١٩٥٤ عبر رئيس الحكومة الفرنسية في زيارته إلى قرطاج.

خريطة لتونس تُظهر كيف رضخت فرنسا، وجلست على طاولة الحوار للتفاوض بشأن استقلال تونس

 

تسليم السلاح وطريق الاستقلال

وبعدها بدأت مرحلة تسليم السلاح التي كانت ضمن الاتفاقيات مع الفرنسيين تحت إشراف الحزب الدستوري الحر الذي كان وسيطا في تسليم الأسلحة وإقناع الفلاقة بضرورة تسليمها مع الحصول على تعهد بعدم ملاحقتهم من طرف الفرنسيين.

ولم يكن إقناع مقاومين تأبطوا السلاح عدة سنين وقاموا بالدفاع عن الوطن والسكان عملية سهلة، غير أن الحزب اختار أفضل سياسييه وأكثرهم قدرة على الإقناع للتفاوض معهم وإقناعهم بضرورة تسليم السلاح، وفعلا نجحوا في إقناع أغلبية المقاومين وتسليم أسلحتهم. لكن البعض منهم رفض ذلك رفضا باتا، بينما ذهبت طائفة ثالثة إلى الاحتيال على الأمر فسلمت بعض قطع السلاح التالفة بينما دفنت بقية السلاح في مقبرة احتياطاً.

وقد بلغ عدد القطع الحربية التي تم تسليمها نحو 2500 قطعة سلاح تم تسليمها للفرنسيين عبر وسطاء تونسيين، وكانت هذه الأسلحة تشكل أشواكا تقض مضاجع الفرنسيين في تونس وقعت في أيديهم أخيرا بعد طول عناء.

لقد صنع الفلاقة التونسيون ثورة من بين مجموعة من العوام والبسطاء آمنوا بفكرة الخلاص لكل منهم دراية بفن محدد، فمنهم القناص والمقاتل والقارئ والكاتب والشاعر، كانوا ثوارا حفاة أكل الصخر أحذيتهم، يسعون خلف الشاء متخفين بصنعة الرعاة، يتسللون وينقلون الأخبار ويغيرون على المواقع العسكرية في سبيل الحرية والكرامة.

بعد فترة تسليم السلاح والحصول على الاستقلال الداخلي دخلت تونس دوامة كبرى مليئة بالدماء والدموع -كما يصفها بعض المؤرخين- في نزاع شرس بين طرفي التحرير السياسيين والفلاقة. كان رجال السياسة في مدنهم يقولون “استقلال منقوص خير من استعباد كامل”، بينما صرخ إخوة السلاح في شعابهم “يُسلمون لنا جونا وبرنا وبحرنا أو نعود إلى السلاح كما كنا”.

كان الفرنسيون يرون بمنحهم الاستقلال الداخلي أنهم بذلك يُشبعون رغبة الشعب التونسي وأنه سيكتفي بذلك دون المطالبة بالاستقلال الذي كان يشكل كابوسا للفرنسيين خشية أن يشجع الجزائر مستعمرة الفرنسيين الأكبر والأثرى والأشرس على الثورة من أجل الاستقلال، بينما كان السياسيون يرون في الأمر نصرا للشعب التونسي ضد مستعمر لا يلوح في الأفق أنه ينوي الرحيل عن المنطقة، وفي الجانب الآخر من المشهد كان الفلاقة يرون أنفسهم سلطة الشعب الأقوى القادرة على تحقيق طموحات وتطلعات الشعب المشروعة مهما كانت تبدو بعيدة المنال وعرة الطريق.

بورقيبة يُلقي خطابا في بنزرت، حيث اغتنم فيه الفرصة وقال إن نظيره ابن يوسف يخدع الشعب بشعاراته الدينية والقومية

 

خلاف بورقيبة وبن يوسف

لم تكن الانشقاقات التي صدّعت وحدة النضال التونسي منحصرة في الصراع بين الساسة والمحاربين، بل تجاوزت ذلك إلى حد انشقاق صفوف السياسيين الذين التزم بعضهم بموقف بورقيبة الداعم للاستقلال الداخلي، بينما انحاز بعضهم إلى مطالب الفلاقة المتمثلة في الاستقلال التام.

