جزيرة سواكن.. موطن حوريّات البحر الذي بناه الجن

سواكن جزيرة الجنّ وعرائس البحر، وهي أرض الحوريات الجميلات اللاتي لا يؤذين أحدا، لكنّهن مفتونات فقط ببني البشر ويأنسن بالقرب منهم، يتودّدن إليهم لكنهم يخافون منهنّ ويهربون، ثم ينتظرْنَ ليلا آخر يرخى سدوله حتى يحظَيْن بلقاء جديد.

تقع جزيرة سواكن على الساحل الشمالي الشرقي لجمهورية السودان، وقد يكون اسمها جاء من لفظ “أوسوك” أو “سوق”، مكان البيع والشراء الذي يتوافد إليه التجار والمستهلكون. تقول الأساطير إن لفظ سواكن محرّف من كلمتين هما “سواها” و”جن” أي بناها الجن، ويرجعون زمن هذه التسمية إلى عهد النبي سليمان عندما غزا الحبشة واليمن.

أراد مجموعة من أهل سواكن على رأسهم السيد جيلاني أبو علي، أن يقدموا جزيرتهم للعالم بطريقتهم الخاصة، فصوّروا فيلما يحكي يومياتها وتاريخها وأساطيرها، ودفعوا به إلى قناة الجزيرة الوثائقية، لتعرضه ضمن سلسلة حلقات برنامجها “قلب مدينة”.

يوميات جزيرة سواكن.. مسابقة السمكة الكبيرة

يقول أحد أعيان جزيرة سواكن: اسمي جيلاني محمود أبو علي، وأنا رئيس جمعية صيادي الأسماك بسواكن، أمتهن مع أسرتي الصيد منذ زمن، وعلاقتي بالبحر تمتد لحوالي خمسين عاما، ونحن اليوم هنا بصدد إجراء مسابقة بين صيادي سواكن لاصطياد أكبر سمكة، وقمنا برصد ثلاث جوائز للمراكز الثلاثة الأولى: المركز الأول لمن يصيد سمكة بوزن 15 كيلوغراما على الأقل، ليتوج بالجائزة الكبرى.

أما المركز الثاني فيجب ألا يقل وزن السمكة التي يصطادها عن 10 كيلوغرامات، بينما يصطاد صاحب المركز الثالث سمكة لا تقل عن 7 كيلوغرامات.

جزيرة سواكن السودانية

أما الجوائز فستكون قيمتها على النحو التالي: 7 آلاف جنيه سوداني للفائز بالمركز الأول، و5 آلاف جنيه للمركز الثاني، أما الثالث فسيحصل على 3 آلاف جنيه.

وسوف يُمنح لكل متسابق مقدار خمسة جالونات من الوقود، وستنطلق المسابقة في الصباح، ويجب أن يعود جميع المشاركين عند الساعة الثالثة عصرا، وستكون هنالك لجنة مكونة من ثلاثة أشخاص لمراقبة القوارب المشاركة في السباق والتحكيم وإعلان الفائزين.

جزيرة سواكن.. وصانع السفن العربي نوح

“أنا اسمي نوح أبو بكر عيسى آدم، جدتي لأبي هي من اختار لي هذا الاسم، لقد ذهبت بي إلى الشيخ وقالت له أن يختار لي الاسم الذي يناسبني في حياتي المستقبلية، فأسماني “نوح”، وقال: سيكون مثل سيدنا نوح، يعمل في السفن، وهكذا دار بي الزمان حتى كبرت وعملت في صناعة السفن والقوارب، فكنت اسما على مسمى”.

يلتقي نوح بجيلاني الذي يخبره أن عطلا قد حلّ بمحرك قاربه، ويعتقد أن العمود الناقل للحركة فيه كسر أو ما شابه، فيطمئنه نوح ويقول له: العطل بسيط ويمكن حله ما لم يتفاقم، ومن الأفضل حل المشكلة مبكرا قبل الإبحار، فالعطل على البر أسهل بكثير من التعطل داخل البحر، والبحر غدّار كما تعلم يا عم جيلاني، والداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، كما يقولون.

