“سيارات نظيفة ولكن”.. دماء بشرية على طريق صناعة البيئة النظيفة

خاص-الوثائقية

أهلا بكم إلى أكبر انطلاقة كهربائية في صناعة السيارات، إنها بداية حقبة جديدة، وستكون الاستدامة حجر الزاوية فيها، نتطلع إلى الأمام ونفكر في التغير المناخي والرفاهية والتقدم بسيارات كهربائية نظيفة، وإنتاج نظيف. كانت هذه المقدمة المتفائلة لانطلاق المعرض الدولي للسيارات، لكن وراء هذه الأضواء الساطعة قصص أخرى من المعاناة، أبطالها أناس مهمشون يعيشون في ظلمة المناجم.

 

ستكون المادة الخام لهذه الحقبة هي الكوبالت الموجود في إحدى أكبر الدول فسادا في العالم، وهي الكونغو الديمقراطية، فماذا ستكلف هذه الاستدامة السكان المحليين؟ كان هذا السؤال الكبير موضوع فيلم استقصائي هام قدمته قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “سيارات نظيفة.. ولكن”.

“قلق بشأن مستقبل أحفادي”.. عالم خال من الانبعاثات

يلتزم صانعو السيارات بالأهداف المناخية لاتفاق باريس، ويروجون بأن سياراتهم الكهربائية نظيفة، ومستقبلهم خال من ثاني أوكسيد الكربون، وتسعى فولكس فاغن إلى التركيز على التنقل الكهربائي بالكامل في المستقبل، وتقدم الشركة سياراتها الثورية الجديدة في المعرض الدولي للسيارات تحت شعار: “مصممون على التحول إلى الانتقال الكهربائي من أسفل الهرم إلى أعلاه”.

وتعتبر المبادئ التوجيهية للاتحاد الأوروبي هي القوة الدافعة للثورة الكهربائية، فمع 2020 يواجه صانعو السيارات عقوبات شديدة إذا لم يخفضوا من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، وعلى هذا الأساس يتقدم المستهلكون تدريجيا أيضا، ففي 2019 انطلقت 142 ألف سيارة كهربائية على الطرق الألمانية، بزيادة 44% عن العام السابق.

“غيرد فرانك” ألماني يقود سيارته الكهربائية ويعيش في بيته الذي تغذيه الشمس بالطاقة الكهربائية

 

يظن البرليني “غيرد فرانك” أنه يفعل الخير لمدينته، وهو يقود سيارته الكهربائية ويعيش في بيته الذي تغذيه الشمس بالطاقة الكهربائية، فما الذي غير رأيه يا ترى؟

يقول: أنا قلق بشأن مستقبل أحفادي، أحاول المساهمة في إنقاذ ما بقي من هذا الكوكب كما عرفته وأنا شاب، والأمر المباشر الذي جعلني أغير سلوكي هو صيف 2018 الذي كان حارا وجافا جدا، يومها اطلعت على موضوع التغير المناخي، واستنتجت أن على السياسات أن تتغير وكذلك الأفراد، وإلا فسوف يكون مستقبل أحفادنا قاتما.

ويعتبر الكوبالت ضروريا للوصول إلى عالم خالٍ من الانبعاثات، وتحتاج إحدى وحدات بطارية السيارة إلى حوالي عشرة كيلوغرامات من المواد الخام، وترصف هذه الوحدات في هيكل السيارة. وتحدد كمية الكوبالت طاقة وقوة دفع البطارية الكهربائية.

وتستورد ألمانيا 75% من الكوبالت من الكونغو الديموقراطية، وهنالك الكثير من الأخطار السياسية المرتبطة بالسوق، فإغلاق منجم واحد فقط أو نشوء حرب أهلية، يجعل أوروبا كلها في ورطة بالغة التعقيد.

