“باسطا”.. الفيلم الطُّعم الذي اختفى بسببه المهدي بن بركة

خاص-الوثائقية

هي من أكثر قصص الاختفاء السياسي شهرة وتعقيدا وغموضا في المغرب الحديث، تخص رجلا سياسيا اجتمعت فيه كل المتناقضات، فقد كان أستاذ الملك الراحل الحسن الثاني الذي درّسه الرياضيات، ومعارضه الأول في الوقت نفسه.

لكن الأكثر إثارة في قصة هذا المعارض السياسي المجهول المصير، وعلاوة على البصمات الدولية الثابتة في عملية اختطافه التي جرت بالعاصمة الفرنسية باريس يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1965؛ هو أن “الطُّعم” الذي استُخدم لاستدراجه نحو حتفه لم يكن سوى فيلم سينمائي توثيقي، قيل له إنه سيروي قصة سقوط الاستعمار في دول العالم الثالث، على أن يكون عنوانه “باسطا”.

وبعد مرور أكثر من نصف قرن من اختفائه، بات من شبه المؤكد أن جريمة اختطافه ثم تعذيبه الذي يرجح أنها انتهت بقتله؛ جمعت بين أطراف من داخل السلطات المغربية إلى جانب أطراف استخباراتية فرنسية وأمريكية وإسرائيلية. وفي خلفية ما وقع له كان هذا السياسي المغربي الشهير يُحضّر مع عدد من زعماء العالم الثالث حينها -يتقدمهم صديقه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر- لتنظيم مؤتمر القارات الثلاث بكوبا عام 1966.

“باسطا”.. الفيلم الطُّعم

أحد أركان قلعة اللغز المحيّر كان الفيلم الذي سافر المهدي بن بركة يوم اختطافه من أجل الاطلاع على السيناريو المعد له إلى العاصمة الفرنسية باريس.

لكن قصة الفيلم كشفت جزءا من أسرارها في ذكرى اختفاء المهدي بن بركة عام 2005، حين أطلعت أسرته صحفيي جريدة “لوموند” الفرنسية على نص ملخص السيناريو، والذي شكل فخا انتهى بالإيقاع بالسياسي المغربي.

يحكي الصحفي الفرنسي في مقاله كيف أن أحد أبناء المهدي بن بركة أخرج له في أحد أيام سبتمبر/أيلول 2005 ملفا مكونا من 30 صفحة يتضمن ملخص سيناريو الفيلم الذي تم تقديمه للمهدي بن بركة كمشروع يفترض أن يشرف على مضامينه التاريخية.[1]

مصدر آخر هو كتاب مشترك بين المؤرخ المغربي المعطي منجب والكاتبة زكية داوود ورد فيه أن سلوك المهدي بن بركة كان يوحي بأحد الاحتمالين؛ فإما أنه آمن بالفعل بمشروع الفيلم، وإما أنه كان يشك في كونه مجرد فخ، ويخلص الكاتبان إلى أن الجزم صعب للغاية.[2]

في ملخص سيناريو الفيلم الذي كان يحمل اسم “باسطا” (وهي كلمة إسبانية تعني: كفى)، يقرأ صحفي “لوموند” عنوانا يتحدث عن المراحل الكبرى لإزالة الاستعمار، وينطلق من سنة 1945 ليحكي قصة حصول كل دولة من دول العالم الثالث على استقلالها، ويتوقف عند لحظة تأسيس حركة دول عدم الانحياز عام 1955 في باندونغ الإندونيسية.[3]

وتضيف الصحيفة الفرنسية أن الملخص يتضمن فقرات خاصة بكل دولة مستعمِرة على حدة، حيث تسجل الوثيقة لحظة نهاية الإمبراطورية الخاصة بكل من هولندا وفرنسا.. فيما تنتهي الوثيقة بفقرة تقول “ما زال هناك الكثير مما يجب القيام به”، وتوثق ما وقع في العاصمة المصرية القاهرة عام 1964 من اجتماع لوفود 58 دولة من بين أعضاء حركة عدم الانحياز، بإشراف من عبد الناصر والماريشال “تيتو” رئيس يوغسلافيا حينها.

