المسرح المصري.. ضحك وبكاء وغناء على ضفاف النيل منذ أيام نابليون

تفتح الجزيرة الوثائقية ملف “المسرح العربي” الذي يناقش وضعه وأحواله في سلسلة من عشرة أفلام وثائقية تبحث نشأة المسرح العربي والقُطري في معظم البلدان العربية التي اشتهرت بهذا النوع من الفن ابتداء من الحكواتي أو القصّاص مرورا بمسرح خيال الظل ثم القاراقوز وأخيرا باعتلاء خشبة المسرح التي جاءت تتويجا لكل التقنيات البسيطة التي سبقتها، وكيف تنوع شكل المسرح بتنوع الثقافة والقُطر الجغرافي، وما هو نصيب اللغة العربية الفصحى على ذلك المسرح.

وتستعرض الحلقة العاشرة والأخيرة أهم المسارح العربية وأكثرها خبرة وامتدادا وتأثيرا في المجتمع العربي ألا وهو المسرح المصري الذي ترك بصمة كبيرة جدا بين الجمهور العربي على عكس كل المسارح الوطنية المحلية التي لم تشتهر إلا في بلدانها أو محيطها القريب.

 

سناء نصر الله
من جميل ما قيل في المسرح، ما نسب إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو إذ يقول “أراهن على بقاء المسرح للأبد لأنه يرتبط برغبة إنسانية أساسية، وهي التعبير عن المشاعر وتشخيصها”.
أو هو كما يقول المخرج المسرحي الجنوب أفريقي “بريت بيلي”: “أينما كان هناك مجتمع إنساني، تتجلى روح المسرح التي لا يمكن كبته، فالناس يتماهون في العوالم اللحظية للمسرح، تلك العوالم التي نخلقها لنعبر، بلحمنا ودمنا وأنفاسنا وأصواتنا الحية، عن عمقنا الإنساني، عن تنوعنا، وعن حساسيتنا”.
فالمسرح فن تعبيري يقوم بعرض النص الأدبي بلغة الجسد أو الكلام، وهو طريقة للتواصل الواعي المقصود بين الممثل والمتلقي لإيصال فكرة بغرض الامتاع والتسلية.

بعد دخول نابليون بونابرت لمصر بحملته سنة 1798 أنشأ مسرحا لجنوده للتسلية

 

حملات نابليون.. مسرح الغزاة الترفيهي

لم يعرف المشرق العربي المسرح بصورته الحديثة إلا في القرن التاسع عشر، وبدأ في بلاد الشام ثم انتقل إلى مصر عن طريق الفرق الشامية، وقد أحب المصريون هذا الفن واحتضنوه وتطور إلى أن وصل إلى مرحلة التمصير.

لكن المصريين عرفوا المسرح بطابعه الغربي بعد دخول نابليون بونابرت لمصر بحملته سنة 1798، إذ أنشأ مسرحا لجنوده للتسلية، فتكونت فرقة “فرانسيز” الكوميدية، وكانت العروض تقدم فيه باللغة الفرنسية.

أنشأ الخديوي إسماعيل وبمناسبة حفل افتتاح قناة السويس عام 1869 دار الأوبرا وسط القاهرة، كما شيّد بعد ذلك بعام مسرحا آخر في حديقة الأزبكية.

يعقوب صنّوع المصري اليهودي درس في إيطاليا ولما عاد أنشأ أول مسرح في مصر

 

يعقوب صنّوع.. ميلاد المسرح المصري الخالص

عند ذكر بدايات المسرح في مصر، فلا بد من ذكر يعقوب صنّوع المصري اليهودي الذي درس في إيطاليا، وعندما عاد قرر أن ينشئ مسرحا في بلده، فقد كان صنوع طاقة إبداعية وبدأ يعرض أعماله في مقهى، وكانت أقرب ما تكون للقفشات والملهاة الشعبية، فكان ينزع إلى البساطة والروح المصرية في المسرح بعيدا عن الاقتباس أو الترجمة، بل كان يلتقط أفكاره من صميم البيئة المصرية وموضوعاتها وأحداثها، مما أدى إلى إقبال الناس على مسرحه إقبالا كبيرا، حتى ذاع صيته ووصل إلى الخديوي إسماعيل الذي أطلق عليه لقب “موليير مصر”.

تقول الناقدة زينب منتصر إن صنوع كان متأثرا بالأراجوز والفنون المسرحية الشعبية مثل “أبو ريدة” و”كعب الخير”، وهي فصول ملهاوية وظف فيها ظاهرة الارتجال، فقد كان يقف بالكواليس وعندما يبدأ أحد من الجمهور بالتعليق يقوم هو بتلقين الممثل ماذا سيقول، وكان يدرب الممثلين على سرعة البديهة والرد السريع.

