“سيارة من تحت الركام”.. السفر 60 عاما إلى الوراء

مهدي المبروك

كثيرة هي الأسباب التي تُولّد طاقة إبداعية لدى الإنسان لينتج شيئا جميلا يتمناه، والعودة إلى مقتنيات الماضي وإحياء مستخدمات الأجداد ربما أشعلا في نفس عمر زهدي السعدي الحماسة ليعيد سيارة متآكلة من مدافن التاريخ إلى الحياة الجديدة التي تعجُّ بضجيج السيارات الحديثة بأنواعها وأشكالها وألوانها المتعددة.

أراد السعدي أن يتحول حلمه إلى حقيقة، وأن تعود تلك السيارة إلى الاستخدام، فتعاون مع من يساعده من الخبراء في تصليح السيارات وهم: عامر محمد سالم (أبو خالد)، وإسماعيل أبو الحور (أبو حمزة)، وقد بذلوا جهودا شاقة حتى أعادوا تلك السيارة سائرة على الأرض تجوب الطرقات من جديد.

تلك المهمة الصعبة يسرد تفاصيلها الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “سيارة من تحت الركام”، فبعد 45 عاماً من توقف تلك السيارة عادت بشكلها القديم إلى العمل.

 

مستودع الذكريات.. ارتباط عميق منذ الطفولة

يبدأ مخرج الفيلم بعرض مشهد تمثيلي تظهر فيه السيارة القديمة وطفل يتنقل بين مقاعدها، فتارة يجلس خلف المقود وأخرى بالقرب من مقعد السائق، ثم يقف بالقرب منها متأملا في مرآتها، ملامسا لجسمها بيديه مظهرا تعلقه وارتباطه الشديد بها.

ثم ينتقل بنا المخرج إلى موقف للسيارات القديمة المتآكلة التي يعلوها الغبار، ويبدو عليها أثر الاستخدام وما يصيب أي سيارة مرت عليها كل تلك السنين من التوقف وعدم الحركة.

في عام 1975 قال جد عمر السعدي لحفيده:

الجد: ماذا تريد؟

عمر: أريد سيارة.

فأحضر له جده سيارة ألمانية تحمل العلامة التجارية “مرسيدس” ومنذ ذلك اليوم أحب عمر السيارات وأصبحت جزءا من حياته، وذلك الارتباط العميق هو ما جعل عمر فيما بعد يرغب في تصليح كل سيارة هالكة قديمة، فهو لا ينظر إليها كوسيلة للنقل فحسب بل يراها مستودعا للذكريات وموطنا للماضي القديم.

على الرغم من قول العديد من خبراء تصليح السيارات باستحالة إصلاحها فإن عمر رأى أنه بالإرادة والعزيمة يستطيع صناعة المستحيل وإعادتها كما كانت من قبل، فقام من فوره يبحث عن السبل التي تعيدها إلى ما كانت عليه أيام كانت تسير من باب العمود في القدس متجهة إلى منطقة العبدلي في العاصمة الأردنية عمان، ثم تصل إلى العاصمة السورية دمشق.

فريق الميكانيكيين العمالقة وهم يرسمون خطة الطريق نحو استصلاح السيارة

 

تصليح السيارة.. البحث عن الشركاء

أراد عمر أن يخوض غمار تحدي المستحيل وأن يرمّم السيارة فبدأ بالبحث عن شركاء قادرين على العمل معه يمتلكون الصبر والمهارة اللازمة لإتمام ذلك العمل على الصورة التي يريدها، وهو يحمل فكرة مفادها أن الشباب ليست لديهم طاقة التحمل اللازمة فهم سريعو الغضب، لذلك فهو يبحث عن العاملين بهدوء تام، الصابرين على أعمالهم، المتحمّلين لكل ما يواجههم من مشاكل.

عرض عمر على خبير المركبات عامر أبو خالد أن يساعده فيما هو مقبل عليه، وقد تردد أبو خالد في تقديم المساعدة حيث أن قطع الغيار اللازمة لتصليحها غير متوفرة في الأسواق، لكن نيّة عمر في إعادتها صالحة للاستعمال مجددا هو الذي دفعه للعمل معه في تلك المهمة الصعبة.

يظهر في الفيلم إسماعيل أبو حمزة مستعرضا إمكانياته في العمل قائلا: عملت في مهنة الميكانيك وعمري 15 عاما، كنت أعرف سبب تعطل السيارات على الطريق دون أن أحتاج إلى فحصها، فمن بعيد كنت أعرف العطل.