بعد أن نالت تونس استقلالها الداخلي جرى خلاف كبير بين الحبيب بورقيبة أبرز زعماء الحزب الدستوري الحر ومنظر استقلالها الداخلي، وبين الأمين العام للحزب صالح بن يوسف، إذ يروي أحد الفلاقة أنه دار بينهما ذات لقاء جدال عنيف وصل حد السباب والشتائم، وكان الأمين العام صالح بن يوسف يرى أن الأمر منقوص وأن على تونس أن تواصل كفاحها حتى تنال استقلالها الكامل، بينما يرى بورقيبة أنه يجب استثمار كل تنازلات فرنسا والبناء عليها، قال له: فلتعترف أني أنا من جلبت استقلال تونس.

فقال له صالح: لا، لولا الفلاقة المقاتلين القاطنين في الجبال لما عدت أنت من منفاك ولا عدت أنا من منفاي.
فرد بورقيبة: أوتحسب أن نفرا من البربر يرعون الغنم في الجبال هم من جلبوا الاستقلال؟

وفي محاولة لرأب الصدع الذي يتفشى في داخل الجدران التونسية تم تنظيم مؤتمر في صفاقس لحل المشكلة التي تمزق النسيج الداخلي للجسد التونسي بين صف بورقيبة وابن يوسف. فوصل نبأ إلى مسامع ابن يوسف يوحي بوجود مجموعة تحاول قتله، لذلك قرر أن لا يحضر المؤتمر استجابة للتحذير المنبئ بقتله، وهنا اغتنم بورقيبة الفرصة ليقول في خطابه الشهير آنذاك إن ابن يوسف مخادع يخدع الشعب، وتم فصله من الحزب الدستوري الحر.

وبتفاحش الخلاف بين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة انقسمت تونس إلى فسطاطين عظيمين حول كل رجل من زعيمي الخلاف، فقد كانت تلتف حول بورقيبة بعض النقابات مثل الاتحاد العام التونسي للشغل وغيره من أصحاب القوى ذات التوجهات الحداثية، بينما التف حول بن يوسف الفلاحون ومن يَسبح في فلكهم من الطبقة المحافظة التي كان يستهدفها ابن يوسف بشعاراته الدينية والقومية. وما لبث الصراع بين الرجلين أن تحول من خلاف سياسي إلى حرب أهلية طاحنة.

لقطة من نيران الثورة الكبرى التي اندلعت عام 1952، حيث كان الأهالي يدعمون الفلاقة بكل ما تيسر من سلاح

 

الفلاقة في مواجهة فرنسا وبورقيبة

وبفصل صالح بن يوسف انقسم الحزب الدستوري الحر بين أمينه العام بن يوسف والقيادي البارز بورقيبة، فلكل منهما أنصار في لجان الحزب تقف بجواره في حربه، ولكن الأخطر من كل هذا هو انقسام محاربي التحرير الفلاقة بين المعسكرين، حيث عمد بعض الفلاقة إلى التحالف مع بورقيبة وجماعته وبدؤوا المواجهة العسكرية مع رفاقهم القدامى في حرب التحرير الذين تحالفوا مع بن يوسف وعادوا إلى الجبال وبدؤوا في تشكيل جيش كبير لمواجهة فرنسا والسلطة القائمة في تونس، وهو الأمر الذي جعل بن يوسف مطلوبا للعدالة في تونس، وذلك ما اضطره إلى اللجوء إلى ليبيا تاركا خلفه جيشا من الفلاقة.

بدأ الفلاقة معركة الخلاص ضد فرنسا فأرسلت طائراتها ودباباتها وبدأت غاراتها على الجبال التي يتحصن بها الفلاقة، فسقط الكثير منهم بين شهيد وأسير في عدة معارك عنيفة خاضوها ضد الفرنسيين وحلفائهم من لجان الحماية التابعة لمعسكر بورقيبة، وكذلك تكبد هؤلاء الكثير من الخسائر مقارنة بخسائر ثورة ١٩٥٢. كل هذا اللهيب المتقد في التراب التونسي دفع فرنسا مرة أخرى إلى الجلوس مع الحكومة التونسية من أجل التفاوض على الاستقلال التام لتونس، وهو ما تم بالفعل في العشرين من مارس/آذار 1956.