لقد حاكى صنوع في مسرحه المصري بأخلاقه وسلوكه وقيمه، إلى جانب ذلك أضاف نكهة السياسة إلى أعماله إذ كان مهتما بها، لكن بعض مسرحياته أدخلته في صدام مع الخديوي إسماعيل، مثل مسرحية “الوطن والحرية”.

أما مسرحية الضرتين، فقد انتقد فيها الزواج الثاني وكان للخديوي زوجتان فخيل له أنه يعارضه فقام بإغلاق مسرحه ونفيه، وبهذا انتهت تجربته بعدما قدم تجربة مصرية خالصة، ويرى مراقبون أن إغلاق مسرح صنوع أدى إلى توقف الحياة المسرحية في مصر من عام 1872 إلى 1876.

إسكندر فرح أحد أعضاء الفرق الفنية الشامية التي أسهمت بشكل كبير في ترسيخ المسرح في مصر

 

بضاعة الشام المسرحية.. مسرح غنائي يذيب اللهجات

بعد توقيف يعقوب صنوع انتقل المسرح إلى مرحلة ثانية ثبّتت المسرح في التربة المصرية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك بسبب توفّر سقف حرية أعلى عما كان سائدا في بلاد الشام، فقد قدم إلى مصر عدد من الفرق الفنية الشامية التي أسهمت بشكل كبير في ترسيخ المسرح في مصر، وقد تعاملت الفرق الشامية بذكاء مع المجتمع المصري، وقامت بمراعاة عنصر اللغة، واستخدمت المسرح الغنائي الذي يستطيع إذابة اللهجات، مما أشبع ذائقة المشاهد المصري.

ثم جاءت فرقة أبو خليل القباني عام 1884، وانبثقت منها فرقة إسكندر فرح التي استعانت بفنانين شاميين مقيمين في مصر، بالإضافة لفنانين مصريين منهم سلامة حجازي المؤذن صاحب الصوت العذب، وبعد ذلك خرج سلامة من الفرقة وكوّن فرقة أخرى.

مرحلة التمصير.. تراجيديا وكوميديا وغناء

تلاشى ظهور الفرق الشامية تدريجيا حتى اختفت مع نهاية القرن التاسع عشر، بينما واصلت فرقة إسكندر فرح حتى بداية القرن العشرين، وفي تلك الفترة دخل المسرح في مصر مرحلة التمصير.

وكانت هناك ثلاث تيارات أساسية في المسرح:

1.    تيار المسرح الغنائي.

2.    المسرح الكوميدي.

3.    المسرح الجاد التراجيدي.

يقول الكاتب المسرحي محمد السلاموني: تنافست التيارات كلها في نفس الوقت، وكان سلامة حجازي يمثل التيار الغنائي الذي كان يقوم بداية بالغناء بصوته الجميل الرنّان بين فصول المسرحية، ثم خلع جلبابه ودخل في التشخيص أي التمثيل.

أصيب سلامة حجازي بالشلل النصفي (الفالج) وحاولت الفرقة أن تعرض من دونه، وهنا ظهرت فرقة “أولاد عكاشة”، وكانوا أربعة أشقاء من أعضاء فرقته، كما ظهرت فرقة “كامل الخلعي” الملحن الشهير.

جورج أبيض درس المسرح في فرنسا وأسس ما يعرف بالمسرح الكلاسيكي الجاد

 

جورج أبيض.. فرنسا مرة أخرى على مسارح مصر

بينما كان نجم الفرق الغنائية صاعدا على الجانب الآخر كان جورج أبيض يفكر بطريقة مغايرة، إذ أسس لما يعرف بالمسرح الكلاسيكي الجاد، وقد قدّم قبل ذهابه للدراسة في باريس مجموعة من المسرحيات باللغة الفرنسية للأجانب في مصر.

وفي عام 1910 فوجئ المصريون بخبر نشر في إحدى الصحف الفرنسية، مفاده أن شابا مصريا اسمه جورج أبيض أتم دراسته المسرحية على يد الممثل والمخرج الفرنسي الشهير “سيلفان”، وأنه بدأ بعرض مسرحيات باللغة الفرنسية في مصر.

أسس جورج أبيض فرقة حملت اسمه، وأدى الكلاسيكيات، وكان شغوفا بالفن وطموحا وقدم عدد من المسرحيات المترجمة مثل “أوديب ملكا” و”لويس الحادي عشر” و”يوليوس قيصر”، وقد نجحت مسرحياته من خلال حضور طبقة معينة من الجمهور.