تردد الضحية

تؤكد مصادر أخرى جازمة أن بن بركة كان قد حسم أمره وقرر التراجع عن فكرة المشاركة في الفيلم. فقبل حلوله في باريس صباح يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965، أخبر المهدي شريكيه المفترضين في مشروع الفيلم “فرانجو” و”فيكون” بموعد وصوله قبل يومين، وحدد معهما موعدا في مقهى “ليب” بشارع “سان جيرمان”.

يقول الصحفي “بيرني” أمام المحكمة إن بن بركة اتصل به قبل أسبوع من الموعد ثم عاد ليتصل قبله بيومين. ويكشف هذا الإلحاح عن النية المعقودة عند المهدي بن بركة في جمع المعنيين الثلاثة بالفيلم وإخبارهم بتراجعه عن المشاركة في المشروع، كما يحكي كتاب الصحفي المغربي الشاهد على هذه الأحداث مصطفى العلوي.[4]

وصل المهدي بن بركة إلى العاصمة الفرنسية باريس قادما من القاهرة ثم جنيف على الأرجح صباح الجمعة 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965، وتوجه فورا إلى بيت صديقه اليهودي “جو يوحنا” حيث أودع حقيبته وبداخلها ملف مشروع الفيلم، وهو ما قدمه الصحفي المغربي مصطفى العلوي تأكيدا لنيته التراجع عن الفكرة “إذ لو كان ينوي النقاش بشأن الاستمرار في إنجاز الفيلم لأخذ معه الوثائق المتعلقة به”.

الشاهد المفاجأة

قبل وصوله إلى فرنسا، كان بن بركة قد اتصل من جنيف بطالب مغربي يحضّر أطروحة في التاريخ يدعى التهامي الأزموري، وحدد معه موعدا في الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول.

وصرح هذا الطالب أمام المحكمة أن بن بركة اتصل به صباح اليوم نفسه وطلب منه تغيير الموعد، ومقابلته في الـ”شانزليزيه” في تمام الساعة 11 لمرافقته إلى جلسة تتعلق بإنجاز فيلم سينمائي. ويبدو هنا أن المهدي كان ينوي تقديم الطالب المغربي إلى المجموعة المهتمة بالفيلم ليخلفه في الإشراف السياسي.

كانت “العصابة” المكلفة تنفيذ العملية تنتظر وصول المهدي بن بركة وحيدا إلى مقهى “ليب”، لكنهم فوجئوا بمرافقة الطالب “الأزموري” له. فتقدم الضابط “سوشون” نحو بن بركة ثم أخرج من جيبه بطاقة  الشرطة الفرنسية وأظهرها له، وهو ما جعل المهدي يمتثل لأوامره.[5]

تقول الروايات المتطابقة -وخاصة منها التي جرت أمام القضاء الفرنسي- إن المهدي بن بركة التفت قبل أن يركب السيارة إلى الضابط “سوشون” قائلا “هل أنتم فعلا من الشرطة الفرنسية؟”، وهو ما يثير التساؤل إزاء سرّ استجابته للأوامر وهو المعروف بذكائه ودهائه.

أستاذ الملك.. ضحية الحاشية

المهدي بن بركة هو أشهر المعارضين السياسيين الذين عرفهم المغرب خلال القرن العشرين، واستمرار حضور قضيته في الأذهان رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمن، يعود لارتباطها بشخصية يُجمع مؤيدوها وخصومها على أنها تعود لرجل وطني وابن طبقة شعبية شديد الدهاء وبارع في تدبير التوقعات السياسية.

كان المهدي بن بركة يكبر الملك الراحل الحسن الثاني ببضع سنوات جعلته يدرّسه مادة الرياضيات في المراحل الأولى من حياة الملك، وبعد ذلك أصبح أحد أبرز الوطنيين الشباب الذين كانوا يدخلون خلسة إلى القصر الملكي لربط الصلة بين السلطان محمد بن يوسف والوطنيين الرافضين لاستمرار الاحتلال الفرنسي بالمغرب.

ارتبط اسم المهدي بن بركة بأول تجربة “برلمانية” للمغرب المستقل، حيث ترأس المجلس الوطني الاستشاري الذي تأسس بعد الاستقلال منتصف الخمسينيات، وكان العقل المدبر لأول مشروع كبير يتمثل في بناء طريق الوحدة التي أشرف على بنائها بواسطة أكثر من 10 آلاف شاب مغربي.