“أعمل لأساعد والدتي”.. فقر يجبر أطفال الكونغو على العمل

تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية في قلب أفريقيا، وهي دولة غنية بالمواد الخام، ولكنها فقيرة جدا في الوقت نفسه. يستخرج نحو 80% من الكوبالت من المناجم الصناعية، وتسيطر الشركات العالمية على النصيب الأوفر من هذا القطاع، وتلتزم بالصحة المهنية والقوانين والأنظمة المتعلقة بالسلامة، لكن شركات التعدين تغطي فقط أفضل أجزاء مناطق التعدين.

وهناك 20% من مناطق التعدين صغيرة النطاق حددتها الحكومة، وتقع في تكوينات جيولوجية غير جذابة، لهذا نجد عمّال المناجم مجبرين على العمل على نحو غير قانوني في مناجم الشركات الضخمة التي تقع بعيدا عن قراهم، كما يجري استغلال عمال المناجم من قبل وسطاء من الخارج، ويتلقون أجرا زهيدا أقل من الحد الأدنى للأجور الذي يصل إلى 4 دولارات في اليوم.

في الكونغو، هناك 22 ألف طفل تقريبا يعملون خلال العطلة الأسبوعية في التنقيب عن الكوبالت

 

كما تتفشى في الكونغو عمالة الأطفال، فهناك 22 ألف طفل تقريبا يعملون خلال العطلة الأسبوعية، وحتى في أيام المدارس. وعن ذلك يقول “ألفونس”: أعمل لأساعد والدتي، وهي تعمل كذلك، ولكن دخلها لا يكفينا. ويقول شقيقه: أنا كذلك أحتاج إلى المال للذهاب إلى المدرسة وشراء حذاء، أحب المدرسة، ولكنني أيضا بحاجة إلى المال.

ومن حيث المبدأ فالمناجم الصغيرة قانونية في الكونغو، ويلزم القانون كل عامل منجم بالتسجيل، ثم تعين له منطقة للتنقيب فيها، ونظريا توجد إجراءات للسلامة العامة وحماية البيئة، وهناك حظر صارم على عمالة الأطفال، لكن على أرض الواقع لا قيمة لهذه الإجراءات في الكونغو، لأنها لا تخضع للرقابة ولا تنفذ.

تجار الصين.. سوق سوداء تتحكم بتجارة الكوبالت في العالم

في العام الماضي وصل الإنتاج الحِرفي إلى نحو 25 ألف طن، أي نحو 20% من إنتاج السوق، وتكمن المشكلة في تعقب مسار التعدين الحرفي، فعندما تذهب للسوق في (كولويزي) لشراء منتج حرفيٍّ لا سبيل لمعرفة مصدره، أو ظروف إنتاجه، أو الأجر الذي دفع للعمال. وهناك يتولى الصينيون زمام الأمور.

يقوم الصينيون بفحص العينات من أجل معرفة نسبة الكوبالت في الكيس، ويدفعون للعمال ما معدله 70 يورو للكيس الواحد، ما يهمهم هو شراء أكبر كمية من الكوبالت بأقل سعر، وهم لا يتتبعون مصادر الكوبالت ومن قام بالعمل لاستخراجه أو ظروف العمل، كل ما يهمهم أن يستلموا المادة الخام من رجال بالغين، كما يقول أحدهم: نحن لا نبتاع أي شيء من الأطفال.

ويعتبر تتبع مصدر الكوبالت إشكالية تاريخية، فالمعروف فقط أن هذه المادة الخام تنقل بواسطة الشاحنات إلى الموانئ الرئيسية في تنزانيا المجاورة أو جنوب أفريقيا، وهناك يجري تحميله في سفن الشحن إلى الصين، حيث تخضع المادة الخام لمزيد من المعالجة، وتنتج الصين وحدها 80% من منتجات الكوبالت حول العالم، بما في ذلك تأمين الموارد اللازمة لصناعة السيارات الألمانية.