لكن الفجوة التي واجهته هو انتقاؤه لتلك المسرحيات التي لم يتنازل عنها، وكانت ذات طابع مأساوي تراجيدي، وعند ظهور المسرح الهزلي مثل “مسرح عماد الدين” بدأ جورج أبيض بالتنازل، لذا لجأ لسلامة حجازي الذي قدّم وصلات غنائية في مسرحياته خوفا من الإفلاس.

في الحقيقة كلاهما كان يتكئ على الآخر، وبقي الحال هكذا إلى أن توفي سلامة حجازي، وأصبح الإقبال على مسرح أبيض يقل حتى أغلق، لينضم بعدها إلى الفرقة القومية.

مسرحية “سكرة” التي أثارث حفيظة الجمهور المصري بسبب مشاهدها غير المألوفة

 

“سكرة بنت دين كلب”.. صدام مع الذوق العام

في الفترة التي تلت فترة جورج أبيض وسلامة حجازي وموازاة مع المسرح الغنائي بدت الحاجة لتيار الكوميديا الذي حاول عزيز عيد بَلوَرته وصياغته ووضع لبناته الأساسية، فلقد عاش في مصر وترعرع فيها، وكان يقدم الواقعية على مسرحه.

يذكر الدكتور سيد إسماعيل أن عزيز عيد أنشأ العديد من الفرق لكنه فشل، وقد قدم مسرحيات لا تتفق مع ذائقة المشاهد المصري وتتعارض مع عاداته وتقاليده، فقد أصبح يعرّب مسرحيات فرنسية ذات عناوين شاذة وفجة مثل مسرحية “يا ست ما تمشيش كده عريانة”.

وقد لاقى اعتراضا شديدا عندما قدم مسرحيته “سكرة بنت دين كلب” (أي حفلة سكر لا مثيل لها)، وأخرج “روزا اليوسف” باللباس البكيني على المسرح. لقد ثار الجمهور عليه وتعرض للنقد الشديد.

بعدها جاءت مسرحيته “خلي بالك من إيميلي” التي حملت إيحاءات جنسية صارخة، وأحدثت إشكالية كبيرة ذلك الوقت، وكان الانقلاب الحقيقي الذي قدمه عزيز هو تقديمه لمغنية مصرية مسلمة على خشبة المسرح وهي منيرة المهدية، وكان ذلك سابقة في ذلك العصر، وبينما تراجع عزيز عيد نتيجة الهجوم الذي تعرض له أخذ نجم نجيب الريحاني بالبزوغ.

شخصية كشكش هي شخصية حقيقة تعبّر عن الرجل الغني الرأسمالي الريفي

 

“كشكش الريفي المتباهي”.. شخصية من التاريخ

قرر نجيب الريحاني تقديم عمل متكامل مبتكر من تأليفه وإخراجه وتمثيله، لقد كان ذكيا وشغوفا بالمسرح، وعمل كـ”كومبارس” (ممثل ثانوي) في بعض المسرحيات الأجنبية ليتعلم صناعة المسرح، وكان قارئا نهما وخاصة باللغة الفرنسية التي اقتبس منها بعض النصوص.

وعمل نجيب في بعض المقاهي كـ”خيال الظل” في شخصية سفرجي بربري، وطلب من صاحب المقهى أن يقوم بعمل سكيتش لمدة عشر دقائق، وبالفعل قام بعمل شخصية “كشكش” التي اشتهر بها فيما بعد.

لم تكن شخصية كشكش مبتكرة إنما شخصية حقيقة كتب عنها الكاتب عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه، وهي تعبّر عن الرجل الغني الرأسمالي الريفي، الذي يتباهى بماله في الملاهي والمقاهي.

اخترع الريحاني في مسرحياته شخصية “الفرانكو-أرب”  وهو الخواجة الذي يستخدم المصطلحات العربية بطريقة خاطئة

 

مزاج الحرب العالمية.. رائد المسرح الكوميدي المحترم

في تلك الفترة قامت الحرب العالمية الأولى، وكان الجنود الأجانب في مصر يحاولون الترفيه عن أنفسهم بالذهاب إلى المسارح في شارع عماد الدين، وفي هذا الوقت اخترع الريحاني “الفرانكو-أرب” (الدمج بين اللغتين الفرنسية والعربية).