لكل ذلك لا يعتبره الكثيرون خصما حقيقيا للملكية المغربية، ويذهبون في اتجاه تفسير اختفائه بدسائس الحاشية الأمنية للملك الحسن الثاني. فأحد أصدقاء دربه –وهو عبد الرحمن اليوسفي الذي أصبح وزيرا أولا في المغرب عام 1998 في أول تجربة لتوافق المعارضة اليسارية السابقة مع الملك المغربي الراحل- قال في خطبة شهيرة له ألقاها في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 2002 بعد انتهاء مهامه على رأس الحكومة المغربية متحدثا عن فترة اختفاء المهدي بن بركة “عاشت بلادنا بعض التطورات التي تخللتها من حين لآخر مشاريع لتحقيق التناوب وتسعى دائما إلى إشراك حزبنا في الحكومة، هكذا عمد القصر سنة 1965 بعد الانفجار الشعبي الذي شهدته مدينة الدار البيضاء إلى إجراء مشاورات بهدف تشكيل حكومة جديدة يشارك فيها الاتحاد الاشتراكي”. والإشارة هنا إلى الانتفاضة الشعبية العارمة التي شهدها المغرب عام 1965 بعد إقدام الحكومة على وضع سقف لسن الولوج إلى المدرسة.

في هذا السياق، يضيف اليوسفي في خطبته: حدث اتصال بقائدنا المهدي بن بركة الذي كان يقيم بالخارج مضطرا، وكان مناضلا داخل المنظمات الدولية غير الحكومية المساندة لحركات التحرر، حدث ذلك الاتصال من طرف القصر الملكي في أفق عودته إلى البلاد واحتمال المشاركة في الحكومة. وفي الوقت الذي كان يستعد فيه للدخول بعد مؤتمر القارات الثلاث بهافانا، امتدت إليه أياد مجرمة واختطفته من قلب مدينة باريس يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965، لتعمل على اغتياله دون أن نعرف إلى اليوم ظروف هذا الاغتيال ومكان دفن جثته.

فالتقارب الذي حصل بين الملك الحسن الثاني والمهدي بن بركة قد يكون السبب الأول لاختفائه، خوفا من جانب بعض الأطراف داخل النظام السياسي المغربي من أن يكون هذا التقارب على حسابهم.

إفساد توافق الملك والمعارضة

وثيقة رسمية هي عبارة عن كتاب أصدره قبل بضع سنوات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حمل أطروحة مدافعة عن هذه الرواية مفادها أن الملك الحسن الثاني كان يفاوض اليسار، فقامت أجهزته الأمنية باختطاف بن بركة.

يحكي هذا الكتاب الذي ألفه مؤرخون وأكاديميون مستقلون كيف تولى وزير الداخلية المغربي الجنرال أوفقير مهمة قمع المتظاهرين الذين شاركوا في انتفاضة مارس/آذار 1965، وكان يقود العمليات من مروحية، واستمر العنف ثلاثة أيام موقعا مئات القتلى..[6]

كانت العواقب السياسية للحدث في غاية الفداحة، يقول الكتاب نفسه في إشارة إلى الصراع الذي اندلع بعد استقلال المغرب بين الملكية والحركة الوطنية: دخل الملك في محادثات مع المعارضة، واشترط حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (حزب المهدي بن بركة) حلّ البرلمان وإجراء انتخابات سابقة لأوانها. فأعلن الملك حالة الطوارئ في 7 يونيو/حزيران 1965، وتم حلّ البرلمان بدعوى عدم الكفاءة. فانخرط المغرب يومها في مرحلة طابعها السلطة الشخصية المنفردة للملك استمرت لما يزيد عن خمسة أعوامّ، وشكّل هذا المنعطف انتصارا ساحقا للقصر على الحركة الوطنية.[7]

ويتوقف هذا الكتاب عند حادثة اختطاف المهدي بن بركة، معتبرا إياها السبب الحقيقي للقطيعة بين الحسن الثاني واليسار، ويذهب إلى أنه “ليس من المؤكد أن حالة الطوارئ قد حدثت مباشرة عن أحداث مارس/آذار لسنة 1965، لأن هناك شهرين يفصلان الحدثين عن بعضهما أولا، ثم لأن هناك مفاوضات فعلية قامت بين القصر والاتحاد خلال شهر أبريل/نيسان من السنة نفسها، كان الهدف منها الوصول إلى تسوية سياسية تمر بالضرورة عبر غرفتي البرلمان، حيث كان الاتحاديون أقلية”.