نوح أبو بكر اختصاصي إصلاح وبناء سفن على جزيرة سواكن

نوح منهمك في بناء سفينة جديدة، وهو يشرح لنا أنواع الأخشاب التي يمكن استخدامها في هذه الصنعة، فمنها السدر ومنها الهجليج والنيم، وكل من هذه الأنواع يستخدم في أجزاء معينة من السفينة، وتجلب هذه الأخشاب من سنكات وكسلا وبورتسودان، وأحيانا يكون بعضها متوفرا هنا في سواكن.

يشرح لنا نوح الفرق بين القارب المصنوع من مادة الفايبر والقوارب الخشبية، فقارب الفايبر سريع وقوي وسعته كبيرة، ولكن مشكلته تكمن في ارتفاعه المنخفض، مما يعرضه للأمواج التي تملؤه بالماء وقد تغرقه، وإذا تعطل محركه فلا تستطيع رفع شراع فيه، بعكس قارب الخشب المرتفع نسبيا الذي يمكن أن توصله إلى بر الأمان إذا تعطل محركه.

نعود إلى العم جيلاني وهو يقوم بإحصاء المتسابقين، هنالك تسعة قوارب سوف تشترك في سباق اليوم، وهو يذكرهم بشروط المسابقة ويرغّبهم بالصيد؛ إذ يقول: صيد سمكتين يغنيك عن راتب شهر كموظف في الحكومة، البحر يعطي من يعطيه، هذه نعمة عظيمة من الله ورزق كريم ساقه الله لنا.

جزيرة سواكن.. موطن الأثرياء والأرستقراطيين

على الشاطئ كان ثمة أطفال يلعبون بالمياه وقوارب الصيد الراسية، ويسبحون بين الفينة والأخرى، ويتجاذبون أطراف الحديث عن الصيد والبحر وأنواع الأسماك، وما يصلح منها ليكون طُعما، ويتحدثون عن رزق الله وبذل الجهد من أجل تحصيله، وعن أفضل الأوقات للصيد، ويحكون عن أساطير الحوريات.

بيوت الأثرياء والأرستقراطيين في جزيرة سواكن قبل انتقالهم إلى بورت سودان

يبحر العم جيلاني في قاربه لمراقبة القوارب المشاركة في المسابقة، ويقترب من منطقة اسمها “جنة يوقد” وهي عبارة عن مياه ضحلة يكثر فيها سمك السردين الذي يستخدمه الصياديون كطُعم لصيد الأسماك الكبيرة.

ويشير العم جيلاني إلى مجموعة من الأطلال والبيوت المهدمة على الجزيرة، ويقول: هذه البيوت المبنية من عدة طبقات تحكي عن ماض عريق وإرث عتيق، فقد سكنها كبار التجار والطبقة الأرستقراطية في سواكن، وهي مبنية من حجر البحر ومواد من البيئة المحلية، وطبقة التجار هذه هي التي قامت عليها حضارة المدينة قديما.

كان العمال يسكنون حي القيف وحي كاس الدور، ويذهبون إلى العمل كل صباح في جزيرة سواكن التي كان يسكنها الأثرياء والتجار، وكانت أصولهم في الغالب غير سودانية، فهم إما من الجزيرة العربية أو تركيا وبعضهم من الهند، وهؤلاء بطبعهم تجار ورجال أعمال.

أطلال مدرسة.. الانتقال إلى بورت سودان

يبحث نوح الدؤوب بطبعه عن رزقه بين المراكب المتعطلة، واليوم ساقته قدماه إلى مركب السيد ماجيت عبد القادر الذي سيشرح له مشكلة المحرك في قاربه، فأخبره نوح أنه منذ أن قام بإصلاح مركبه في المرة السابقة لاحظ أن بعض القطع والأجزاء بحاجة إلى تغيير، وأنه قد حان الوقت الآن لإجراء مراجعة شاملة للمحرك والأجزاء واستبدال ما هو ضروري.