أوجد الريحاني في مسرحياته شخصية الخواجة الذي يستخدم المصطلحات العربية بطريقة خاطئة وهي وسيلة للإضحاك عن طريق سوء الفهم، وقد تفاعل معه الجمهور الأجنبي كثيرا وكان يستقطبهم، ومن مسرحياته “الجنيه المصري” و”30 يوم في السجن”.

كان الريحاني ومعه بديع خيري خريجين من “مسرح الجزويت”، فقاما بتمصير مسرحيات الكاتب الفرنسي الكوميدي “فيدو” وقدما أعمالا معا مثل مسرحية “قسمتي”، ويصنف المتحدثون في الفيلم نجيب الريحاني على أنه “رائد المسرح الكوميدي المحترم”.

شخصية البواب النوبي.. مسرح كاريكاتوري

تزامن ظهور الريحاني مع علي الكسّار الذي قدم شخصية كاريكاتورية وهي “عثمان البربري الوحيد” أو عثمان عبد الباسط، وتُجسد شخصية الرجل البسيط الساذج والحِشري.

يقول ابنه ماجد: بدأ والدي حياته في دار التمثيل الزينبي في الموردي، وبعدها تنقل في عدد من المسارح وعلى “مسرح ديباري” خلق الشخصية التي أحبها الجمهور، وبقيت تتردد لغاية اليوم.

بدأ الكسار مع الكاتب أمين صدقي الذي كان مترجما ومقتبسا ومؤثرا، وأحدث الكسار ثورة على المسرح، ولأول مرة في مصر يصبح الرجل الكادح البسيط بطل المسرحية، لقد قدم شخصية بسيطة للبواب النوبي، وقدم النقد بطريقة لطيفة جاذبة، وقام بعدة أدوار متنوعة مثل شخصية سماح الساحر وشخصية الخواجا.

سيد درويش عبقرية موسيقية فذة وأول ملحن كسر النمطية في الغناء مستوحيا أنغامه من أصوات الباعة

 

سيد دوريش.. مسرح الثورة والوطنية

رسمت ثورة 1919 مسارا جديدا لحياة المصريين، وتحول المسرح لكتيبة وطنية تتحرك لمواكبة الثورة على وقع ألحان سيد درويش الذي وجد نفسه مع الثورة حين أصبح المسرح مركزا للإمداد العاطفي والوجداني لتوجيه الناس.

كان سيد درويش عبقرية موسيقية فذة، وكان أول ملحن كسر النمطية في الغناء متجها نحو الغناء الشعبي ومستوحيا أنغامه من أصوات الباعة، لقد عاش فترة قصيرة ولكن إنتاجه كان غزيرا، فخلال ست سنوات لحّن عشرين مسرحية تتضمن مئتي لحن.

يقول الكاتب “لويس جريس”: كان سيد درويش يستطيع تلحين الجريدة اليومية وكل ما ينشر فيها، لقد قدم نقلة نوعية وفعلية في المسرح الغنائي.

اكتشفه سلامة حجازي واستقدمه من الإسكندرية وقدّمه للجمهور، لكنه لاقى اعتراضا شديدا من قبل الجمهور وطُرد لأنه لم يغني القصائد العربية الفصيحة، لتأتي بدايته الحقيقية فيما بعد مع جورج أبيض في أوبريت فيروز شاه، وبعدها اكتشفه نجيب الريحاني ولحّن له، ثم انتقل إلى باقي الفرق، وبعد ذلك أسس فرقته الخاصة وقدم ثلاثة أوبريتات هي: “شهرزاد” و”العشرة الطيبة” و”الباروكة”.

كتب بيرم التونسي مسرحية شهرزاد، ومثّلها عدد من الممثلين الكبار مثل محمد عبد الوهاب، وهي من الأعمال الفنية العبقرية التي تجسد الروح الشعبية المؤمنة بالحرية ضد الاحتلال.

فرقة “مسرح رمسيس” التي أسسها يوسف وهبي وضم إليها عددا من أهم الممثلين

 

مسرح رمسيس.. تراجيديا جذابة بقالب تشويقي

في هذه الفترة جاء دور يوسف وهبي الذي ورث 10 آلاف جنيه ذهبي من والده، فقام بتأسيس “مسرح رمسيس”، وضم إليه عددا من أهم الممثلين مثل ستيفان رستي وحسن البارودي وحسين رياض وروزا اليوسف وفردوس حسن وأمينة رزق. كما تعاون وهبي مع عدد من الكتاب، منهم أحمد رامي وبديع خيري والشاعر أحمد شوقي، لقد استطاع أن يؤسس لمسرح راق يناسب الأسرة المصرية، وخصص في المسرح أماكن للسيدات.

