جحا.. الحكمة على ظهر حمار

بلال المازني

یُحكى أن أمیرا یزعم أنه یعرف نَظْم الشعر أنشد یوما قصیدة أمام جحا، وقال له “ألیست بلیغة؟”، فقال جحا “لیس بها رائحة البلاغة”، فغضب الأمیر وأمر بحبسه في الإسطبل، وبقي محبوسا مدة شهر ثم أخرجه. وفي یوم آخر نظم الأمیر قصیدة وأنشدها لجحا حيث قام جحا مسرعا، فسأله الأمیر “إلى أین یا جحا؟” فقال “إلى الإسطبل یا سیدي”.

لا نعلم على وجه التحديد تاريخ هذه الطرفة، لكن من دون شك فإن غباء وظلم الأمير والحاكم والرئيس في هذه القصة لم ينقطع عن تاريخنا وتواصل إلى اليوم.

تلك هي عبقرية جحا، يجعلك تظن أنك شخصية من شخصيات الحكاية وأنك تعيشها، أو أنك قد مررت عليها حتى وإن رُويت هذه القصص على مدى قرون سابقة من الزمن، وربما لن نكتشف أن جحا بيننا وأنه جزء منا ومن هويتنا إلا مع القليل من التمحيص وإمعان النظر. فاليوم ربما يكون شارلي شابلن أو مظفر النواب أو سعيد صالح أو الشيخ إمام أو الصغير أولاد أحمد أو أنا أو أنت، لكن بدرجات متفاوتة. المهم أن جحا أصبح ظاهرة عمرها قرون تتجلى كل يوم بحال.

 

لكل جُحاه

فكرة وجود شخصیة بمواصفات كاریكاتوریة مضحكة في الأدب الشعبي لتوظیفها في نقد الحكام والسخریة من ظلمهم استهوت الأمم والشعوب التي أبدعت فیها، فرسمت ملامح الشخصية الفكاهية “جحا” عبر قرون من الزمن، ونسجت قصصا ونوادر خيالية، حتى أصبحت مغامراته المضحكة الأكثر تداولا ومشافهة.

لكن جحا صاحب الأصل الغامض كان مثل “المسيح” تتغير ملامحه ليكتسب ملامح البلد الذي يتداول حكاياته، وبقي في كل مرة ذلك الحكيم الذي ينجو من فخ المستهزئين به بذكاء مغلّف بالسذاجة.

في الواقع خلقت شعوب في المشرق والمغرب “جحا” الخاص بها الذي يتماشى مع السياق التاريخي والاجتماعي لتلك الشعوب، ولم يكن جحا بطل الحكايات العربية فحسب، فقد كان لبلاد فارس “الملا نصر الدين”، ولتركيا “نصر الدين خوجة” الذي كان الشخصية الأقرب لجحا، و”جوخا” في إيطاليا، و”أبو الغصن دجين الفزاري” الذي عاصر الدولة الأموية والذي يُعتقد أنه الشخصية الحقيقية التي أصبحت تُكنّى بـ”جحا”.. وقد تشابهت نوادر هذه الشخصيات مع شخصية جحا وحماره الذي لا يفارقه.

فبالرجوع إلى الأسبقية التاريخية لأبي الغصن يرجح أن الشخصيات غير العربية التي تتشابه إلى حد كبير مع شخصية “جحا” قد استلهمت ملامحها ونوادرها من “جحا” العربي، خاصة وأن ظهورها كان في عصور متأخرة نسبيا مقارنة بدجين الفزاري، فقد وردت “نوادر جحا” في “فهرست” ابن النديم في القرن الرابع الهجري (377ه)، في حين أن القاضي نصر الدين خوجة أو جحا التركي مثلا ولد سنة 605ه، وقد كان صاحب علم كبير وعاصر حكم المغول في إسطنبول.