ويَعتبر الكتاب أن إعلان حالة الطوارئ كان تمهيدا لمرحلة جديدة تتمثل في احتمال دخول الحسن الثاني في توافق مع اليسار المعارض، وهو ما يرجّح فرضية قيام أطراف أخرى داخل النظام المغربي بتنفيذ عملية الاختطاف.

ويؤكد هذه الرواية كاتب فرنسي اسمه “روجي موراتي” ألف كتابا خاصا عن القضية، وقال “لو لم يحضر عبد القادر بن بركة -شقيق المهدي- إلى الرباط للتحضير لرجوع أخيه، لما استطاع أوفقير اكتشاف مخطط الحسن الثاني”. ويضيف أن الحسن الثاني كان صادقا في رغبته التقارب مع اليسار وفي رجوع المهدي بن بركة.

دور الجنرال أوفقير

من أكثر فصول هذه القضية إثارة وغموضا تلك التي تكشف تردد كل من وزير الداخلية المغربي الجنرال أوفقير والمسؤول الأمني أحمد الدليمي على فرنسا تزامنا مع الاختطاف، وهو ما جعل القضاء الفرنسي يوجه لهما الاتهام بشكل سريع.

فأحد المتهمين الرئيسيين الذين حاكمهم القضاء الفرنسي وهو المدعو “لوبيز”؛ قال إن أوفقير غادر باريس من مطار أورلي في صباح يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول في اتجاه جنيف، ثم عاد إلى باريس بعد يومين حيث حضر حفل عشاء أقامه السفير المغربي على شرف بعض الموظفين المغاربة التابعين لوزارة الداخلية.

أما الجنرال الدليمي فقد غادر باريس صباح 31 أكتوبر/تشرين الأول في اتجاه المغرب، ثم عاد بدوره في اليوم الموالي. وهي تحركات كافية لإثارة الاحتمالات والتوقعات، وهنا يتساءل الصحفي مصطفى العلوي في كتابه: لو كان مصير بن بركة قد قضي بعد مجيء الدليمي وأوفقير يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول، فلماذا عادا إلى باريس؟

عاد الصحفي مصطفى العلوي ليسلط الضوء على صراع بين الرجلين قد يكون شمل قضية بن بركة، فـ”ربما كان سفر الدليمي إلى فرنسا يرمي إلى استطلاع ما يفعله أوفقير في باريس أو للتجسس عليه، وربما لضمان استمرار الاتصال بين القصر وبن بركة. ومن مؤشرات ذلك، هذا التصريح الصحفي الذي أدلى به الدليمي في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1966 -أي قبل تسليم نفسه للعدالة الفرنسية- لجريدة “الحياة” اللندنية: لقد كنا ننتظر رجوع المهدي بن بركة إلى المغرب وربط الاتصال معه، ولكننا فوجئنا في باريس باختطافه، ومن المؤكد أن الذين اختطفوه كانوا على علم بالاتصالات الجارية معه لتأمين رجوعه إلى المغرب..[8]

أزمة عاصفة مع فرنسا

تحوّلت عملية اختطاف المعارض السياسي المغربي المهدي بن بركة إلى أزمة سياسية عاصفة بين الرئيس الفرنسي حينها الجنرال ديغول والملك المغربي الحسن الثاني. فقد اعتبر الحسن الثاني سلوك ديغول قليل الاحترام تجاهه حين اتهم المملكة بالضلوع في العملية، بينما شعر ديغول بجرح أصاب كبرياءه حين تجرأت أطراف مغربية على تنفيذ أو المشاركة في تنفيذ عملية من هذا النوع فوق التراب الفرنسي.

وبينما رفض الحسن الثاني بشدة مطالب ديغول بتسليم وزير الداخلية المغربي محمد أوفقير لمحاكمته في فرنسا، بعث المغرب في المقابل المسؤول الأول عن الأمن المغربي وهو جنرال آخر اسمه أحمد الدليمي قام بتسليم نفسه للسلطات الفرنسية التي قامت بمحاكمته.

ويروي الصحفي المغربي مصطفى العلوي في مذكراته، كيف أن المحكمة الفرنسية أنهت القضية بإعلان براءة المسؤول الأمني المغربي أحمد الدليمي، لكن وبعدما كانت المحاكمة تستأثر باهتمام إعلامي كبير، تم تجاهل جلسة النطق بالحكم لتزامنها مع اندلاع حرب الستة أيام بين إسرائيل وجيرانها العرب في يونيو/حزيران 1967.