وفي عام 1923 افتتح مسرحه، وكانت مسرحيته الأولى “المجنون” التي فتحت آفاقا بعيدة في عالم المسرح، وقد اعتمد وهبي طابع الميلودراما مقدما التراجيديا والمأساة والفاجعة بقالب تشويقي، فجلبت مسرحياته المصريين.

تقول الممثلة سميحة أيوب: كان وهبي يجيد الكوميديا رغم أنه عُرف بالتراجيديا، ففي مسرحيته “يا تلحقيني يا متلحقنيش” حضرت العرض 30 يوما، وكل مرة كان يضحكني، لقد كان خفيف الظل وعظيما.

قدم يوسف وهبي 250 مسرحية، منها “راسبوتين” و”الصحراء” و”كرسي الاعتراف”، وكان يقدم كل أسبوع مسرحية جديدة، وأعيد عرض مسرحياته مرات عديدة في أزمان مختلفة من قبل الفرق المسرحية الأخرى.

مسرحية توفيق الحكيم “أهل الكهف” إحدى مسرحيات “فرقة المسرح القومي” عام 1935

 

فرقة المسرح القومي.. كسر الكساد المسرحي العالمي

في الثلاثينيات من القرن الماضي، ظهر الفنان زكي طليمات الذي كان مبتعثا للخارج، وهو مخرج وإداري وممثل، وعرف بأنه الممثل والمخرج المعلم.

يقول عمرو واردة: كان هناك محاولة لكسر الكساد العالمي في المسرح وخاصة في مصر، فلقد أغلقت كثير من الفرق الفنية أبوابها، لذا فكروا بإنشاء فرقة لمسرح الدولة، وقد أجبرت الشؤون الاجتماعية الحكومة لإصدار قرار بإنشاء “فرقة المسرح القومي” عام 1935 لإنقاذ الفرق الفنية.

افتتحت الفرقة عروضها بمسرحية توفيق الحكيم “أهل الكهف”، وبدأت تقدم عروضا مترجمة، ومن الأسماء التي عملت مع الفرقة جورج أبيض وفاطمة رشدي وزكي طليمات، وهو صاحب فكرة أكاديمية الفنون المصرية التي بدأت بمعهد واحد هو معهد الفنون المسرحية، لكن وزير المعارف كان متعنّتا فقام بإغلاق المعهد بعد عام واحد.

سميحة أيوب بطلة فرقة المسرح الحديث في دور “مريان” في مسرحية “البخيل”

 

فرقة المسرح الحديث.. بطولة سميحة أيوب

بقي زكي طليمات يناضل مدة 13 عاما ليعيد فتح معهد الفنون المسرحية، ثم شكل “فرقة المسرح الحديث” التي ضمت بين أبطالها فاتن حمامة وعمر الحريري وسميحة أيوب وشكري سرحان.

تقول سميحة أيوب إن أستاذها طليمات كان يشبه كاسحة الألغام، لقد هاجمه النظام وظَلمه، وقد ساعدها وقدم إليها دور البطولة منذ البداية وهو دور “مريان” في مسرحية “البخيل” وأصبحت هي بطلة فرقة المسرح الحديث.

كانت التجربة المسرحية في الفترة ما بين بداية القرن العشرين وحتى عام 1952 أشبه ببروفات متعددة الصور والاتجاهات، تهيئ لظهور مسرح قادم من الأرض المصرية.

وبعد ثورة 1952 الحدث السياسي الذي غيّر من طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر، استمرت الظاهرة المسرحية من خلال الفرقة القومية التي ساهمت بظهور عدد من المبدعين على جميع الأصعدة.

 

 

انقلاب الضباط الأحرار.. ثورة المسرح الكبرى

عقب ثورة 1952، شهد المسرح المصري تطورا كبيرا وسريعا، ورغم بعض الأزمات التي مر بها فإنه أصبح في مركز الصدارة للمسارح العربية.

يقول المؤلف المسرحي إبراهيم الحسيني: بدأت حركة الترجمة لأعمال عالمية حديثة، وكان همّ الكتّاب في ذلك الوقت تقديم الثقافة العالمية بقالب مفهوم وقريب للمشاهد المصري، وظهرت في تلك الفترة مجموعة من الفرق المسرحية مثل “فرقة المسرح الحر” و”فرقة إسماعيل ياسين” و”فرقة نجيب الريحاني”.

ففي عام 1954 تكونت “فرقة إسماعيل ياسين” مع أبو السعود الإبياري، وقدما عشرات المسرحيات حتى الستينيات، وكان المؤلف الإبياري غزير الإنتاج، وكان هو المنتج وقائد الفرقة، وقد استطاعا تقديم 61 مسرحية استقطبت الجمهور، وفي الصيف كانوا يقدّمون كل يوم مسرحية مختلفة.

