“رائحة مكان”.. أطلال الجوامع الإسلامية المهجورة في منطقة البلقان

بلاد ذكر اسم الله تعالى فيها كثيرا ثم أصبح لفظا محرما على أهلها، وأصبحت هويتها الإسلامية في طي النسيان، لكن المساجد والمآذن بقيت شاهدا على انتشار على علو الإسلام وتمام كلمة الله تعالى فيها.

ألبانيا ومقدونيا تلك الأرض الساحرة التي تشهد صباح مساء على عظمة الله وقدرته. قال الأقدمون عن مساجدها لو لم يكن في الجامع اتساع ما كان جامعا بالإجماع، فبينما كانت الحياة تفرق كان الجامع يجمع، فيه يحتكم المتخاصمون، وفيه تعقد الصفقات وعقود الزواج، وظلت الجوامع أول ما يعمره الفاتحون.

بقيت المساجد هناك شاهدا يروي القصة الأليمة عن ما فعله النظام الشيوعي في الإسلام والمسلمين، فغير المجتمع المسلم ومحا وطمس الدين.

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية يصحبنا ألغرت سكندراني الباحث في التراث الإسلامي في رحلة إلى ما بقي من مساجد ألبانيا ومقدونيا.

“ذهبتُ إليه كمنقذ لحياتي”.. إعجاز الرؤيا النبوية

يقول سكندراني: اخترت العيش في مدينة تيتوفو لأن أغلبية السكان من الألبان، ولديهم حرص على تعلم الإسلام، ولديهم أئمة مساجد معروفون.

ذهبت للصف الأول الابتدائي في العام 1992، حين كانت ألبانيا مليئة بالمبشرين من جميع الأديان، وعانيت وقتها من أزمة ثقة مع الآخرين، كنت أحزن كثيرا من فكرة الإلحاد وأنه ليس هناك إله ولا يوم للحساب، إذن ماذا بعد الموت؟

كنت أعيش في هذا الظلام، وأدعو الله أن يهديني إلى الطريق، رأيت في المنام أني كنت تائها في حقل، ومعي آخرون مثلي تائهون، واصلت البحث عن مخرج، ثم رأيت مجموعة من الأشخاص جالسين ووسطهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يخاطبهم.

حينها ذهبتُ إليه كمنقذ لحياتي، كان الوقت ظهرا لكن الشمس غائبة، سألته بشغف، ولكن سألته بقلبي قائلا: هل أنت هو؟ قال لي: نعم. ودعاني للجلوس.

كان هذا منعطفا كبيرا في حياتي وبدأت الصلاة ولم أتخل عنها بعد ذلك، وخلال ترددي على المسجد تعلمت سورا من القرآن الكريم باللغة العربية.

مسجد الفاتح في روزافا أقدم قلاع البلقان

مسجد الفاتح.. نفحة روحية حول أقدم قلاع البلقان

كان سكندراني يعيش في شقودره، وهي من أهم مدن شمال ألبانيا، ويتميز أغلب سكانها بالتدين، ولهم أئمة ومثقفون، هناك كان يذهب إلى قلعة روزافا أقدم قلاع البلقان.

كانت تدعى قلعة إليريا إلى أن احتلها الرومان، وكان التل المجاور لها مأهولا بسبب موقعه الإستراتيجي، ويعود بناء القلعة إلى مملكة البندقية، أما الجسر المركزي الذي كان يربطها بوادي كير ومن ثم بمدينة بريشتينا، فقد بناه الباشا العثماني محمود بوشاتي.

زيارة جامع السلطان محمد الفاتح تعني الكثير، فقد كان أحد أهم سلاطين الدولة العثمانية، ونشأ مع الألبان، فهو فاتح القسطنطينية. وعندما ترى المسجد وتسمع الأذان تشعر بنداء روحي داخلي يدعوك للصلاة .

أعاد السلطان مراد الأول القلعة والجامع والأراضي المجاورة إلى دولة البندقية كعربون سلام، على أن يظل مسجدها عامرا وأهلها آمنين أحرارا، لكن الدكتاتورية الماركسية التي أقامها أنور خوجا في ألبانيا دمرته مع 38 جامعا أخرى في ألبانيا.

الجامع الرصاصي صاحب القباب المغطاة بالرصاص

الجامع الرصاصي.. نهب الحرب العالمية وحانات الشيوعية

يمكن أن يرى الزائر الجامع الرصاصي من قلعة روزافا، لأنه يعتبر قلب الجوامع وروحها في ألبانيا، ويواجه الجامع مشاكل عدة، فقد هجر السكان المكان الذي يسمى حي الدباغة بسبب النهر الذي غير مجراه.