فالشق الدولي وخاصة الفرنسي في عملية الاغتيال السياسي هذه يجعل الملف مرتبطا بأمن وصورة الدولة الفرنسية التي يتهمها بعض المغاربة بحجب الحقيقة، إذ إن فرنسا تحرص على عدم تلطيخ صورتها كدولة ديمقراطية وحامية للحقوق ومحترمة للقانون، وهو ما سيؤدي إليه حتما أي رفع للسرية عن وثائق تلك المرحلة.

يقول الملك المغربي الراحل الحسن الثاني في أحد حواراته الصحفية حينها: لم يكن ممكنا قبولها أبدا، فبدون أدنى دليل اتُهم على الفور وزيران في المغرب.. إني أرفض أن يتدخل أحد في شؤوننا. وعلى كل حال، فلو أني رضخت لرغبة الجنرال ديغول لظن في قرارة نفسه أني لم أعد ابن محمد الخامس، لأنه (أي ديغول) كان عنيدا جدا وكان أبي كذلك.[9]

فقد أدى تعرض المعارض الأول للعرش المغربي المهدي بن بركة للاختطاف فوق التراب الفرنسي -بمشاركة مغربية واضحة وتواطؤ بيّن من الأجهزة الفرنسية- إلى شعور الرئيس الفرنسي كما لو أنه تعرض لطعنة من الخلف، لينطلق التحقيق والمحاكمة التي استدعت دون تردد وزير داخلية الحسن الثاني الجنرال أوفقير.

يقول رئيس الجمهورية الخامسة ديغول في تصريح مرتبط بالحادث “هناك بعض الأفراد يعتبرونني غبيا”.

عملية اختطاف المعارض السياسي المغربي المهدي بن بركة تحولت إلى أزمة سياسية عاصفة بين الرئيس الفرنسي حينها الجنرال ديغول والملك المغربي
عملية اختطاف المعارض السياسي المغربي المهدي بن بركة تحولت إلى أزمة سياسية عاصفة بين الرئيس الفرنسي حينها الجنرال ديغول والملك المغربي

بصمات إسرائيلية

كانت الشكوك تحوم حول وجود دور إسرائيلي في الاختطاف منذ البداية، لكن وفي منتصف 1983 -أي بعد 18 سنة على العملية- نشر “يورام بيري” المستشار السياسي لرئيس الوزراء الأسبق “إسحاق رابين”، كتابا من إصدار جامعة كامبريدج البريطانية عنوانه “ما بين الحروب وصناديق الاقتراع”، وخصصه لشرح الخلافات الخطيرة التي تنخر الهيكل العسكري والحكومي الإسرائيلي، وقدم قضية المهدي بن بركة كعنصر أساسي في خلق الخلافات بين المدنيين والعسكريين.

تحدّث هذا السياسي الإسرائيلي عن تورط العسكريين الإسرائيليين في السياسة عبر مشاركة جهاز الموساد للاستخبارات الإسرائيلية في عملية اختطاف بن بركة، وهو الشيء الذي دفع رؤساء الأحزاب إلى الانقسام إلى فريقين، حيث اتَّهم حزب “الماباي” مدير الموساد بإصدار الأوامر إلى أجهزته بالمشاركة في العملية دون استشارة الوزير الأول، ويقول الفريق الثاني “حزب رافي” بأن “ليفي أشكول” رئيس الوزراء أعطى موافقته.

ويؤكد كتاب “بيري” الدوافع التي جعلت زوجة المهدي بن بركة ترفع أثناء انعقاد المحاكمة في باريس مذكرة ملحقة إلى رئيس المحكمة العليا الفرنسية تطالبه بفتح تحقيق إضافي واستجواب مجموعة من الإسرائيليين. وحددت زوجة المهدي في مذكرتها أسماء الأشخاص الذين تطلب استجوابهم، وهم الجنرال “مايير أميت” مدير الموساد، والصحفيان “صمويل مور” و”مكسيم غيلان”، وهي المعطيات التي نشرتها جريدة “لوموند” الفرنسية يوم 28 مارس/آذار 1967.

