“روبرت مردوخ”.. رحلة إمبراطور الإعلام المحب للصهيونية والمعادي للإسلام

لا يوجد اسم أكثر شهرة في عالم الإعلام وصناعة مؤسساته ومحتوياته اليوم أكثر شهرة من رجل الأعمال الأمريكي الأسترالي “روبرت مردوخ”، فالرجل ذو الجنسيتين أصبح منذ عقود رجل الصناعة الإعلامية الأول في العالم، وأكثر من ينفق على الصحافة وصناعة محتوياتها، كما أنه أيضا من أكثر من يجني من وراء ذلك المال والتحكم، إضافة إلى صناعة النفوذ الذي يستخدمه بشكل معلن وفج في أحيان كثيرة من أجل دعم وإسناد وإرساء قوة الاحتلال الإسرائيلي في أرض فلسطين.

وفي سبيل ذلك يحمل “مردوخ” قلبا مفعما بالعداء للعرب ولفلسطين بشكل عام، ولأي عدالة يمكن أن تنصف سكان الأرض المحتلة من المعتدين على أرضهم القادمين من شتات الآفاق، ليحولوا شعبا ضاربا في جذور الأرض إلى شتات تتوزعه المنافي والأسفار والرحيل المستمر.

وفي مقابل ذلك يحمل “مردوخ” هم “المظلومية” وقمصان شمعون، ويستمطر كل حين دموع العالم، ليحول الإعلام إلى حائط مبكى مستمر تذرف حوله لوبيات مؤثرة دموع التماسيح من أجل إسناد حق الإسرائيليين، وتحقيق النبوءات المزعومة حول أرض الميعاد، وضمان أمن إسرائيل.

ملبورن.. بدايات الفتى الأشقر المهاجر

في التسعين من رحلة حياته يخطو “روبرت مردوخ”، ولم تزده العقود المتراكمة على منكبيه إلا سعيا حثيثا لترسيخ مملكة إعلامية بدأت شغفا موروثا من والده الذي كان صحفيا خلال خمسينيات القرن الماضي.

في 11 مارس/آذار 1931 ولد “كيث روبرت مرودخ” لأبوين من أصول إسكتلندية، فقد دفعت بهما أو بالجيل السابق عليهما حمى الثراء إلى الهجرة، وفي مدينة ملبورن بولاية فيكتوريا الأسترالية ولد الطفل “كيث روبرت”، وعاش شغف البدايات الطفولية في بيت إعلامي يسعى لأن يكون جزءا من صناعة الضوء في ولاية فكتوريا الأسترالية.

انتعشت براعم الحياة في ذائقة الطفل الأشقر بسرعة، فالتحق بإحدى المدارس في مدينة جيلونغ بنفس الولاية، وبين تلك المدارس أكمل دراسته الابتدائية والثانوية، قبل أن يلتحق بكلية ويرسستر كوليج التابعة لجامعة أوكسفورد بإنجلترا، حيث درس في تلك الكلية تخصصات العلوم السياسية والاقتصاد والفلسفة، قبل أن يحصل على البكالوريوس ثم الماجستير في الفنون والعلوم من الجامعة ذاتها، وزادت تلك الرحلة الدراسية والأكاديمية من شغف “مردوخ” بالفن.

عالم الإعلام.. ميراث الأب وشغف الابن

بدأت حياة “روبرت مردوخ” المهنية في عالم الصحافة مبكرا، وتحديدا في سنة 1952، حينما أصبح المسؤول عن ميراث والده الإعلامي، فقد ترك له شركة “نيوز ليمتيد” الإعلامية التي تضم صحيفتين كانتا ذات تأثير نسبي في محطيهما الثقافي والسياسي.

بدأ الشاب خطة تطويرية، وانطلق مساره عاصفة مدوية في فضاءات الإعلام، معتقدا أنه يسلك طريقا ذا شعبتين إلى الثراء وإلى توجيه الرأي العام، وصناعة الأفكار، وتصويب حركة القناعات السياسية والمشاعر العامة تجاه ما يمور به العالم من صراعات متفاقمة.

كان الهم المحلي حجر الأساس الأول الذي قامت عليه مملكة “مردوخ”، إذ بدأ مشروع الهيمنة على الصحف المحلية في بلاده أستراليا، ثم في جارتها نيوزيلندا، ومع العام 1960 كان مالكا ومسيطرا على عدد معتبر من وسائل الإعلام في البلدين، وبدأت آفاق جديدة تنفتح أمام الشاب ذي الجذور الأسكتلندية.