في الصين وحدها يوجد 2.6 مليون سيارة كهربائية وتعد أكبر سوق لكوبالت الكونغو

 

وتعد الصين صندوقا أسود بين تكرير الكوبالت وبيعه للعالم على شكل بطاريات أو مُركّبات. وتتحرك 5.6 مليون سيارة كهربائية في العالم، وفي الصين وحدها 2.6 مليون سيارة، وتليها الولايات المتحدة التي تتحرك فيها 1.1 مليون سيارة، وهناك 298 ألفا في النرويج، و142 ألف سيارة في ألمانيا. وترتفع هذه الأعداد بشكل متزايد، مما يعني تخفيف انبعاث الكربون بشكل كبير.

ويعني ارتفاع الطلب على الكوبالت بروز مسؤولية مصانع السيارات في إنشاء سلسلة توريد عادلة للكوبالت، من دون عمالة أطفال وانتهاك لحقوق الإنسان، والمشكلة الرئيسية هي غياب هيئة رقابة مستقلة تتتبع سلسلة التوريد هذه، وتعتمد شركات السيارات على التدقيق الداخلي الذي يقدم لها من الوسطاء في الكونغو، أو البديل الأصعب، وهو إرسال بعثات تدقيق من المصانع نفسها إلى الكونغو.

“هذا انتهى الآن”.. هيئات الرقابة على حقوق الإنسان في المناجم

تعتمد مصانع السيارات الألمانية على شركات استشارية خاصة مثل “آر سي إس غلوبال” (RCS-Global) المتخصصة في تحديد انتهاكات حقوق الإنسان، أو الأخطار البيئية والصحية في سلسلة التوريد الخاصة بوكلائها. ويقول الاستشاري “فيردناند موبراي”: لا يعلم كثير من المستهلكين النهائيين من أي منجم أو مصهر يأتي الكوبالت الذي يشترونه، ومهمتنا توفير هذه المعلومات للمصانع من خلال أبحاثنا وتدقيقنا.

في منطقة تعدين صغيرة قرب كولويزي يجري تشغيل مشروع تجريبي يسمى “كوبالت أفضل”، هنا يجري التحقق من كل من يدخل المنجم، ولا يسمح بدخول الأطفال والنساء الحوامل، ويتعين على العاملين تسجيل أسمائهم وارتداء ملابس واقية، وتعمل الشركة المستقلة على جمع البيانات عن عدد العاملين.

في بعض مواقع التنقيب في الكونغو، توضع لوحة إرشادات (غير ملزمة) تحدد ساعات العمل وتحظر عمالة الأطفال

 

يقول “موبراي”: لدينا مراقب موجود في المنجم يتولى تسجيل الحوادث رقميا، وترسل إلى مركز البيانات الخاص بنا لنقوم بمشاركتها لاحقا مع الآخرين في سلسلة التوريد، لقد شهدنا عددا من الحوادث المميتة في المنجم بسبب رداءة احتياطات السلامة، وسجلنا بعض حالات عمالة الأطفال، ولكن هذا انتهى الآن.

ولكن حتى الآن لا يلبس العمال الملابس الواقية، والمشروع لا يجبرهم، بل يقدم النصائح فقط: “لدينا لوحة إرشادات تحدد ساعات العمل وتحظر عمالة الأطفال وتحدد ظروف العمل، هذه اللوحة مثال ملموس على التقدم الذي أحرزناه منذ حضرنا إلى هنا، نحو نصف العمال هنا يحسن القراءة والكتابة”. ويرى الخبراء أن هذا المشروع بداية جيدة تثبت أن المراقبة يمكنها جعل ظروف العمل أكثر إنسانية.