انتشال السيارة من وسط ركام سيارات عفى عليها الدهر

 

بداية العمل.. سيارة تالفة

يطالب عمر شركاءه بالحرص الشديد أثناء العمل، وأن يعرف كل واحد منهم مهمته المطلوبة في السيارة والحفاظ على كافة قِطعها حتى لو كانت تالفة، لعله يعيد بناءها من جديد أو تصليحها إن أمكن ذلك أو استبدالها بقطع شبيهة.

بعد تفكيك السيارة تبين أن كل شيء فيها تالف، فأبوابها منزلقة عن أماكنها، والمحرك يحتوي على مشاكل كثيرة، والمقدمة متآكلة، والأجنحة خربة، فليس أمام العاملين على تصليحها إلا إحضار قياساتها من الشركة لإعادة ترتيبها بالشكل الذي يجب أن تكون عليه لتصبح أفضل حالا وأحسن عملا.

لعبت خبرة أبي حمزة دورا مهما في تشخيص مشاكلها قائلا: أدى دخول الماء في المحرك إلى توقّفه عن العمل وهذا النوع من الأعطال في السيارة يطلق عليه في مجتمع خبراء تصليح المركبات “مسْكة المحرك” وبالتالي علينا فتح المحرك، وتصليح “عمود الكرنك” وكافة محتويات المحرك.

يُعدّ عمود الكرنك بمثابة العمود الفقري للسيارة، فهو الذي يعمل على اتزان المحرك عند تشغيله، ومن وظائفه تشغيل باقي قطع المحرك، فإذا توقف عمود الكرنك عن العمل فإن السيارة تتوقف عن الحركة، لذلك يريد أبو حمزة تفكيك المحرك بما في ذلك عمود الكرنك الذي كانت كل أجزائه تالفة.

يظهر في الفيلم عمر وشركاؤه أثناء تفكيك المحرك ومحاولة إصلاحه مطالبا أصدقاءه بالحفاظ على الإسطوانات (السلندرات) من التلف، وهي الجزء العلوي من المحرك، الذي تتم فيه عمليات الاحتراق خلال دخول الهواء والوقود.

القطع الداخلية للمحرك “البساتن” و”الرنكات” و”الكمشفترات”

 

المعدة بيت الداء”.. تصليح المحرك

لم يتوقع عامر أبو خالد أن يجد المحرك بعد فترة طويلة من الزمن على التوقف عن العمل بهذه الحالة حيث لم يتآكل بشكل كامل رغم تعرضه للماء مدة طويلة فالأضرار التي أصابته كانت بسيطة يمكن التعامل معها.

يقول أبو خالد: عندما قمنا بفك المكابس (البساتن) وجدنا أن السيارة كانت حرارتها مرتفعة فحاولنا البحث عن قطع غيار بديلة عن القطع التالفة لكننا لم نجدها في السوق، مما اضطرّنا إلى لحمها، كما أن الحلقات (الرنگات) كانت متماسكة بسبب عدم العمل لفترة طويلة.

“البساتن” هي الأجزاء المتحركة داخل غرف الاحتراق ووظيفتها توفير الضغط ومن ثم تحريك عمود الكرنْك، أما الرنگات ففائدتها إحكام ضغط الوقود داخل غرف الاحتراق.

يتابع أبو خالد قائلا: ثم أرسلنا “رأس المحرك” إلى “المخرطة” حيث كانت غرف النار متّسعة كثيرا، الأمر الذي أدى إلى مشكلة في عمل المحرك، لكن عامل المخرطة استطاع أن يعيدها إلى سيرتها الأولى. والمخرطة هي إحدى آلة يتم فيها شغل تشكيل المعادن بالشكل المطلوب، كما أن الصيانة امتدت إلى “الكامشافت” وهو الجزء العلوي من المحرك الذي يحتوي على “الصبابات” وهي الأداة المسؤولة عن مزج الوقود والهواء.

فحص المحرك وكيف أنه يعمل بشكل سليم

 

تسريب في عين المضخة

يظهر في الفيلم عمر زهدي وهو يجرب عمل المحرك حيث استبدل الخزان بأنبوب بلاستيك ويشير إلى الجزئين الخاصين بالسحب والضخ منه قائلاً: إذا لم يعد هناك تسريب هواء فمعنى ذلك أنَّ الأنبوب جيد.

يستخدم عامر فمه في فحص جودة الأنبوب ويفحصه ليعلم ما إذا كان يحمل تسريبا للهواء أم لا، وذلك من خلال النفخ فيه بواسطة الهواء الخارج من فمه. يقول عمر: جلسنا نصلح كل قطعة بشكل منفرد، جميع قطع السيارة إمّا تالفة أو ملتوية أو مكسورة.

يرى عامر أن المضخة (الطرمبة) المسؤولة عن نقل الوقود من الخزان (التانك) إلى نظام الحقن في المحرك تحتاج إلى مطاط لمنع التسريب، وهذا المطاط يستدعي سفرا بعيدا نحو مدينة نابلس أو القدس.