“مارغريت تاتشر”.. رحلة الهيمنة على الصحافة البريطانية

في العام 1969 قرر “مردوخ” الانتقال إلى بريطانيا، فعمل في صحيفة “ديلي إكسبريس” في لندن، وسرعان ما تدفقت دماء الهيمنة من جديد في عروقه الإعلامية، فاشترى صحيفتي “نيوز أوف ذو وورلد” و”ذا صن”، وبدأ كسر الرتابة أو الوقار الذي كان يميز الصحف المشهورة في عاصمة الضباب، فأطلق مسارا إعلاميا جديدا يركز على مواضيع الإثارة، ويحرك غرائز القراء، ويتتبع بؤر الفضائح، ليحولها إلى شغل عام.

كانت صحيفتا “مردوخ” تحققان الأرباح المتصاعدة، وتكدسان في حقائبه الأموال المتراكمة، فتوسعت دائرة طموحاته من جديدة ليشتري مجموعة صحف “ذا تايمز” العريقة جدا، وذلك بعد أن حصل على موافقة استثنائية من رئيسة الوزراء المرأة الحديدية “مارغريت تاتشر”، كاسرة بذلك قيود القوانين البريطانية التي كانت تمنع احتكار شخص واحد لعدد من الصحف.

توسعت خلال السنوات الأولى من سبعينيات القرن المنصرم مملكة “مردوخ” الإعلامية، وأصبح أهم شخص مؤثر وفعال في الإعلام البريطاني، لكن دائرة طموحه كانت تتسع مع كل نجاح، أو قل مع كل هيمنة جديدة.

تجارة الإثارة.. وحش الإعلام يتسلل إلى الولايات المتحدة

انتقل “مردوخ” سنة 1973 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبدأ رمي شباكه بين أمواج الإعلام الأمريكي، فاشترى في نفس السنة، صحيفة “سان أنتونيو أكسبريس” ليطورها من جديد، آخذة موقعها في مملكة الإعلام المردوخي، وخلال السنوات الثلاث اللاحقة، أسس الرجل الأربعيني حينها صحيفة “ستار سوبرماركت تابلويد” المتخصصة هي الأخرى في مواضيع الإثارة، فقد كانت الإثارة أقوى وأقصر طرق “مردوخ” نحو الشهرة والثراء.

وفي العام 1976 استطاع مردوخ الهيمنة التامة على صحيفة “نيويورك بوست”، فبدأت بدأت مسارا جديدا مع الرجل الذي تحول إلى عاصفة في عوالم المال والأعمال والإعلام.

الفضائح والأخبار الخليعة سلعة أساسية في صحف مردوخ

كانت سنوات الانتظار الثلاث عشرة (1973-1985) التي سبقت نيل “مردوخ” للجنسية الأمريكية، سنوات كد وجهد متواصل، وقد استطاع فيها غرس أظافره بقوة في جسد الإعلام الأمريكي، وتوجيه أجزاء واسعة من الرأي العام في بلاد العم سام، كما أنها كانت فرصة لا تعوض للوبي اليهودي الذي وجد في “مردوخ” رجلا صهيونيا أكثر من المتوقع.

مملكة الإعلام.. أخطبوط يبسط أذرعه على أرجاء الكوكب

مع بدايات عام 1885 أصبح “مردوخ” أمريكيا بالجنسية، وبدأ مسارا جديدا من الهيمنة، ولكن هذه المرة على المحطات التلفزيونية، فقد أصبحت “الصحف” قصة قديمة.

أسس “مردوخ” شركة “نيوز كوربوريشن” القابضة التي أصبحت مع الزمن مملكة إعلامية واسعة، تتبع لها قناة فوكس نيوز الواسعة الانتشار والتأثير والمعروفة بولائها المطلق للمحافظين الجدد، ودعمها غير المحدود لإسرائيل ولرجالها في الولايات المتحدة، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد عاد الرجل من جديد سنة 2007 ليشتري واحدة من أهم الصحف الأمريكية وأكثرها تأثيرا في صناعة رأي النخب والشارع، وهي صحيفة “وول ستريت جورنال”.

إمبراطورية من الصحف وفنوات التلفزة تتبع مردوخ

بدأت شبكة “مردوخ” الإعلامية تستحوذ على آفاق واسعة في مجال الإعلام، فأصبح ملك صناعة الإعلام في بريطانيا، وسيطر على جزء هام من البرامج المشفرة والفعاليات الإعلامية والإعلانات، وهو ما مكنه من استدرار أرباح هائلة وتجاوز الأزمة المالية التي تعرضت لها شركته سنة 1991، وأدت به إلى خسارات كبيرة.