“نحتاج إلى الشفافية”.. عمالقة التعدين والتهرب الضريبي

في السنوات الخمس القادمة تسعى فولكس فاغن إلى استثمار 30 مليار يورو في السيارات الكهربائية، وتتطلب بطارية واحدة من السلسلة الجديدة 6.7 كغم من الكوبالت، يقول خبير التسويق: نحتاج إلى الشفافية في الحصول على الكوبالت بطرق إنسانية من المنجم حتى المصنع. ولكن من يستطيع أن يضمن لفولكس فاغن هذه الشفافية؟ ومن أي منجم تحصل على الكوبالت؟

يجيب الخبير: هذه علاقات تجارية لا نكشف عنها، ولكن هناك تقارير صحفية تكشف عن موردي البطاريات الكبار لشركتنا. إذ تشير التقارير الصحفية إلى شركتين كبيرتين تقومان بتوريد الكوبالت إلى فولكس فاغن: أولهما “غلينكور” أكبر شركة موردة للموارد الطبيعية في العالم، وتدير أكبر منجم للكوبالت في الكونغو، والثانية شركة تصنيع البطاريات الصينية “كالت” (CALT).

فولكس فاغن تسعى إلى استثمار 30 مليار يورو في السيارات الكهربائية

 

ورغم أن ظروف العمل مثالية في شركة غلينكور، فإن اسم الشركة التي مقرها سويسرا احتل عناوين الصحف سلبا عدة مرات، ففي “وثائق اللجنة” التي تكشف عن التهرب الضريبي العالمي، فقد ارتبط اسم غلينكور بشراء امتيازات التعدين بأسعار أقل بكثير من القيمة السوقية.

ورفضت غلينكور طلب إجراء مقابلة معها، لكن المؤكد هو أن حكومة الكونغو تعد من أكثر الحكومات فسادا حول العالم، ويرتبط الفساد بكثير من امتيازات التعدين. ويقول “توم موما” محامي ومدافع عن حقوق الإنسان: “إنه فساد منظم عميق يؤثر في جميع المؤسسات، وفي مناطق التعدين يسود الاحتيال والرشوة بشدة من أجل الحصول على الموارد. فالفساد ينخر في الدولة من أسفل الهرم إلى أعلاه”.

وتبلغ مساحة منجم غلينكور 21 كم مربعا، ولا يمكن لمشغلي المنجم مراقبة كل من يدخل هذه المنطقة، لذا يحاول الكثير من المنقبين استخراج الكوبالت بطرق غير قانونية، بينما يعمل 2000 منقب لحساب غلينكور.

“لا نعلم أين تذهب الجثث”.. ألاعيب الشرطة القذرة

تمنع الشرطة فريق التصوير مرارا كل يوم، برغم حصولهم على التصاريح اللازمة، ويطالبونهم بدفع المال بدعوى الحفاظ على حياتهم، أو ببساطة لعدم اعتقالهم، وفي حال التخلف عن الدفع ينتهي بهم المطاف في مركز الشرطة، وبحسب منظمة الشفافية الدولية تحتل الكونغو المركز 161 من أصل 180 على سلم الفساد، ومن دون الرشوة لا يمكنك العمل مطلقا، سواء كنت أجنبيا أو من السكان المحليين.

ففي إحدى السنوات حصل حادث مميت، والتقط شاهد عيان مقطع فيديو يظهر عددا من جثث العمال الذين كانوا يعملون بشكل غير قانوني، وقتلوا في انهيار أرضي، وتشير التقديرات إلى مقتل 19-43 عاملا في هذا الحادث. “يحدث هذا كثيرا، تأتي قوات الشرطة ويطردوننا بعيدا وينقلون الجثث بمركباتهم، لا نعلم أين تذهب الجثث، ولكننا نعلم أن أكثر من 30 عاملا قتلوا في الانهيار الأخير.

صورة من مقطع فيديو يظهر عددا من جثث عمال كانوا يعملون في التنقيب عن الكوبالت وقتلوا في انهيار أرضي

 

وبعد الحادث الأخير أصبح صعبا على العمال غير القانونيين -ويقدر عددهم بـ100 ألف- الدخول إلى المناجم الكبيرة، ويتعرضون للضرب والجلد من الشرطة إذا حاولوا ذلك: “إنها مواردنا، ولكن أصحاب المناجم ورجال الدولة يحرموننا منها، ويتصرفون على أن الأرض والناس الذين عليها ملك لهم، حكومتنا تتحمل المسؤولية كاملة عن كل الضرر الذي يصيبنا”.