أما نجيب الريحاني وبديع خيري وماري منيب فقد قدموا 64 عملا حتى عام 1968، بعدها توفي بديع وبقيت ماري منيب تقدّم المسرح وحدها.

فرقة إسماعيل ياسين، الفنان الذي كان يؤلف كل يوم مسرحية

 

ظهور التلفزيون.. حرب كبرى على المسرح

ترأس أحمد حمروش المسرح القومي، وتمكن من نقل المسرح إلى طور جديد مزدهر، إذ أحضر مجموعة من الكتاب الذين تحدثوا عن العدالة الاجتماعية وتوزيع الأراضي على الفلاحين، ودعموا مفهوم الاشتراكية بصفتها رؤية الدولة المصرية، وكانت هناك نهضة كبيرة من ناحية الكم وذلك لأن الدولة دعمت المسرح واستخدمته لمصلحتها.

تقول الفنانة سميحة أيوب: تحدثت مسرحية “السلطان الجائر” عن فكرة هل نمشي بحد السيف أم بالقانون، كان ديكور المسرحية بسيطا، وكانت مسرحية تخلو من الغناء والرقص، وكانت الكلمة هي الأساس، ومع ذلك جذبت الناس، وفي فترة الستينيات كان المسرح مزدهرا وقدم كبار الفنانين والمخرجين والكتاب.

ولما بدأ البث التلفزيوني كان بحاجة إلى الخامات والأدوات، فتفتّق ذهن المسؤولين عن إحضار فرق مسرحية لعمل بروفات وبثها على الهواء، كانت هذه هي البداية التي تشكلت منها 12 فرقة، لكن مسرح التلفزيون هوجم واتهم بالتفاهة والإسفاف.

وبسبب الكادر الكبير أصبح الإنتاج غزيرا، واستقطب الفنانون من الفرق المسرحية عبر إغرائهم بالمال والشهرة، ودُفعت لهم رواتب عالية، لذا ترك معظم الفنانين المسرح مما تسبب بانهياره. وشهدت هذه الفترة ظهور نجوم التلفزيون ومنهم حسن يوسف وأبو بكر عزت وعبد الرحمن أبو زهرة، وفي الستينيات ظهرت فرقة تحية كاريوكا والمتحدين.

بدأت تحية كاريوكا في فرقة إسماعيل ياسين واشتركت معه في ثلاثة أعمال ثم قررت الانفصال عنه، وأسست الفرقة عام 1962 واستمرت لعشر سنوات قدمت خلالها 21 مسرحية، وشاركها فايز حلاوة كمخرج وممثل ومؤلف، وكان أول أعمالها “بلاغ كاذب” و”قهوة التوتة” التي تناولت فيها أزمة السكن، وتطرقت في معظم أعمالها لقضايا اجتماعية وسياسية.

أعضاء فرقة ثلاثي أضواء المسرح جورج سيدهم والضيف أحمد وسمير غانم

 

ثلاثي أضواء المسرح.. حقبة الحذر من السياسة

يروي الفنان سمير غانم تجربته مع فرقة ثلاثي أضواء المسرح حيث يقول: كان حلم الضيف أحمد وهو مخرج وممثل أن يخرج للمسرح، فطلبت منه أنا وجورج سيدهم الانضمام إلينا، فقبل وقدمناه للمخرج محمد سالم، وقدمنا سكتش “كتوموتو” وكانت بداية نجاح الثلاثي.

أما فرقة المتحدين فتخرجت من المسرح الحكومي بقيادة سمير خفاجي وعبد المنعم مدبولي وفؤاد المهندس، يقول الفنان حسن مصطفى: ضمت الفرقة عددا كبيرا من النجوم بقيادة فؤاد المهندس، والتحقت بها الفنانة شويكار.

ويتابع: لقد كان فؤاد المهندس متعاونا، وكانت أجواء الكواليس راقية، فهو رجل مسرح بامتياز، كنا نتدرب لمدة شهر كامل على البروفات.

أما الفنانة ميمي جمال فتصف المهندس بأنه كان منضبطا واستطاع قيادة الفرقة بحرفية عالية.

لقد تعلق الناس بالمسرح في الستينيات وظهرت كوكبة من الفنانين الذين أصبحوا نجوما ونالوا شهرة واسعة. يقول الناقد عبد الغني داوود: كان إنتاج تلك الفترة إما تبريرا أو ترويجا للعمل السياسي، والقليل منه كان عالميا مثل مسرحيات توفيق الحكيم الذي حاول التعرض للسياسة، ولكن بحذر.