كان “مردوخ” مع كل ارتفاع في أسهمه المالية يختبر أسواقا جديدة، لذا مد أشرعته إلى أسواق الإعلام في العالم العربي وتركيا وأجزاء واسعة من آسيا وأفريقيا، لتتوسع شركته القابضة” نيوز كوربوريشن” في سنة 2000 إلى مملكة تضم أكثر من 800 شركة فيما يزيد على خمسين بلدا، ولها صافي أرباح سنوية يصل إلى خمسة مليارات دولار.

طلاق المليار.. هزة في حياة أحد أقوى شخصيات العالم

رغم الحملات التي واجهها “مردوخ”، فقد كان الرجل قادرا وبشكل لافت على الصمود وتجاوز الأزمات، وكان أيضا ماهرا في الجمع بين وسائل الإعلام التقليدية والجديدة.

استطاع “مردوخ” طيلة السنوات المنصرمة تكديس ثراء هائل، فقد وصلت ثروته إلى قرابة 12.7 مليار دولار، مما رفعه في العام 2015 إلى الرتبة الخامسة والثلاثين ضمن أقوى شخصيات العالم، والسابعة والسبعين بين أثرياء المعمورة، والثالثة والثلاثين بين أثرياء الولايات المتحدة وفق تصنيفات مجلة فوربس، قبل أن ترتفع مجددا سنة 2018 إلى حوالي 19 مليار دولار، ويرتفع تصنيفه هو إلى الرتبة الثانية والخمسين بين أثرياء العالم.

زوجة مردوخ التي حصلت بسبب طلاقها منه على 1.7 مليار دولار

تعرضت ثروة “مردوخ” لهزات متعددة، وكان يتجاوزها بشكل دائم، لكن أصعب هزة تلقاها هي تكاليف طلاقه من زوجته التي حصلت مقابل خروجها من حياته على 1.7 مليار دولار، وهو مبلغ ما كان الأسترالي المسن ليدفعه دون التأكد من أنه سيستعيده عبر أرباح مضاعفة، لكن حجم الخلاف بين الطرفين كان كافيا لأن يقبل “مردوخ” دفع كل تلك الأموال، مقابل حياة بدون زوجته التي عاشت معه في ثراء، وغادرت حياته بثروة غير بسيطة.

رائحة المال والصهيونية.. موسم الانتقال من اليسار إلى اليمين

استطاعت الأرباح الهائلة التي حققها “مردوخ” أن تنزع من ذاكرته ووجدانه الثقافي كل الأفكار اليسارية التي آمن بها في شبيبته، ومع ازدياد آفاق الثراء أعاد الرجل بناء قناعاته التي تركزت حول محورين أساسين هما تحصيل أكثر قدر ممكن من المال، وتقديم أكبر خدمة ممكنة لإسرائيل وللمحافظين الجدد في الولايات المتحدة.

وكانت أولى محطات التنكر للفكر اليساري، عندما واجه المطالب النقابية لعماله في بريطانيا بقسوة وصرامة، فطرد عشرات العمال ممن لا يرضون بالبقاء تحت سقف شروطه وإلزاماته في العمل الإعلامي. ثم تنامت بعد ذلك نزعته اليمينية، لتشبك أصابعها مع مصالحه الشخصية في تناغم تام بين المشرب الديني والهدف المصلحي الشخصي.

وقد اشتهر “مردوخ” بدعمه غير المحدود لإسرائيل، إذ وجدت تل أبيب وأذرعها في قنوات وإعلام “مردوخ” فرصة لا تعوض لنشر دعايتها، كما أن شركة “مردوخ” هي مستثمر فعال في إسرائيل، وتمد أذرعها في مجالات متعددة من التكنولوجيا الرقمية والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، وغيرها من المنافذ والموارد ذات البعد الإعلامي والاتصالي.

ولولائه الديني الشديد للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت قناة “فوكس نيوز” المملوكة له بمثابة المنبر الإعلامي الأكثر صدى وإثارة في الدفاع عن الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، كما نشطت بعد مغادرة “ترامب” في تسليح أنصاره من المتطرفين الرافضين لنتائج الانتخابات بالغضب والحنق تجاه الرئيس الجديد “بايدن”.

“إنهم يتحكمون في أداة لحرق البلاد”.. فوضى الانتخابات

يقول موقع إنترسبت (The Intercept) في تقرير له عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أمريكا إن شبكة فوكس نيوز الأمريكية التي يملكها “مردوخ”، تبث معلومات مضللة بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية، لأن مشاهديها يرغبون في سماع مثل تلك المعلومات، وليس لأنها تفرض عليهم فرضا.