 

جحا العربي.. فقيه أبله

يقول عباس محمود العقاد في كتابه “جحا الضاحك المضحك” “يستحيل أن تصدر هذه النوادر عن شخص واحد لأن بعضها يتحدث عن أناس في صدر الإسلام، وبعضها يتحدث عن أناس في عصر المنصور العباسي أو عصر تيمورلنك، أو ما بعده من العصور بأجيال”.
لقد نُسب “جحا العربي” إلى شخصيات إسلامية كانت لها مكانتها الدينية التي عاشت في فترات متباعدة، وترجع أقدم نوادر جحا إلى القرن السابع الميلادي، وهو ما يعني أنه عاش في فترة ما يعرف بالإسلام المبكر، وتُنسب هذه الحكايات إلى “أبي الغصن دجين بن ثابت الفزاري” الذي يُرجح أنه ولد في العام 60 للهجرة في الكوفة، ونقل بعضا من سيرته ابن عساكر، والجاحظ في كتابه “القول في البغال”، والحافظ ابن الجوزي في كتاب “أخبار الحمقى والمغفلين”، كما أتى على ذكره الذهبي في كتاب “ميزان الاعتدال”، إضافة إلى السيوطي.

 

شخصيات كُنّيت بجحا

وفي كتاب “الألقاب” ذكر الشيرازي أن أبا الغصن دجين بن ثابت هو جحا، ويصفه الإمام الذهبي بأنه كان من عقلاء القوم، وكان قد عاصر أنس بن مالك، ويروى أن أمه كانت خادمة لدى أنس حسب ما نقله الإمام السيوطي في كتابه “إرشاد من نحا إلى نوادر جُحا”.

وينقل أبرز كُتّاب السير والتراجم صفات العلم لدى أبو الغصن -جحا- حيث يروي الشيرازي وهو أشهر كُتّاب التراجم أن “جحا لقب له، وكان ظريفا، والذي يُقال فيه مكذوب عليه”، حيث نفى عنه صفة المغفل أو الساذج، “فلا ينبغي لأحد أن يسخر به”.

وكان لدجين بن ثابت الذي رجّح أنه أقدم الشخصيات التي كُنّيت بجحا مكانة لدى الفقهاء، وكان سندا للرواية والحديث، حيث قال عنه الإمام البخاري “دجين بن ثابت أبو الغصن اليربوعي سمع من أسلم مولى عمر (بن الخطاب)، روى عنه مسلم وابن المبارك”.

أما الشخصية الدينية الثانية التي حملت كُنية جحا فهي ثابت بن قيس المُكنى بـ”أبي الغصن”، والذي توفي في القرن الثاني للهجرة، وأثار ترجيح أن يكون ثابت بن قيس هو جحا نفسه حفيظة بعض الفقهاء، ونفوا ذلك لسبب بسيط وهو أن النوادر التي تُنسب إلى جحا تشكك في علمه وتجعله بصورة الساذج، ويقول الإمام الذهبي في كتابه “سير الأعلام” “وَهِمَ مَن قال إن أبا الغصن (ثابت بن قيس المدني) هو جحا”، فهو لا يمكن أن يكون شخصا طريفا إلى حدّ البلاهة، خاصة أنه الشيخ العالم الصادق، وأنه روى عن أنس بن مالك وهو ما أكسبه مكانة دينية كبيرة.

تمثال نصر الدين خوجة في أوزبكستان
تمثال نصر الدين خوجة في أوزبكستان

 

جحا.. محلّ جدل

ورغم الاختلاف في تحديد الشخصية الحقيقية لجحا “العربي” فإن كُتّاب السير لم ينفوا أنّ جحا كان شخصية بارزة وسند حديث، لكن وقع التجريح في الأحاديث التي نقلها بسبب ما نُسب إليه من نوادر مناقضة للصفات التي يجب أن يتمتع بها راوي الحديث، حيث يقول الإمام النسائي “ليس بثقة”.