يتحدث السيد ماجيت عبد القادر عن أيام الدراسة، وكيف كانوا يأتون إلى المدرسة في سواكن، فقد كان اليمانيون والهنود والحجازيون قد تركوها إلى بورتسودان، ولم يكونوا يصادفون سوى بعض السودانيين وقلة من عائلات الأتراك مثل عائلة كاظم والقرموشي والأستاذ حسين، أما في مواسم الحج وحلج القطن من كل عام، فتعود سواكن مكتظة بالناس.

ويعود نوح كذلك إلى ذكرياته في المدرسة فيقول: كنت أذهب فجراً إلى “الكرنتينة”، حيث

أطلال مدرسة سواكن الأميرية التي تأسست في عام 1895 قبل أن تهجر ببناء بورت سودان

يتجمع الحجاج كل عام، وكنت أبيع لهم بعض الأطعمة التي كانت أمي تعدّها لي مثل الطعمية والزلابية، وكنت أفرغ من بيعها في السادسة صباحا وأتوجه بعدها إلى المدرسة. وعند قرْع جرس الإفطار كنا نتوجه إلى منزل المطرب عبد الكريم كابلي وجدته سعاد لتناول طعام الإفطار.

ويتابع نوح: جرى إنشاء مدرسة سواكن الأميرية في عام 1895، وقد أغلقت بعد الإهمال الذي تعرضت له وغياب أهل الجزيرة عنها، وذلك بعد تأسيس بورت سودان وانتقال غالب التجار والأثرياء إليها، وعندما أمشي اليوم بين أطلال المدرسة المهجورة المهدمة أشعر بحزن شديد، لقد خرَّجت هذه المدرسة رجالا عظاما من رجالات السودان، منهم الرئيس الأسبق إبراهيم عبّود.

متحف هدّاب في جزيرة سواكن

ما زال العم جيلاني يتابع مسابقة صيد الأسماك في مراحلها الأخيرة، ويمرّ بقوارب الصيد يطمئن على أصحابها وعلى غلتهم من الصيد، فهذا أحدهم اصطاد سمكة وزنها 8 كغم، وذلك آخر اصطاد صيدا وفيرا ولكن ليس بالوزن المطلوب.

وتحدث جيلاني عن ميناء سواكن حيث جرت توسعته وزيادة عمقه، وأشار إلى التلال الترابية على الجزيرة وهو يقول: كل هذا التراب استخرج من قاع البحر، فالسفن الكبيرة تحتاج إلى مرسى عميق ليحمل الماء ثقلها. وقد خصص ميناء سواكن للمسافرين فقط، وحمل اسم “الأمير عثمان دقنة” وافتتح عام 1991، تخليدا لبطل الشرق عثمان دقنة الذي تصدى للإنجليز في مواجهات عدة.

محمد نور هداب يحول بيته إلى متحف خاص لتراث جزيرة سواكن

والأمير عثمان مولود في سواكن عام 1836، وهو أحد أمراء الثورة المهدية، وقد خاض العديد من المعارك وانتصر فيها وحطّم ما عرف آنذاك بخطة المربع الإنجليزي، ومهّد الطريق ليصل المهدي بثورته إلى الخرطوم ويفتحها.

وفي رحلتنا بين الأطلال يلوح لنا بيت عامر بالحياة والتراث وعبق الماضي، إنه بيت محمد نور هداب الذي حوله إلى متحف خاص لتراث جزيرة سواكن، يقول هداب عن متحفه: افتتح يوم 29/9/1989، وقد اشتريته ولديَّ حلم واحد، وهو أن أحوله لمتحف.

ويقول ابنه هاشم هداب: أراد أبي أن يكون هذا المتحف توثيقا لتراث الآباء والأجداد حتى تتمكن الأجيال المتعاقبة من قراءة تاريخها، وكان والدي يكرس كل يومه وليله للعمل في المتحف، وصيانته وتجديده وتوسيعه وإضافة الصور والوثائق والمقتنيات إليه.