سمي بالجامع الرصاصي لأن قبابه كانت مغطاة بالرصاص، وقد بني على الطراز العثماني، وبذل الباشا محمد بوشاتي الكثير في بنائه وزخرفته حتى أنه شارك بنفسه في أعمال البناء.

ظل الجامع علما زاهيا منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى بدايات القرن العشرين، حين احتدمت الحرب العالمية الأولى بين العثمانيين والنمسا التي سرق جيشها ما كان يغطي قبابه من معدن وزينات ثم انهال على أطلاله النظام الشيوعي الذي نشر الإلحاد وأزال كل ما له علاقة بالدين.

يقول سكندراني: سبب زيارتي لهذا المسجد واقعة حدثت في العام 1990، وقتها أشيع بين سكان مدينة شقودره أنهم سيذهبون لصلاة الجمعة في هذا الجامع رغم أنهم لم يكونوا ملتزمين، لكن فعلوا ذاك كنوع من المغامرة، ولم يكونوا يعلموا أنه قد مر 23 عاما على هدم المنشآت في شقودره.

ويقول أرجون جانوري (وهو إمام مسجد وصياد): لم أحظ بزيارته في عام 1990، فقد كنت أخدم بالجيش وقتها، وسمعت أنهم حولوه إلى مقهى، لكن الناس كانوا يخافون شرب الكحول في بيت الله، ولم تنجح وأغلق ثم أصبح مخزنا.

قلعة كوريه وفي وسطها الجامع الذي كان مركزا لمدينة تيرانا القديمة

قلعة كُروِيه.. ملاذ الألبان الذي احتله السلطان العثماني

كانت القومية الألبانية تقوم على قلعة كُروِيه، وكان أميرها قد استقل عن الدولة العثمانية واعتزل داخل القلعة، كان يعتبر شخصية وطنية تنتمي إلى الديانات الثلاث الرئيسية في ألبانيا.

قلعة كوريه المطلة على قمة التل تعود إلى عائلة ثوبية، وهي واحدة من أقوى العائلات الاقطاعية الألبانية في القرن الخامس عشر، وكانت من المعاقل الرئيسية في مقاومة العثمانيين بقيادة اسكندر بيه، وقد دافع ضد ثلاث حصارات عثمانية عام 1443، ومات عام 1486، وبعد الحصار الرابع استولى العثمانيون على القلعة وأصبحت تابعة للإمبراطورية.

يقول سكندراني: يشعرني الجامع في كرويه بالفخر لكوني ألبانيا مسلما، لقد كان في القلعة تكية في عهد اسكندر بيه لكنه لم يهدمها. وقد ولدت في 1986 وانتقلت من جنوب ألبانيا إلى تيرانا عام 1991، وكان عمري خمس سنوات، كان جامع سليمان باشا هو أول مبنى في تيرانا.

ويقول المؤرخ والكاتب الإسلامي روئلد هيسا: هذا الجامع كان مركزا لمدينة تيرانا القديمة، ومع إنشاء النظام الملكي من قبل أحمد زوغ في عام 1928 أراد أن يعطي المدينة لمسة أوروبية.

نصب تذكاري في موقع جامع سليمان باشا الذي بني في العقد الثاني من القرن السابع عشر

جامع سليمان باشا.. نصب تذكاري في وسط العاصمة

في العقد الثاني من القرن السابع عشر بنى العثمانيون جامع سليمان باشا في تيرانا، وكانت وقتها قرية صغيرة، وبفضل الجامع أصبحت مركزا حضريا وتجاريا.

كان في تيرانا 40 مسجدا، وكان عدد سكانها 40 ألفا، بينما اليوم يوجد أقل من 10 جوامع مقسمة على مليون شخص. وقد دمر جامع سليمان باشا ولم يسمح بإعادة بنائه رغم تاريخه المهم.

تعرض الجامع لأضرار بالغة بسبب المعارك التي دارت بين الألمان وجيش البرتزان، وكان أول ضحية للعهد الشيوعي حيث جرى هدمه وبناء نصب تذكاري مكانه لا يزال في موقعه في قلب تيرانا.

بقايا جامع الحاج بندور الذي بني في القرن الثامن عشر داخل قلعة بورش

جامع الحاج بندور.. رحلة إلى جبال الساحل الألباني

انتقل سكندراني إلى منطقة بورش، وكانت الطريق طويلة عبر الساحل الألباني، وقد اختار هذا الطريق لأن الثقافة الألبانية لا تزال سائدة في تلك الجبال، وفور وصوله ذهب إلى جامع في قلعة بورش.