ويعود السبب فيما أقدمت عليه زوجة المعارض المغربي إلى قيام صحفيين إسرائيليين هما “غيلان” و”مور” بنشر تحقيق في 11 سبتمبر/أيلول 1966 في جريدتهما “بول” التي كانت تصدر في تل أبيب بعنوان “إسرائيليون في قضية بن بركة”.

وقد صادرت الشرطة الإسرائيلية -ورغم حرية الصحافة المعلنة في إسرائيل- الجريدة واعتقلت الصحفيَين، وحكمت عليهما في محاكمة سرية بالسجن، بل إن الحكومة الإسرائيلية نصبت مديرا ورئيسا للتحرير جديدين من اختيارها، واستمرت الجريدة في الصدور بمحررين جدد حتى لا يشعر الرأي العام بأي شيء.

وتمكن صحفي إسرائيلي آخر من الحصول على نسخة من العدد المحجوز وحملها سرا إلى نيويورك، حيث قدم النسخة لجريدة “نيويورك تايمز” التي نشرت الموضوع على مدى أيام طويلة، وتمكن الإسرائيليون من الاطلاع على ما أصرت الحكومة الإسرائيلية على كتمانه، وقامت ضجة كبرى في أمريكا والعالم.

قال الصحفيان اللذان سجنا بسبب هذه القضية في تحقيقهما، إن من بين الشخصيات الإسرائيلية الأساسية التي أسهمت في إقناع المهدي بن بركة بركوب الطائرة المتوجهة إلى باريس حيث تم اغتياله؛ رجل أعمال سويسري عرض بطريقة غير مباشرة تمويل فيلم “باسطا”.

الشكوك كانت تحوم حول وجود دور إسرائيلي في الاختطاف منذ البداية
الشكوك كانت تحوم حول وجود دور إسرائيلي في الاختطاف منذ البداية

نهاية فيلم قبل بدايته

وقال الصحفي المغربي مصطفى العلوي الذي حقق في الموضوع ونشر عنه كتابا، إن الشخصية التي لم يستطع الصحفيان الإسرائيليان الإفصاح عنها هي “آرثر كوهين” صهر “يعقوب شابيرا” وزير العدل الإسرائيلي الذي سجن الصحفيين.

ويعمل “كوهين” هذا في مجال الإعلام والسينما في جنيف، وهو الذي عرض الأموال لإنتاج الفيلم. وهنا يعود كتاب مصطفى العلوي إلى تحقيق جريدة “بول” الإسرائيلية ليقرأ منه: لقد صرح الصحفي “فيليب بيرنيي” صديق المهدي بن بركة أمام هيئة المحكمة خلال جلستها الأولى، أنه أخبر المهدي بأن الأموال التي ستصرف على الفيلم ستكون أموالا إسرائيلية يقدمها رجل أعمال مشهور، سيعرفه بن بركة فيما بعد”.

ويضيف التحقيق نفسه كيف أن المهدي بن بركة اشمأز لهذا العنصر الجديد، “فهو لن يقبل، وخصوصا أنه صديق لجمال عبد الناصر، ولكن رجل الأعمال الذي عرض تمويل الفيلم وكان وراء الزج بـ”بن بركة” في دوامته، أصيب بخيبة كبرى عندما سمع بما حدث له”.

المصادر:

[1] https://www.lemonde.fr/cinema/article/2005/11/01/le-synopsis-retrouve-du-documentaire-qui-a-servi-a-pieger-l-opposant-marocain_705422_3476.html

[2] « Ben Barka, une vie, une mort », par Zakya Daoud, Maâti Monjib ; janvier 1996, Michalon Eds

[3] https://www.lemonde.fr/cinema/article/2005/11/01/le-synopsis-retrouve-du-documentaire-qui-a-servi-a-pieger-l-opposant-marocain_705422_3476.html
[4] مصطفى العلوي، “المهدي بن بركة، للحقيقة والتاريخ”، دار الآفاق الجديدة
[5] مصطفى العلوي، “المهدي بن بركة، للحقيقة والتاريخ”، دار الآفاق الجديدة
[6] “تاريخ المغرب، تحيين وتركيب”، إشراف وتقديم: محمد القبلي، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب
[7] “تاريخ المغرب، تحيين وتركيب”، إشراف وتقديم: محمد القبلي، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب
[8] مصطفى العلوي، “المهدي بن بركة، للحقيقة والتاريخ”، دار الآفاق الجديدة
[9] « De Gaulle et le Maroc », Mustapha Sehimi, décembre 1991, Publisud