وتتصرف الحكومة الكونغولية بعكس مسؤولياتها تجاه مواطنيها، فبدل أن تضع التشريعات لمنع العمالة غير القانونية، فإنها تزود الشركات الأجنبية بالسلاح وقوات الجيش والحراسة غير الخاضعة لأي سلطة محلية.
ويبقى السؤال: ألا يمكن لصانعي السيارات اختصار الطريق والاستغناء عن الكوبالت الكنغولي؟ نعم، لقد فعلت “بي إم دبليو” (BMW) ذلك، واستغنت عن كوبالت الكونغو، واستبدلته بكوبالت نظيف من المغرب وأستراليا، لكن هذا الخيار غير متاح للجميع.

“لم يستمع لنا وأطلق النار على الصبي فقتله فورا”.. غضب شعبي

يبلغ الإنتاج العالمي السنوي من الكوبالت 142 ألف طن، منها 90 ألفا من الكونغو وحدها، مما يعني أنه يصعب تغطية الطلب العالمي من دون الكونغو، وتعمل المناجم الصينية في الكونغو وكأنها دولة داخل دولة، حتى أن الناس يشعرون بالخوف من التحدث عن صعوبة العمل بين الصينيين، لكن أحد العمال وافق على تقديم بعض المعلومات، مفضلا عدم ذكر اسمه:

يقول العامل: رأيت طفلا في يبلغ 16 عاما يلتقط الحجارة، لاحظ أحد الصينيين ذلك، وأمر الشرطي بإطلاق النار عليه، توسلنا إليه أن لا يفعل ذلك، ولكنه لم يستمع لنا وأطلق النار على الصبي فقتله فورا. العمل مع الصينيين سيئ جدا، فهم يسيئون معاملتنا، ولا نحب العمل معهم، ولكن ذلك مستحيل، فهم يملكون كل شيء، ونحن مجبرون على العمل معهم، والأمن الكونغولي يطيعهم لأنهم متفوقون عليه.

تعمل مناجم الكوبالت الصينية في الكونغو كدولة داخل دولة تحرسها شرطة وكلاب

 

ترفض السلطات الإدلاء بأي بيان لنا، ولكننا اقتفينا أثر والدي الصبي وتشجعا على التحدث إلينا. يقول الأب: قلبي يؤلمني، أسأل نفسي: هل أعيش على أرض صينية أم هذه بلادي؟ لقد اشترونا جميعا، نحن لا نساوي شيئا. وتقول الأم: يؤلمني كأم أن أرى ابني يقتل من أجل بعض الحجارة.

بدأ الأشخاص المتضررون بالمواجهة، وتبدلت آراء الشعب وازدادت المظاهرات: نحتاج إلى المال، نريد الكهرباء والماء، نحن نعاني هنا، لماذا يحصل البيض على كل شيء بينما لا نحصل نحن على شيء؟

ويراقب الخبراء هذا الواقع بقلق، فالتظاهرات موجهة ضد مشغلي المناجم الأجانب: هؤلاء البيض يأخذون مواردنا بأسعار زهيدة، ولا يسمحون لنا بالاستفادة من مواردنا، نحن نطالب بالتغيير.

مرسيدس.. ظاهرها الشعارات الألمانية وباطنها الجرائم الصينية

في ألمانيا لا يشعرون بالعنف والمآسي الحاصلة في الكونغو، لكن “غيرد فرانك” يحاول التنبيه إلى سلاسل التوريد النظيفة للمواد الخام، ويدعو مصانع السيارات لاستخدام قوتها السوقية في الضغط على مشغلي المناجم، من أجل احترام أكبر لحقوق الإنسان، ومنع عمالة الأطفال.

أما شركة مرسيدس فتعلن على موقعها أنها تتعامل مع شركة التوريد الصينية “سي دي إم” (CDM) التي تتبنى معايير عالية في مجال حقوق الإنسان، وقد استحوذت هذه الشركة على منجم في بلدة يقطنها 20 ألف نسمة، فيها طريق معبد، و11 مركزا صحيا، ولكنها بلا ماء ولا كهرباء، وقد أقام الصينيون مركزا للوساطة في حل النزاعات بين الشركة والسكان المحليين.