مسرحية “العيال كبرت” من تأليف بهجت قمر وتمثيل حسن مصطفى وكريمة مختار وأحمد زكي ويونس شلبي وسعيد صالح

 

أيام السادات.. حقبة الحرية المسرحية

رحل الرئيس عبد الناصر مطلع السبعينيات وبدأ مشروعه بالأفول، وجاءت فترة حكم الرئيس أنور السادات، وعلا سقف الحريات ودُشن ما عرف بالانفتاح الاقتصادي ليظهر القطاع الخاص، ولم يكن السادات مهتما بالحركة المسرحية لذاتها، ولكنه جعل منها متنفسا، فقد برزت وتعددت فرق القطاع الخاص ووصل عدد العروض في الصيف 16 عرضا، لكن هذه الهجمة الشرسة من قبل القطاع الخاص ألغت المسرح الجاد.

وبدأت فرقة المتحدين تكوينا جديدا، فقدمت مسرحية “مدرسة المشاغبين” التي مُنعت في زمن السادات -لأنها خرجت عن أدبيات المجتمع-، وأعيد عرضها بعد وفاته، ولاقت قبولا منقطع النظير، لكنها كانت تعبيرا صادقا عنه، بعد ذلك استطاع عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي أخذ دور البطولة المنفردة في المسرح.

استقل عادل إمام بشُعبة من شُعب المسرح، وقدم مسرحية “شاهد ماشفش حاجة” التي نجحت بامتياز، إذ استعان بعمر الحريري، أما الشُعبة الثانية فكانت مسرحية “العيال كبرت” من تأليف بهجت قمر وقيادة حسن مصطفى وكريمة مختار وأحمد زكي ويونس شلبي وسعيد صالح، وتميزت العروض وقامت بجولات داخل مصر وخارجها.

أما فرقة “المدبوليزم”، فقد أسسها الفنان عبد المنعم مدبولي الذي يقول عنه الدكتور عمر دوارة: كان عبد المنعم مدبولي مخرجا وفنانا قديرا، يقوم أسلوبه على الفكرة التكرارية في المشاهد والإيفهات الجسدية، وتكرار الكلام بأكثر من أسلوب.

تأسست فرقة عبد المنعم مدبولي عام 1967 واستمرت ثلاث سنوات قدمت خلالها سبعة عروض، ومن نجوم الفرقة عديلة راتب وسلامة إلياس، وقدم مدبولي وجوها جديدة مثل يحيى الفخراني وسناء يونس ومحمد نجم، ومن عروض الفرقة “حمار مشلش حاجة”، و”رجل مفيش منه”، وكان آخر عرض “شارع الهرم”.

“أهلا يا بكوات” مسرحية استمر عرضها 17 عاما من بطولة الفنان حسين فهمي والفنان عزت العلايلي

 

“أهلا يا بكوات”.. مسرح الكباريه

بعد اغتيال السادات عام 1981، جاءت فترة حكم الرئيس حسني مبارك حيث ازدهر المسرح في العقد الأول من حكمه وخاصة القطاع الخاص، بالإضافة للقطاع الإقليمي والعام، فأصبحت حرية الفن أكبر في زمنه، وكانت هناك تجارب مهمة ولكنها فردية ومعزولة، ومن المسرحيات المهمة للقطاع العام “أهلا يا بكوات” التي استمر عرضها 17 عاما، وهي من تأليف لينين الرملي وبطولة الفنان حسين فهمي والفنان عزت العلايلي.

بدأت السياحة من قبل الوفود العربية تنشط، وكان هناك إقبال على المسرح الذي تحول إلى الاستعراض والترفيه دون أي مضمون، وقد شبهته الفنانة سميحة أيوب بـ”الكباريه”.

تقلص عدد الفرق الفنية وظهر ما يعرف بـ”مسرح النجم”. يقول عبد الغني داوود: كانت هذه إحدى الآفات التي أصابت المسرح وأضحى فريق العمل بكامله يدور في فلك النجم وسيطرته.

من سمات تلك الفترة وجود الثلاثي: النجم الممثل والنجمة الممثلة والنجم الشعبي، وغالبا ما تقوم النجمة بالاستعراض والرقص، وكانت اهتمامات المسرحة منصبّة على فئة محدودة هم الأثرياء والطبقة المتوسطة بالإضافة للسياح العرب، ولم يكن للمسرح أي دور اجتماعي أو سياسي، بل كان يقتصر على الترفيه والتسلية.

