تونس العتيقة.. قراءة الزمان على حجارة المكان

تونس العتيقة أو “المدينة العربي” كما يحلو للتونسيين تسميتها، هي تلك الأحياء القديمة التي تحتضن جامع الزيتونة أو يحتضنها هو، وهي تلك الأسواق المسقوفة التي تحيط بالجامع، ويقصدها السكان والسائحون من كل مكان للتسوق وللاستمتاع بالمناظر التراثية والتاريخية العريقة.

وضمن مبادرة للشباب التونسي، فقد جرى تصوير فيلم يظهر معالم هذه المدينة العريقة، ويقف على تفاصيل الحياة اليومية للناس هناك، وقد اصطحب فريق إعداد الفيلم مجموعة من أهل الحي العتيق، ليقف معهم على تفاصيل يوميات هذا المكان الموغل في أعماق التاريخ. وقد أنتجت قناة الجزيرة الوثائقية هذا الفيلم وعرضته تحت عنوان “تونس.. المدينة العتيقة”.

جامع الزيتونة.. توأم المدينة العربية

هذا الشيخ المهيب هو أحد الذين رافقونا في مراحل تصوير الفيلم، يقدم نفسه قائلا: عمري الآن 73 سنة، تربيت في هذه المدينة ولا أستطيع فراقها، وإذا تغيبت عنها لسبب ما فإنني أعود إليها مباشرة، أشعر أنه ينقصني شيء ما حتى أعود إليها، المدينة العتيقة هي داري وعائلتي التي أحن إليها في كل حين.

وهذا صاحب المقهى الشعبي يقول: أنا أعمل هنا في نهج (طريق) جامع الزيتونة منذ 40 عاما، هذا المقهى موجود هنا قبل أكثر من 130 عاما، كنا نشعل “الوابور” التقليدي لغلي الماء وتحضير القهوة، ثم تطورت الأمور وأصبحنا نشعل مواقد “البوتاغاز” ثم تطورنا إلى الغاز الطبيعي، نبيع هنا القهوة التقليدية والشاي بالنعناع والمشروبات الأخرى من ساخنة وباردة.

هنا في هذا السوق العتيق المسقوف تجد ضالتك من البضائع التقليدية كالأقمشة والمنسوجات والحلي والمجوهرات والنحاسيات المنقوشة والآلات الموسيقية التقليدية، هذا موطن البهجة الذي يحبه أهل تونس، ويعشقه كل سائح يأتي إلى هذا المكان.

في تونس العتيقة كل من يأتي من “باب البحر” يجب عليه أن يمر من أمام جامع الزيتونة العريق، كما أن القادمين من “باب الجزيرة” أو “باب الصبّاغين” ستسوقهم أقدامهم حتما إلى جامع الزيتونة، أما في وقت الصلاة فالجميع يصلي هنا، فهذا النهج يعج بالمارة والمتسوقين والمصلين على مدار الساعة.

النسيج والدباغة والنقش على النحاس صناعات تقليدية تونسية في المدينة القديمة

جامع الزيتونة هذا له خاصية فريدة في جذب الناس، يشتاق المرء إلى الصلاة فيه ولو مرة واحدة في الشهر، أما في رمضان وصلوات التراويح والمناسبات والأعياد الإسلامية فلا تسأل كيف تهوي أفئدة الناس إليه.

حرفة الصناعات التقليدية.. صراع شرس للبقاء

يقول صاحب أحد الدكاكين: مضى كبار السن إلى رحمة الله، وبقي الأبناء والأحفاد، لكن الفرق كبير والزمن قد تغير كثيرا، كان توقير الكبير والاحترام والتقدير المتبادل بين الزبائن والتاجر هو أساس علاقة الناس ببعضهم، وكان الصفح والتنازل عن الحق عن طيب خاطر هو السمة التي تميز أهل ذلك الجيل، وكانوا يبيعون ما يصنعون بأيديهم، فلا مكان للبضائع المستوردة.

عبر سلّم خشبي متهالك نصعد إلى واحد من أقدم معامل النسيج في المنطقة، ليحدثنا صاحبه قائلا: أنا أعمل في مشغل النسيج هذا منذ كان عمري 12 عاما، وأنا الآن على مشارف السبعين، أذكر أن أول ما تعلمته هو حياكة العباءة التونسية التقليدية “السفساري”، بعد ذلك أصبحت أتقن حياكة كل المنسوجات الأخرى مثل “الجبة” أو “الفوطة” أو “التقريطة”، فكلها في النهاية تحاك على نفس المبدأ.

من عادات التوانسة اصطحاب العريس لأمه وحماته من أجل شراء جهاز العروس

ويتابع: بالنسبة لبعض المدن الأخرى مثل سوسة والمهدية فلهم ملابسهم الخاصة مثل الفوطة وغطاء الرأس، وهي تحاك باستخدام خيط من الفضة في بعض تفاصيلها، ونحن في نهاية المطاف ننسج ما يطلب منا، ثم توزع منتجاتنا على الأسواق حسب الطلب.

وفي هذا السوق أيضاً تباع الفراء والجلود بعد دباغتها، ويجلب أكثرها بعد عيد الأضحى، وتغسل جيدا بالماء، ثم تعالج بالملح والدباغ حتى تصبح ناعمة زاهية، وتحرص السيدات على اقتناء الفراء والجلود في البيوت، فهي تعطي قيمة جمالية وانطباعا عن ثراء العائلة وأريحيتها المادية.