عدّاد “غايغر” يقيس الإشعاعات الصادرة عن الكوبالت الذي يوجد عادة مخلوطا مع اليورانيوم وعناصر أخرى

 

لكن التذمر يبدو واضحا من كلام السكان، فالمركز لم يقدم الخدمات المرجوة، فلا ماء ولا مدارس ولا بنية تحتية كما تعهدت الشركة، بل ولا حتى رعاية لحقوق الإنسان، فلقد قتل أحد المواطنين برصاص حراس الأمن ولم يحرك مركز الوساطة ساكنا. وهناك قضية تعدين اليورانيوم الذي قام به المشغل السابق، وأثر سلبا على المجتمع، وهناك آثار وراثية على الأطفال، لكن ماذا فعلت الشركة؟ لا شيء.

ذهب فريق التحقيق إلى المنجم مزودا بعدّاد “غايغر” لقياس الإشعاع من أجل التحقق من أقوال السكان، ومع الأسف كانت النتيجة خطرة للغاية، وصدقت تخوفات السكان المحليين، فالكوبالت لا يوجد وحده في الطبيعة، بل هو مختلط مع معادن أخرى منها النحاس والنيكل واليورانيوم، ويؤدي استخلاصه إلى نتائج خطرة، ويعزو كثير من السكان إعاقات بعض الأطفال إلى وجود إشعاعات ضارة من المنجم.

فالناس في هذه المنطقة “كاواما” يعانون من السعال عموما، ويمشون وكأن على أعينهم غشاوة، والأخطر حالات التشوه للمواليد الجدد. أما الشركة الصينية فيقولون إنهم استلموا الموقع في 2016، ويعلمون بوجود إشعاعات، ولكنها حسب ادعائهم ضمن الحدود المقبولة، وعندما أخبرنا مرسيدس بالقراءات التي حصلنا عليها وعدت بالتحقيق في الأمر.

قوانين التوريد.. معارك الحكومة الألمانية ولوبيات الضغط

ماذا عن السياسة الألمانية؟ إنهم في خضم نقاش حول مشروع يلزم بضمان احترام حقوق الإنسان في سلاسل التوريد، لكن لوبيات الضغط من التجار والصناعيين داخل الحكومة وغرف التجارة والصناعة، تقود حملات لمنع تمرير هذه القوانين الملزمة. والحرب دائرة بين هذه الشركات وبعض المنظمات غير الحكومية التي تدعو إلى قواعد صارمة فيما يتعلق بحقوق الإنسان.

مصانع السيارات وعلى رأسها فولكس فاغن تعد بمناخ أكثر نظافة وطاقة كهربائية نظيفة بكل المعايير

 

ويرى بعض الخبراء أن الحل الأمثل لضمان سلاسل توريد نظيفة هو أن تقوم الشركات بمراقبة خط سير سلسلة التوريد، ابتداء من المنجم وحتى وصول الكوبالت للمصنع، لكن صانعي السيارات لا يرون هذا الحل عمليا، فهذه الشركات ليست متخصصة في التعدين والتصهير، وفي المقابل تقبل هذه الشركات بوجود طرف محايد ذي سلطة رقابية.

وعدت مصانع السيارات وعلى رأسها فولكس فاغن بمناخ أكثر نظافة من الملوثات، وطاقة كهربائية نظيفة بكل المعايير، لكن تحقيق هذه الوعود لن يكون سهلا وخاصة مع الكوبالت الكونغولي، في ظل عدم وجود بديل للكوبالت في صناعة البطاريات، الأمر الذي يحتم على صانعي السيارات ومشغلي المناجم وباقي سلسلة التوريد اتخاذ إجراءات قاسية، من أجل تأمين مادة نظيفة من دماء العاملين فيها.