ويُجمع الرواة على أن جحا كان شخصا ذا فطنة وذكاء حادين، لكن “الغالب عليه التغفيل”، ويروي ابن الجوزي “قد قيل إنّ بعض من كان يُعاديه وضع له حكايات، رأيت جحا رجلا كيّسا ظريفا، وهذا الذي يُقال عنه مكذوب عليه، وكان له جيران مخنثون يمازحهم ويمازحونه فوضعوا عليه”.

وخلاصة للقول هنا فإنه من الثابت أن جحا رجل حكيم ذو مكانة علمية ودينية مرموقة، لكنه كسر الصورة النمطية للعالم ولرجل الدين بشخصيته الطريفة، وهو ما جعل شِقَّا من كاتبي السير والتراجم يجرّحون في علمه بسبب ظرفه ونكتته الزائدة، وأعتقد شخصيا أنه ألّب على نفسه أهل الفقه والسلطان في عصره لما كانت له من حظوة لدى العامة، ولا أستغرب أنه ذاق أهوال النفي أو السجن، خاصة وأن مثل هذه الشخصيات التي يجتمع حولها الكثير تكون سبب قلق وتهديد لأهل مهنته أو للسلطان.

تعددت القصص بخصوص وجود شخصية جحا من عدمها وجنسيتها والعصر الذي عاشته
تعددت القصص بخصوص وجود شخصية جحا من عدمها وجنسيتها والعصر الذي عاشته

 

جحا التركي.. المعلم الحكيم

يمثل القاضي نصر الدين خوجة الشخصية الثالثة الأقرب إلى شخصية جحا، فقد عاش خوجة في القرن السابع الهجري، وكان قاضيا وفقيها امتهن التدريس وعُيّن في مجموعة من المدن التركية، ويُروى عن خوجة أنه كان معلما محبوبا من قبل تلاميذه، وكان لديه إقبال كبير على مجالسه العلمية، حيث كان يُطلق مواعظه بأسلوب فكاهي، وكان يطلق النكات عند وعظه الناس، لكن في الوقت نفسه نسبت إليه صفات “الزهد والعفة” التي لم يكتسبها سوى عدد قليل من العلماء، وأن منزله كان مقصد الغرباء والفقراء.

روي عن خوجة أنه كان قاضيا جريئا وشجاعا لا يتوانى عن وعظ الحكام والأمراء ودعوتهم لإصلاح دينهم ودنياهم، وقد اشتهر بمواجهته لـ”تيمورلنك” ومساندته للمظلومين، وهو ما قد يحيل إلى فرضيتين؛ الأولى أن نصر الدين خوجة كان ينتهج أسلوب الطرافة عند انتقاد السائد في عصره ليبلغ مواقفه المعارضة لسياسة الحكام، وذلك من أجل تجنب بطشهم وغضبهم، أما الفرضية الثانية فهي أن ما نُسب لخوجة أو جحا من قصص جعلته في صورة الساذج وغطّت على حكمته هو من أجل الانتقام منه بسبب تلك المواقف، وجرأته في مواجهة الأمراء وذوي السلطة بصفة عامة، فمن الواضح أن لنصر الدين خوجة (جحا) مكانة وصيتا جعلاه يكتسب لقب “المعلم” أو “الحكيم”.

يقول المفكر الألماني يوهان غوته “السخرية هي ذرة الملح التي تجعل ما يقدم إلينا مُستساغا”، ويبدو أن جحا بكل وجوهه وحكاياته المغروسة في الذاكرة عبر قرون من الزمن في أغلب الرقعة الشرقية من الأرض (العراق وتركيا وإيران والهند وغيرها) قد فهم تلك المعادلة، فالعلم والموعظة وحدهما لن يجدا طريقا إلى القلوب، وقد يسطران أحيانا طريقا نحو الموت في ظلّ حكم طغاة.