جزيرة سواكن.. جزيرة المساجد الأربعة

ما زال الناس في سواكن يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم التي توارثوها عبر الأجيال، وها نحن نشهد اليوم عقد قران أحد الشباب في المسجد بعد صلاة الجمعة مباشرة، ثم يكون زفافه من المسجد في احتفال كبير يشارك فيه أهل سواكن.

وقد تعددت المذاهب الفقهية والطرق الصوفية في سواكن ما بين الختمية والشاذلية والتيجانية وغيرها، وفيها أربعة مساجد، كل واحد منها يمثل مذهبا فقهيا، وقد رممت المساجد حديثا بواسطة الحكومة التركية، لكون الأتراك حكموا سواكن لفترة طويلة من الزمن امتدت إلى الماضي القريب، وقد تعاقبت على سواكن ثلاث حقب: فقد حكمها المماليك ثم الأتراك وبعدهم جاء الحكم الثنائي، ولكن الأتراك هم من تركوا أكثر البصمات تأثيرا وبقاء في تراث سواكن المعماري والاجتماعي.

على صغرها، تضم جزيرة سواكن أربعة مذاهب بأربعة مساجد مختلفة

يتحدث الصيادون في سواكن عن حركة المسافرين والبضائع المتبادلة بين سواكن والموانئ السعودية على الطرف المقابل من البحر الأحمر، وكيف أنها كانت حركة نشطة وخصوصا في مواسم الحج والعمرة، لكن حركة البضائع توقفت بشكل كبير بعد عقد اتفاقيات بين الدولتين على منع التهريب الذي كان رائجا في السابق.

جزيرة سواكن.. فعاليات حفل التتويج

على أنغام أغان شعبية وألحان فلكلور شجي ورقصات بحرية، تصل القوارب التي شاركت في مسابقة الصيد إلى الشاطئ، ويبدأ العم جيلاني بالاطمئنان على سلامة الصيادين أولا، ثم سؤالهم عن محصول الصيد لديهم، فبعضهم اصطاد أسماكا كبيرة، وآخرون كان صيدهم وفيرا ولكن من السمك الصغير نسبيا، والبعض لم يحالفه الحظ في الصيد اليوم.

نتائج مسابقة الصيد وسمكة تزن 12 كليوغراما يحملها جيلاني محمود منظم المسابقة

اصطاد الصياد محمد هاشم سمكة تزن 12 كيلوغراما، وبذا فقد استحق الجائزة الثانية وقيمتها خمسة آلاف جنيه، أما الصياد المجتهد خليفة فقد بلغت حصيلة صيده أكثر من 24 كيلوغراما، ولكنها ليست من السمك الذي تحدد وزنه للمراكز الثلاثة الأول، فاكتفى بتشجيعه وتصفيق الحاضرين له، وبالطبع سيبيع ما اصطاد ويحصل على رزق يومه.

جزيرة سواكن.. خلاخل الجنيات حين يحل الظلام ويغلق السور

مثل كل المجتمعات التي تنام باكرا، تكثر في سواكن قصص الجن والساحرات، ففي وقتٍ لم تكن الكهرباء والإنارة قد وصلت فيه إلى سواكن، كنت تسمع كثيرا عن قصص أناس كانوا يمشون في الليل ويسمعون خلفهم أصواتا تشبه لفظ “تَشَوْ تَشَوْ تَشَوْ”، وعند التدقيق تكتشف أن هذا هو صوت خلاخل المرأة عندما تمشي حافية، فكانوا يتخيلون أن الجنّيّات يتبعنهم في الليل.

من أساطير جزيرة سواكن أن حورية جميلة تتبعك ليلا ثم تختفي

كانت سواكن محاطة بسور لمنع تسلل غير أهلها إليها، وكان للسور بوابة تغلق عند وقت المغرب، فلا يدخلها أحد حتى يحل الصباح التالي، فتنام آمنة ملء جفنيها، ويحلم أهلها بالحوريات وعرائس البحر، ثم يستيقظون في الصباح الباكر يبحثون عن رزقهم في أعماق البحر، وما زال نوح يصلح سفينته ويعوذ بالله من الطوفان.