تعود بورش لمملكة ايبيروس القديمة، وقد تعاقب على حكمها الرومان والبيزنطيون والنورمان حتى وصلها العثمانيون في القرن الخامس عشر. يسكنها اليوم 2500 من الألبان، وهم يتحدثون لغة الألب، وهي إحدى اللهجات الألبانية.

بني جامع الحاج بندور في القرن الثامن عشر داخل قلعة بورش التي تنتمي للقرن الرابع قبل الميلاد، وقد تعرضت المدينة للتدمير خلال الحرب العالمية الأولى بسبب المعارك التي دارت بين العثمانيين والروس وكذلك الألبان واليونان، وأعيد بناء المدينة، لكن الملاريا أصابت سكانها قبل أن يدمرها القصف الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، وظل الجامع حاضرا داخل القلعة.

يتحدث سكندراني عن حلمه في الصلاة في الجوامع الألبانية الرئيسية في مدن مختلفة، لكن أكثر تلك الأحلام إثارة لفضوله هي أن يؤذن، فترديد الله اكبر في هذه البلد لا يعني فقط الدعوة إلى الصلاة، بل البحث عن الجذور.

يقول نوح غانيا إمام جامع جمجم: الجوامع أكثر قيمة ومنفعة للمجتمع، لذلك كانت تتوسط المدن والقرى، وكانت هناك محاولات دائمة لتحسين وضعها وجعلها أقرب للناس لتسهيل التواصل معهم، وهناك جوامع تبنى بالأماكن العليا، ولذلك رمزية حيث يكون بيت الله أعظم من كل شيء.

المسجد الأحمر في بيرات، وكان يسمى جامع الحاكم وجامع الفاتح

الجامع الأحمر.. مئذنة مطلة على مدينة الألف نافذة

دخل العثمانيون مدينة بيرات في منتصف القرن الخامس عشر، وأعادوا بناءها في أواخر القرن الثامن عشر، وهي مدينة الألف نافذة. إنها مدينة قديمة جدا، يقدر عمرها بنحو 2500 عام، ومرت عليها عدة حضارات، ويهيمن عليها اليوم الطراز المعماري العثماني.

يوجد جامعان داخل قلة بيرات هما الجامع الأبيض والجامع الأحمر الذي تعتبر مئذنته الأطول، وقد سمي بهذا الاسم بسبب لون مئذنته المبنية بالطوب الأحمر والجير، وكان سقفه خشبيا، وتقع مئذنته على يسار المدخل، والجزء الأسطواني في قمتها فريد من نوعه، ويسمح الدرج الدائري بداخلها للوصول إلى الأعلى حيث يمكن رؤية القلعة والمدينة من كل الاتجاهات.

بني هذا المسجد في عهد بايزيد الثاني، وأطلق عليه اسم جامع الحاكم والفاتح، قبل أن يطلق عليه الناس الجامع الأحمر، وعلى بعد أمتار منه الجامع الأبيض وقد بني في القرن السادس عشر وهو من أقدم مساجد ألبانيا، كانت جدرانه أقوى وتحطمت مئذنته ولم يبق منه إلا قاعدة المئذنة وجدران يبلغ ارتفاعها مترا.

في ديمير هيسار، يمكن رؤية المئذنة المتبقية من الجامع القديم من جميع أنحاء البلدة

“لا أعرف شخصا آخر صلى هنا قبلي”.. جامع ديمير هيسار

يستكمل سكندراني رحلته متجها إلى مقدونيا، وكانت محطته الأولى في بلدة صغيرة تسمى ديمير هيسار، ترى منها المئذنة الباقية من الجامع في جميع أنحاء البلدة، وكانت تسمى قبل الحرب العالمية الثانية موغشيوف، ويسكنها اليوم سبعة آلاف شخص من الإثنية المقدونية.

تمكن محدثنا من الأذان والصلاة بالقرب من المئذنة، فالناس هناك لا يعرفون الكثير عن الجامع سوى أنه رمز لفترة الحكم العثماني في بلاد مقدونيا، ولا يعرفون الفرق بين الجامع والمعابد الأخرى خاصة فيما يتعلق بتعظيم المسؤولية الفردية وإلغاء الوساطة بين الإنسان وخالقه، وإلغاء الشفاعة والنيابة والتمثيل.

كانت فكرة الجامع الأصلية الاجتماع بهدف الارتقاء والحوار فيما يتعلق بالطريق الأمثل إلى الله تعالى، وليس الهدف التعميم وفرض الرؤيا الواحدة. يقول سكندراني: لا أعرف شخصا آخر صلى هنا قبلي، هذا الموقف ذكرني بالمسلمين في الأندلس.