تجهيزات العرائس.. سفينة ذات رُبانين

ترتاد الفتيات المقبلات على الزواج هذا السوق بشكل متكرر، من يوم الخطوبة إلى ليلة الزفاف، ويشترين كل ما يلزمهن من الملابس والمجوهرات والحلي وأدوات الزينة، فتأتي العروس ومعها أمها وحماتها، وهي تقبل ما تختارانه لها، وما زالت طقوس العرس التقليدي موجودة هنا في تونس العتيقة من صنع حشية الصوف والزرابي والأغطية.

من قبل كانت كل تجهيزات العروس تصنع في البيت، يشترون الأقمشة من السوق ويقومون بتطريزها وحياكتها في البيت، أما في هذه الأيام فهم يعمدون إلى شرائها جاهزة من السوق، لقد تغيرت مظاهر الحياة، ربما صارت أسهل، وربما فقدنا بعض الرونق التاريخي الذي كان أجدادنا وجداتنا يحرصون عليه في السابق.

منزل قديم في تونس العتيقة “المدينة العربي” يرجع تاريخ بنائه إلى أواخر القرن الخامس عشر

يصطحب العريس حماته ووالدته وخطيبته إلى مطعم تونسي تقليدي، ولك أن ترى كم أن الأثاث جميل، وكله مصنوع على الطراز التقليدي، وانظر إلى النقوش وأعمال الأرابيسك الجميلة، إنه منظر يثلج الصدر ويريح النفس، وتطلب والدته طعاما تقليديا يتماهى مع عبق المكان، فتقدم لهم “البريكة” وهي طبق تونسي تقليدي.

حياة التوانسة.. ذاكرة الزمان والمكان

كان الناس في السابق يقضون أوقاتهم في الاستماع إلى المذياع، وكان يوجد مذياع واحد في الزقاق، هذا إن وجد أصلا، وإلا فإنهم يقضون الوقت في حضور الدروس، ثم الاستماع إلى القصص والأخبار التاريخية التي يرويها عادة رجل مسنّ يدعى “الحكواتي”، وفي البيوت تقوم الجدة بسرد هذه القصص والحكايات لحفيداتها.

كان الوالد محور البيت وتدور العائلة كلها حيث يدور، فهو المسؤول عن تأمين المأكل والملبس لأهل البيت جميعهم، وإذا كبر الأولاد واشتغلوا قبل الزواج، فإن كسبهم يكون في يد الوالد حتى يتزوجوا، وفي قرارات تزويج الأبناء والبنات كان الآباء هم وحدهم من يقررون من ومتى وكيف وأين يقع الزواج، وكثيرا ما يكون العروسان لا يعرفان بعضهما ولم يلتقيا من قبل قط.

هذا منزل قديم في تونس العتيقة “المدينة العربي”، يرجع تاريخ بنائه إلى أواخر القرن الخامس عشر، لم يخلُ قط من ساكنيه حتى أواخر السبعينيات، وقد بقي المطبخ على شكله التقليدي الأصلي، فبقيت الأواني الزجاجية والفخارية على حالها، وكذلك المقروض والمبخرة وأدوات التقطير وجرة الزيت.

يأتي الزوار من أنحاء تونس إلى هنا ليطلعوا على تراث أجدادهم، فالجيل الجديد للأسف ليست لديهم أدنى فكرة عن طريقة عيش آبائهم وأجدادهم من قبل، ويحاول أهل المنطقة أن يعلموهم ويعطوهم فكرة عن طرق العيش في السابق، ويفتقد هذا المكان لمزيد من العناية والترميم والتجديد، لكننا سوف نخسر قيمة كبيرة إذا تعرض للمزيد من الإهمال.

سيدي محرز.. سلطان المدينة غير المتوّج

الوليّ “سيدي محرز” سلطان المدينة من قديم الزمان، ويأتي الناس لزيارته من كل مكان رجالا ونساء وكبارا وصغارا، ويأتي المقرئون لتلاوة القرآن الكريم يوم الأربعاء من كل أسبوع، ويتناول الناس الخبز والزيت وبعض الماء تبركا، وتدخل النساء بعد أن يخرج الرجال.

ضريح سيدي محرز حيث يأتي المرتادون للبركة

“سيدي محرز” سلطان المدينة وحافظ القرآن، كان الناس وما يزالون يترددون على مقامه للتبرك، وكانوا يعقدون أمورهم الكبيرة من زواج وتجارة وغيرها بعد زيارته، وهناك كذلك مقامات “سيدي بن عروس” و”سيدي بلحسن الشاذلي”.

في المساء يغلق صاحب المقهى دكانه بعد أن يحاسب أهل السوق على المشروبات التي اشتروها، والأمور تجري بالبركة وعلى الثقة، فلا يخوِّن أحدهم صاحبه، ويجمع الأكواب الفارغة ويعيدها إلى دكانه لتنظيفها استعدادا ليوم آخر.

وصاحبنا الشيخ السبعيني قد أرهقه المشي معنا طوال اليوم، والتجوال على كل هذه الأماكن التاريخية في تونس العتيقة، وآن له أن يعود إلى بيته ليرتاح.

وقد طافت العروس ووالدتها وحماتها كل الأسواق، ودخلوا تقريبا إلى كل الدكاكين واشتروا الكثير، ولكن ما زال ينقصهم الكثير أيضا ليزينوا به عش الزوجية الجديد، وكما هو معلوم فجولات التسوق هذه لن تنتهي حتى آخر لحظة قبل الزفاف.