من الثابت أن جحا رجل حكيم ذو مكانة علمية ودينية مرموقة
من الثابت أن جحا رجل حكيم ذو مكانة علمية ودينية مرموقة

 

جحا وخيال الشعوب

يقول عباس محمود العقاد في كتابه “جحا الضاحك المضحك” إنه من المستحيل أن تكون الحكايات والنوادر المنسوبة لجحا صادرة عن شخصية واحدة، فإضافة إلى تعدد الأشخاص التي اكتسبت كُنية جحا، يرجّح أن تكون هناك حكايات خيالية حاكها رواة ونُسبت لهذه الشخصيات، وهي نوادر فيها من الحكم التي تصلح لكل زمان، وهي تحمل على بساطتها نقدا مغلفا بالسخرية للواقع السياسي والاجتماعي.

ورغم تعدد القصص بخصوص وجود شخصية جحا من عدمها وجنسيتها والعصر الذي عاشته والتي تمكنت من الظهور في فترات زمنية مختلقة ومتباعدة، وكانت بمثابة “الشبح” الذي يستحضره في كل مرة الخيال الشعبي لمواجهة واقع سياسي واجتماعي رديء، فقد كانت نوادر جحا تعبيرا جمعيّا وانعكاسا لمرحلة من النضج والوعي، حتى إن بعض القصص غير متلائمة مع السياق التاريخي، لكنها نُسبت لجحا للنجاة من بطش الحاكم.

وهناك أمثلة كثيرة لتلك القصص، ففي إحدى النوادر المنسوبة لجحا “نصر الدين خوجة” يروى أن “تيمورلنك” أراد إضفاء نوع من القداسة الدينية لنفسه فقال لجحا “أتعلم يا جحا أن خلفاء بني العباس قد اتخذوا لأنفسهم ألقابا مثل الواثق بالله والمستنصر بالله، فماذا تقترح أن يكون لقبي يا جحا؟” فأجابه “أعوذ بالله”.

وفي الحكاية مسألتان غير منطقيتين تدلان على أن القصة محض خيال شعبي، أولهما أن نصر الدين خوجة توفي سنة 1284 ميلادية في حين ولد تيمورلنك سنة 1336 ميلادية، وهو ما يعني أنه لم يعاصره، أما المسألة الثانية فهي أنه لا يمكن أن يسلم جحا من بطش تيمورلنك بسبب إجابته وسخريته اللاذعة منه.

لم يبق من تراث جحا سوى بعض الأعمال المتناثرة هنا وهناك
لم يبق من تراث جحا سوى بعض الأعمال المتناثرة هنا وهناك

 

بقي الأمير واختفى جحا

لا يكاد يخلو ركن من أركان البيوت العربية من حلقات السمر التي كان جحا بطلها قبل أن تفككها صحبة الهواتف الذكية، فقد كانت حكاياته الطريفة تحمل الدفء والسلام من أفواه الأمهات والجدّات، وأذكر جيدا الجملة الشهيرة التي كانت تُستهلّ بها كل طرفة من طرف جحا “يا سيدي يا ابن سيدي.. فمّا جحا”، أي هنالك جحا.

ومن الضروري القول بأن الشاشة الصغيرة لم تتوان عن زخرفة ليالي رمضان بمسلسلات جحا من تونس والجزائر ومصر وجلّ العالم العربي. أما من الأفلام فقد ظهرت تلك الشخصية الكاريكاتورية في فيلم “جحا” للمخرج جاك باراتييه، وهو فيلم فرنسي تونسي أدى فيه الممثل عمر الشريف الدور صحبة الممثلة كلاوديا كاردينال، وتم ترشيحه لنيل جائزة السعفة الذهبية في مهرجان “كان”، دون أن ننسى “مسمار جحا” بطولة عباس فارس سنة 1952، وفيلم “جحا وأبو نواس” إخراج مانويل ويمانس، وطبعا روائع إسماعيل ياسين.

اليوم لم يبق من تراث جحا سوى بعض الأعمال المتناثرة هنا وهناك، وكأن العقل العربي سلّم أمره واستكان إلى أن قصيدة الأمير بليغة.