المفارقة الحقيقية في هذه الثورة أن رفيق السلاح بالأمس تحالف اليوم مع عدو الأمس ضد رفيق السلاح، وأصبح رفيق السلاح بالأمس عدو اليوم.

بعد أن نالت تونس استقلالها عن فرنسا كانت البلاد في معمعان معارك أخرى بين فريقي بورقيبة وابن يوسف، حيث إن فلاقة بن يوسف كانوا يحاربون بقايا الفرنسيين العسكرية المتحالفة مع فريق بورقيبة، مما دفع نظام بورقيبة إلى ممارسة سياسة الانتقام بحقهم عبر تخوينهم ومحاكمتهم وإعدام قياداتهم وحبس الكثيرين منهم تحت رحمة الأعمال الشاقة، والأدهى من ذلك تقزيم دورهم في حرب التحرير.

بعد أن نالت تونس استقلالها عن فرنسا بدأت البلاد في معركة بين فريقي بورقيبة وابن يوسف لاستلام حكم البلاد

 

معركة التحرير وعلو بورقيبة

رغم كل ما جرى عاد الفلاقة للالتئام مرة أخرى صفا واحد في معركة الجلاء ضد فرنسا، فقد قام بورقيبة باستخدام ورقة الفلاقة من جديد، حيث قام بتجييش عواطف الجمهور ليخوض آخر معارك التحرير في بنزرت ضد الاحتلال الفرنسي، وذلك عبر مظاهرات واجهتها فرنسا بالرصاص والقصف الجوي العنيف، ليتم توزيع السلاح على الفلاقة من أجل الدفاع عن أنفسهم ومواجهة الرصاص بالرصاص. لكنهم اضطروا إلى التراجع بسبب كثرة الشهداء في صفوفهم الذين بلغ عددهم 670 شهيدا ليتضح فيما بعد -حسب بعض المؤرخين- أن بورقيبة كان يخطط لصناعة حدث أو حادث كبير يسقط فيه الكثير من القتلى، ليستطيع بذلك رفع شكوى إلى مجلس الأمن الدولي من أجل جلاء فرنسا من قاعدة بنزرت.

وبعد انتهاء معركة الجلاء بأيام اغتيل بعيدا عن الديار في فرانكفورت صالح بن يوسف، وكان قد التقى قبل ذلك بفترة بغريمه بورقيبة في جنيف وجرت بينهما محاورات حادة بلغت حد أن بن يوسف -كما يقال- صفع بورقيبة، فقرر الأخير أن يتخلص منه، وقام بتجنيد مجموعة اتضح فيما بعد أن بن يوسف كان قد جندهم من أجل قتل بورقيبة إلا أن بورقيبة أقنعهم بالارتداد على بن يوسف، وبعد سقوط بن يوسف تفرغ بورقيبة لتصفية حساباته مع غرمائه اليوسفيين.

ما كادت تونس تخرج من صراع إلا وتنزلق في آخر، فبعد أن خلت الأجواء هذه المرة تماما بدأ الخلاف على من سيحكم تونس بعد استقلالها وجلاء عدوها من أراضيها. فكان الفلاقة يرون أنهم هم من قدموا التضحيات بدمائهم وأرواحهم وبذلوا الغالي والنفيس من أجل التحرير حتى خرج العدو مدحورا بفعل فوهات البنادق لا خطابات السياسيين، بينما يرى بورقيبة أن السياسيين هم من خططوا ودبروا وكادوا وقادوا وأنهم أولى بالقيادة من البسطاء الذين لا يتقنون شيئا غير إطلاق الرصاص من البنادق الصدئة، في صورة واضحة لأنانيته الشديدة وحبه المفرط لذاته حسب وصف أحد الفلاقة له.

كل ذلك دفع فرقة عسكرية من اليوسفيين إلى القيام بمحاولة انقلابية بيضاء على بورقيبة أواخر عام 1962 ردا على سياسته التي أقصتهم وقزمت من دورهم في التحرير، وذلك من أجل إزاحته ونفيه -كما يقولون- لا قتله، إلا أن المحاولة فشلت وتمت محاكمة جميع المنقلبين.

وكما يحدث دائما في تونس منذ القدم، ثار الفلاح الشجاع الفقير ابن الأرياف ودفع روحه فداء لثورته، ثم جاء التاجر البحار فقطف ثمارها وصنع التاريخ التونسي مستأثرا به لنفسه.