جامع بريلاب الذي بني في منتصف القرن الخامس عشر.. هُجر وأصبح مجمعا للحشائش

جامع كاراشي.. مسجد مهمل يحرسه شيطان التعصب

بعد ديمير هيسار انتقل سكندراني إلى بريلاب ذات الطبيعة الساحرة التي يعج تاريخها بالتناقضات بين السلام والمحبة والصراعات، كان غالبية سكانها من المسلمين وكانوا يتحدثون الألبانية، وفيها جامع كاراشي في وسط المدينة.

يقع الجامع في مجمع البزار بالقرب من برج الساعة، وقد بدأ بناؤه في منتصف القرن الخامس عشر إبان حكم محمد الفاتح، واستكمل بعد ذلك في مراحل مختلفة، وبنيت المئذنة على قاعدة متعددة الأضلع تزينها شرفتان تطوقانها بالكامل وبشكل متفرد.

يقول سكندراني: من المستحيل الدخول إلى هذا الجامع، حيث يعرف الناس بعضهم بعضا هنا، وقد همس لي شخص مسلم ونصحني أن لا أدخل، لكني دخلت، كان في حالة سيئة، كانت الحشائش كثيفة وأهمل المكان لسنوات، حاول المسلمون في محيط الجامع المدمر أداء صلاة الجمعة، لكن المتعصبين منعوهم وتعدوا عليهم بالضرب.

مئذنة الجامع القديم وسط رادوفيش، وبجواره نصب تذكاري لجنود الشيوعية مع نجماتهم وأسمائهم

جامع رادوفيش.. استبدال المصلين بنجوم الجنود الشيوعين

ينتقل سكندراني إلى رادوفيش وهي ثاني أكبر مدينة في المنطقة الجنوبية الشرقية، نشأت الأسواق في المدينة حول مساجدها الخمس، وكان فيها جامع ومدرسة لتعليم الإسلام.

كان الجامع القديم يقع وسط المدينة، وبقي مجرد مئذنة وبجواره مبنى لتحفيظ القرآن، فرأت السلطة أنه من غير المناسب إعادة بناء المسجد، وبدلا منه بني نصب تذكاري لجنود الشيوعية مع نجماتهم وأسمائهم، على الرغم من أنه جامع تاريخي يبلغ عمره خمسمئة عام، ولم تبق منه سوى المئذنة الواقعة وسط ساحة لعب للأطفال.

فكر سكندراني في أن يصعد المئذنة، لكن الباب كان مغلقا، وكان من المستحيل أن يؤذن أو يصلي هناك، ولكنه لم يتوقف عن الدعاء على الذين هدموا المسجد.

جامع حسام باشا في مدينة شتيب بمقدونيا

شتيب.. مدينة تعج بأطلال الجوامع والتكايا الصوفية

يذكر المؤرخ أوليا جلبي أن مدينة شتيب شرق مقدونيا وحدها كانت تضم 24 مسجدا، أشهرها الفتحية ومراد خان والوسط وحسام باشا والتكية وعدلي أفندي وأحمد باشا وشهر كوزدي وكادان خان، وفيها مدرسة لتدريس الحديث النبوي.

وكان جامع حسام الدين باشا مرئيا وسطها، وكان يُصلى فيه قبل مئة عام لكنه اليوم أصبح مهجورا، وأجمل ما فيه الأعمدة، وفي داخله توجد لوحات للخط العربي، لكن لا يمكن الدخول إليه.

كانت شتيب تعج بالجوامع وفيها مدرسة لتدريس الحديث النبوي تقع أمام جامع مراد خان وتسمى المرادية، وكذلك عدد من مراكز تحفيظ القرآن وسبع تكايا للطرق الصوفية المختلفة. ولم يبق منها اليوم إلا بقايا جامع حسام باشا وعدد قليل من التكايا.

جامع تابانوتس حيث مالك الأرض المجاورة استولى على كل الحقل المحيط بالجامع

تجار صقلية.. رسل الإسلام قبل العصر العثماني

توجد آثار للمساجد في أعالي الجبال وفي عدد من المدن المقدونية التي بنيت قبل الدولة العثمانية وفي معظم الجوامع توجد ثقوب في القباب، وبعضها بدون قبة.

لقد جاء نحو 1100 من المسلمين من صقلية إلى منطقة البلقان، وكانوا يعملون بتجارة القوارب، وقد بنوا أول مسجد في قرية تابالوتس بالقرب من كومانوفا شمال مقدونيا.