سعيد صالح أحد ثلاثة اعتبروا ظاهرة فنية مع جلال الشرقاوي ومحمد صبحي

 

سعيد صالح.. مسرح غنائي على خطى سيد درويش

يقول الناقد مجدي عبيد: لم يوجد في هذه المرحلة من المسرح التجاري سوى ثلاث ظواهر فنية كانت مختلفة هم سعيد صالح وجلال الشرقاوي ومحمد صبحي.

أما سعيد صالح، فقد قام بتأسيس “فرقة مصر المسرحية”، حيث وجد نفسه أمام لحظة فارقة، فأراد تقديم رسالة من خلال المسرح، فاكتشف أن لديه موهبة التلحين وأنه يستطيع الغناء، فأحضر دواوين صلاح شاهين وبيرم التونسي وفؤاد حداد وبدأ بتلحينها، لقد حاول أن يجد لنفسه خط غناء يتناسب مع كونه ممثلا، فسلك طريق سيد درويش، وعمل مجموعة من الأغاني أدخلها للمسرح، وأوجد إطارا دراميا مسرحيا يوازي تلك الألحان، وأُعجب الناس بها كما في مسرحية “كعبلون”، وبإجماع النقاد، كان العمل مُهما وشكلا آخر للمسرح المصري، وطُورت الفكرة فأنتج عملين، لكنه أفلس ولم يستطيع المضي في رسالته.

من أعمال المسرح السياسي المهمة مسرحية “عالرصيف” لسهير البابلي وحسن عابدين

 

جلال الشرقاوي.. صناعة الضحك الهادف

أما جلال الشرقاوي فقد أسس “فرقة مسرح الفن”، وهو رجل أكاديمي وأستاذ معهد كان حريصا على أن يثير الضحك ولكن مع طرح قضية، وكانت فرقته من أهم الفرق التي قدمت الكثير من المسرح السياسي، ومن أعماله المهمة “عالرصيف” لسهير البابلي وحسن عابدين، ومسرحية “دستور يا سيادنا” لأحمد بدير التي ناقش فيها فكرة انتخابات الجمهورية، أما في مسرحية “الجوكر” فقد استعان الشرقاوي بكتاب مهمين مثل أسامة أنور عكاشة ونجيب أبو العلا وأبو العلا السلموني.

مسرحية “أنت حر” كانت سبب ذيع صيت الممثل الكوميدي “محمد صبحي”

 

محمد صبحي.. نكهة مختلفة تكسر التوقعات

أما “فرقة ستديو 80″، فيقول عنها كاتب الفرقة لينين الرملي: لقد عملتُ شيئا مختلفا اعتُبر بداية أنه غير كوميدي، لكنه برهن عكس ذلك، لقد قررت تكوين فرقة مع محمد صبحي، وكان أسرع ممثل يصل للنجومية.

ويتابع الرملي: قدمتُ له عملا تلفزيونيا هو “فرصة العمر” الذي عرض في رمضان، ومسرحية “أنت حر” التي عرضت في العيد وخلال شهر واحد فقط ذاع صيته، وأردت عرض تجارب مختلفة فقدمت عدة أعمال مثل “تخاريف” و”وجهة نظر” و”الهمجي”، وكانت جميعا خارج ما يُطرح في القطاع الخاص لكنها نجحت.

كانت تلك التجارب الثلاث خارجة من رحم القطاع الخاص، ولكنها ليست بشروط المسرح التجاري بل بنظرة المبدع.

ثورة ٢٥ يناير غيرت معادلة المسرح بشكل درامي، وفتحت المجال لتقديم عروض مسرحية تعبّر عن المشهد الجديد

 

مسرح الثورة.. إخفاقات ومخاوف من المستقبل المجهول

ومع بداية الألفية الثالثة أرفدت الحركة المسرحية المصرية عددا من الفاعلين الجدد من جيل الشباب الذين قاموا بأدوار مهمة، فأصبح من حق أي فنان أن ينتقد النظام وبقسوة؛ ينتقد مزاياه وعيوبه بشكل فني وفكري.

ثم جاءت ثورة ٢٥ يناير لتتغير المعادلة بشكل درامي، فاتحة المجال لتقديم عروض مسرحية تعبّر عن المشهد الجديد، ومع ذلك، لم ينتج زمن الثورة أي عمل حقيقي ناضج.

وتراود أهل الفن المخاوف من مستقبل مجهول لا يعرفون حجم الحريات فيه، فكيف سيكون وهل سيُسمح بفضاءات أوسع للإبداع والتعبير؟ والبعض الآخر يأمل