ويعتبر الموقع أن ذلك سيؤدي بجزء من الناخبين الذين يشعرون بالمرارة والغضب إلى اعتبار أن رئاسة “بايدن”، غير شرعية، لأنها أسست على أصوات مسروقة، وأن الأمر سيكون شبيها بما تعرض له الرئيس السابق “باراك أوباما”، فقد شكك تيار في أهليته لشغل منصب الرئاسة بدعوى أنه لم يولد في أمريكا، لكن الأمر سيكون أكثر ضراوة واستدامة لأن “فوكس نيوز” زرعته بعمق وعلى نطاق واسع، ويبدو أنها عازمة على الاستمرار في القيام بذلك.

ويختم بقوله إن هذا الواقع هو نتاج الخيارات المسمومة لـ”روبرت مردوخ” وورثته الذين أسسوا آلية تعمل كما خطط لها بالضبط، حيث تكافئهم الأسواق بمليارات الدولارات سنويا، بينما يحميهم الفصل الأول من الدستور الأمريكي -الذي يكفل حرية التعبير والصحافة- من أي مسؤولية أو ملاحقات بسبب ما يتسببون به من أضرار.

مردوخ في اجتماع غالا اليهودي الـ100 السنوي

في سنته التسعين -كما كان في الأربعين أيضا- لا يزال “مردوخ” شغوفا بالمال وفيا للصهيونية، ولا يزال كما وصفه أحد الإعلاميين الأمريكيين جزءا من ظاهرة رأسمالية لا مكان فيها للأخلاق، “فآل مردوخ رأسماليون وليسوا معنيين بالأخلاق، إنهم يتحكمون في أداة لحرق البلاد، لكنهم ليسوا أول ولا آخر من ستسول له نفسه جني المال من خلال تدمير حياة الناس”.

“ربما يكون أغلب المسلمين سلميين”.. تصريحات صادمة

زيادة على كونه داعما رئيسيا لإسرائيل، ومحرضا دائما للمحافظين الجدد، ومنافحا عن حروبهم في العراق وأفغانستان وغيرها من بلاد العالم، فإن “مردوخ” أيضا يحمل خصومة مستمرة تجاه المسلمين، ويظهر ذلك بين الحين والآخر في تصريحات صادمة ومسيئة تجاه أبناء الإسلام.

فمن ذلك تصريحات له خلال أزمة نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أثارت ردة فعل غاضبة من المسلمين وبعض الأقلام الحقوقية في العالم، إذ يرى “مردوخ” في سياق دفاعه عن صحيفة “شارل إيبدو” ذات الرصيد الكبير في الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم أن على المسلمين أن يتخلصوا من الخطر الجهادي الكبير الذي يلوح في كل مكان من الفلبين إلى أفريقيا وأوروبا.

والمشكلة هنا أن “مردوخ” لا يتحدث عن أفراد أو مجموعات تجنبت طريق الإسلام وارتكبت باسمه وتحت شعاره أعمالا هي أبعد ما تكون عن الإسلام من قتل وترويع وتفجير، بل من الواضح أنه يحمّل المسلمين مسؤولية تلك الأعمال التي هم أول من يكتوي بنارها، إذ دعاهم إلى أن يعترفوا بمسؤوليتهم ومسؤولية دينهم عن أعمال العنف التي تنسب بين الحين والآخر لمتطرفين.

هجوم عنيف من صحف مردوخ على الإسلام

ومع ما وصفته صحيفة “إندبندنت” البريطانية بالانتقادات الشديدة التي تعرض لها في ذلك السياق، دافع “مردوخ” عن موقفه بقوله: ربما يكون أغلب المسلمين سلميين، لكن حتى يعترفوا ويدمروا سرطانهم الجهادي المتنامي، يجب أن يتحملوا المسؤولية.

يغض “مردوخ” ووفق منتقديه الطرف وبشكل غير أخلاقي عن الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، كما أن منطقه بمطالبة المسلمين بالاعتراف بمسؤوليتهم عن أخطاء بعض أبنائهم، يتطلب أيضا تحميل المسيحيين في العالم مسؤولية الأعمال الإرهابية التي يقوم بها بعض المتطرفين المنتمين للديانة المسيحية بين الحين والآخر، بل ما المانع من تحميلهم المسؤولية عن الحربين العالميتين اللتين راح ضحيتهما عشرات الملايين من الأبرياء وفق ذات المنطق؟