وقد نُظّفت عين الطرمبة من التكلّس بمادة خاصة، كما أن “البخاخات” المسؤولة عن ضخّ البترول داخل غرف الاحتراق في المحرك نُظفت كذلك فعادت تعمل كما كانت عليه في السابق.

مرحلة تعديل جسم السيارة وإعادة هيكلتها

 

بيت الزواحف.. تنظيف جسم السيارة

بعد أن أصبح المحرك يعمل بشكل جيد، وقف عمر قائلا: لم أرَ بحياتي مثل هذه السيارة، لدرجة أني أستطيع أن أخرق حديدها بيدي. ثم يتابع حديثه محذرا من وجود الحشرات والزواحف التي سكنت السيارة: وجدنا خلايا من النحل وكثيرا من الحشرات الأخرى التي اتخذت من السيارة بيتا.

يظهر في الفيلم تنظيف جسم السيارة باستخدام المنشار الكهربائي والمطرقة ومضخة الهواء، ويقوم عمر بأخذ قياسات السيارة وتسجيلها مستخدما آلة لحام الحديد، والمفكّات المتنوعة، ثم يبدأ عامر بوضع الإطارات المطاطية التي تجعل السيارة تسير على الأرض.

احتاج جسم السيارة أكثر من شهر من العمل المتواصل حتى أصبح متوازنا وجميلا. يقول عامر: أحضرنا كبار السنّ لمعاينتها، فشهدوا أنها أصبحت طبق الأصل، متعجّبين كيف فعلتم ذلك!

وقفت السيارة على الأرض، ثم صعد صاحب فكرة تصليحها فوق جزئها الخلفي محدثا اهتزازا، وذلك من أجل فحص قوتها وارتكازها، فوجدها ثابتة قد بدت عليها المتانة.

بعد الانتهاء من تركيب جميع أجزءا السيارة أصبحت الآن جاهزة للانطلاق

 

تركيب جسم السيارة.. لوحة فنية

بعد التأكد من متانتها رُكبت الأجزاء الخارجية مثل الجناحين والأبواب وغطاء المقدمة. وتظهر في الفيلم أعمال تسوية جسم السيارة (بودي) بمطرقة، وقد استغرق تصليح أحد الأبواب يومين بسبب عدم وجود باب شبيه به.

يصف مصلحو السيارة حالهم بأنه يشبه رسم لوحة فنية؛ فقد استمتعوا بمواصلة العمل ليلا ونهارا، وعند الراحة كانوا يسكبون الشاي ويتناولون بعض الشطائر ثم يتابعون العمل بكل همّة ونشاط.

رُكّب أثاث مقاعد السيارة، ووُضعت أساسات الدهان، وأُلصق شعار الشركة المنتجة على جرس السيارة في منتصف المِقود، يريد عمر أن يُعيدها كما كانت أول مرة كمُنتج من الشركة.

يطلب عمر من مساعديه تشغيل وإغلاق الإضاءة للتأكد من عملها بشكل جيد بعد أن استُبدلت كافة الأسلاك التالفة بأخرى سليمة موصلة للكهرباء، وأُحضرت علب بلاستيكية وقطع من سيارات أخرى لتحلّ محل الكشافات الخلفية.

تحقق الحلم وعادت السيارة تيسر على الطريق

 

غروب بلون الأصالة.. السير على الطريق

خاض عمر ومساعدوه نقاشا عميقا للاتفاق على اللون الذي ينبغي أن تُطلى به السيارة ثم توصلوا إلى اتفاق على ألوان محددة هي أزرق فاتح من الجانب السفلي و”بيج” من الجانب العلوي.

رُكّب فراش السيارة، ويظهر في الفيلم المنجِّد (الخياط) وهو يُجهّز القماش الخاص بفرش السيارة، ثم بدأ التركيب والتأكد من تماسكه بطريقة مناسبة.

احتاج عمر وزملاؤه وقتا طويلا في البحث عن زجاج أمامي وخلفي، ثم تفصيل ذاك الزجاج حسب القياسات المناسبة وتركيبه في مقدمة السيارة وعلى جوانبها وفي مؤخرتها.

حقق عمر أمنياته بإعادة السيارة إلى العمل مجددا وجرت على الأرض كما كانت تجري عام 1958، وعند غروب الشمس وقفت السيارة مبتهجة بحياتها الجديدة على قارعة الطريق، مؤكدة بعودتها الجديدة أن من جدّ وجد، ومن سار على الدرب وصل، وأن الإنسان الذي تمثّل في عمر يمكنه تحويل المستحيل وهي عملية تصليح السيارة الهالكة إلى حقيقة يراها الناس مُشاهدة على أرض الواقع.