إذن فقد دخل الإسلام البلقان قبل دخول العثمانيين بأكثر من 600 عام. وجاء الإسلام عن الطريق الدعاة والتجار بالتوازي مع قيام الدولة الإسلامية في الأندلس، وكان ذلك قبل انتشار المسيحية في روسيا والدول الإسكندنافية، لكن المسلمين كانوا أقلية في المنطقة حتى وقوع معركة كوسوفا في آخر القرن الرابع عشر حيث نزحوا عنها.

خوجه محمد بيج.. عمارة عتيقة في أقدم جوامع البلقان

يقول سكندراني: لقد زرت جامع خوجه محمد بيج عدة مرات، وفي كل مرة تطرأ عليه تغيرات جديدة وتنحصر أرضه شيئا فشيئا، واليوم عندما ذهبت إلى تابالوتس لاحظت أن مالك الأرض المجاورة استولى على كل الحقل المحيط بالجامع، لا أدري ما هي الشجاعة التي يمتلكها شخص لأخذ بيت الله.

قابل سكندراني صديقه الذي يعيش بالقرب من الجامع الباحث في التراث الإسلامي سعد رمضاني الذي قال إن هذا المسجد من أقدم المساجد في البلقان، ويقال إنه الأقدم وعمره يزيد عن 700 عام.

أما هندسة العمارة فهي مختلفة وأكثر تطورا مما كانت عليه العمارة في العهد العثماني، وتدل على دخول الإسلام في وقت مبكر، فقد انتشر التجار العرب على الشواطئ الألبانية وكوسوفو ودوكاجين شمال ألبانيا، وهناك مسجد يتجاوز عمر 1200عام.

تعج بلاد البلقان بالمساجد الشاهدة على إسلامية هذه الأراضي وانتشار الدين فيها

“سمعت كلمة الله لأول مرة وأنا ابن ٥ أعوام”

يسرد سكندراني قصته مع دخول الإسلام وكيف علّق قلبه بالمساجد:

سمعت كلمة الله لأول مرة وأنا ابن ٥ أعوام، كانت ممنوعة قبل ذلك في ألبانيا، الجملة الأولى التي سمعتها “الله يعلم كل شيء”، عرفت وقتها من الخالق، وكان لدي الفضول لمعرفة المزيد، وعندما بلغت 13 عاما اهتديت للإسلام من خلال صديق لي. كنت أذهب إلى الكنيسة وفي اللحظة التي أوضح فيها صديقي أن عيسى نبي في الإسلام دخلته وأصبحت مسلما.

لم يكن لدينا جامع قريب واستغرق الذهاب إلى الجامع نصف ساعة، شرح لي خلال الطريق كل شيء عن الدين الإسلامي، وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها الجامع، وبعد ذلك لم أنقطع عنه أبدا.

المساجد بيوت الله التي وضعت في الأرض ليذكر فيه اسمه سبحانه

“المساجد جزء من العمارة الدينية المقدسة”.. أسرار الاستهداف

لقد كان الذين عاصروا الحرب العالمية الثانية أكثر تشددا إزاء الجوامع ودور العبادة. يقول أستاذ العمارة الإسلامية د. بهيج شهاب: المساجد جزء من العمارة الدينية المقدسة، وكذلك مجمعات الأضرحة وشواهد القبور، لكن عند التعامل مع العمارة الدينية فالهدف الرئيسي هو الجامع، وهو أساس العمارة الإسلامية ومكان للتجمع ورمز للدين، وهو مجمع متكامل بكل معنى الكلمة، حيث تظهر فيه الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والفنية والصحية، لأن الجوامع كانت تقدم فيها خدمات طبية، وكان برلمانا ومكتبة وقاعدة تدريس ومجلسا شعبيا.

في تلك البلاد الأوروبية، كانت الآثار الإسلامية واضحة وساطعة رغم محاولات الطمس والمحو، هناك آثار لأناس جاءوا من الشرق من الجزيرة العربية واليمن، وقد يكونوا قدموا من مصر أو المغرب ليبحثوا عن رزقهم، ولينشروا نور الإسلام ويبنوا ويعمروا مساجد الله، لكن جيوشا وأنظمة حاولت محو الأيديولوجيات والثقافات، فقد تبنوا منهجية اللادين، لكن هذه المساجد لا تزال هناك تروي قصص الذين رحلوا في هذا الزمن، ورحلت الشيوعية أيضا، وارتفع سقف الحريات الدينية، فهل يلتفت الأحفاد إلى ما ورّثه الأجداد ويحتفظون به بما يليق؟