صاحب الطباعة.. المجهول مخترع أهم آلة عرفها التاريخ

رجل غامض الحياة، لا يكاد يُعرف متى ولد ولا متى مات، ولا أثر له ولا رسائل ولا تواقيع، حتى إن اختراعه الذي أدخله التاريخ من أوسع أبوابه غير مُثْبت له بالقطع، فلا يوجد شيء يشهد على ذلك حقا، إنه الرجل الذي غيّر مجرى التاريخ إلى الأبد في أواخر العصور الوسطى، إنه إدريس العصر مخترع آلة الطباعة يوهان غوتنبرغ (Johannes Gutenberg) التي مهدت لاختراع المطبعة.

هذه الحلقات الفارغة من تاريخ الرجل أدت إلى ظهور الكثير من التخمينات والتحليلات والدراسات حوله، فما هي إذن القصة الحقيقية، وما الدور الذي لعبه الرجل فيها، وكيف ظهر اختراعه العظيم؟

نستعرض فيما يلي الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “صاحب الطابعة” ويبحث في شخصية غوتنبرغ والصعوبات والعراقيل الاقتصادية والقانونية التي صاحبت ميلاد اختراعه الأعظم، وما رافق ذلك من معاناة إنسانية على المستوى الشخصي.

المنعرجات الأولى

تشير أقدم المعلومات الموجودة عن طفولة غوتنبرغ إلى مدينة ماينتس (Mainz) الواقعة تحت عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة آنذاك (ألمانيا حاليا)، حيث يقول المؤرخون إنه ولد بها قرابة العام 1400، فقد كان والده “فيل فون غنزفلايش” أرستقراطيا يعيش في المدينة منذ عام 1372، وفي أحضان عائلته الثرية ذات السلطة عاش يوهان سنوات حياته الأولى، ولم تزل الحياة مرحة ناعمة حتى تغيرت الأمور فجأة في عام 1429 حين اندلعت ثورة نقابية قادتها نقابتا الحرفيين والتجار، مما دفع العائلات الأرستقراطية ومنها آل غوتنبرغ إلى الفرار بجلودهم.

في أحضان عائلته الثرية ذات السلطة عاش يوهان سنوات حياته الأولى في ستراسبورغ
في أحضان عائلته الثرية ذات السلطة عاش يوهان سنوات حياته الأولى في ستراسبورغ

يقول المؤرخ يوهان فوسل من جامعة ماينتس: تنتمي عائلة غوتنبرغ إلى الطبقة الثرية، لذا نفترض أن ابنها يوهان تلقى تعليما جيدا، وهذا ما يثبت صحة كل شيء حققه لاحقا في الحياة، وربما أُرسل إلى الدَّيْر أيضا، ولكن ليست لدينا أدلة دامغة تثبت ذلك.

غادر يوهان ماينتس بعد تلك الأحداث واختفى عن الأنظار، ويحتمل أنه ذهب إلى مكان يحتمي فيه من الفوضى المحتدمة على طول الإمبراطورية الرومانية المقدسة وعرضها.

تجارة الحج

يقوم الآلاف من الأوروبيين كل سبعة أعوام بالحج إلى مدينة آخن الواقعة في ألمانيا حاليا، وكل منهم يرغب في العودة بمرآة رمزية التطاريز مشبعة بالروح الدينية المسيحية، باعتبارها قطعة أثرية ذات علاقة بالسيد المسيح والسيدة مريم ويوحنا المعمدان وآثارهم المعروضة في كاتدرائية آخن.

قطع من كتاب قواعد دوناتس
قطع من كتاب قواعد دوناتس

لم تكن المرايا التي تباع في مدينة آخن تغطي طلب الحجاج لقلتها، وقد أثار ذلك النقص في العرض مقابل الطلب اهتمام غوتنبرغ، وأراد أن يستغل الحج تجاريا، فلم يكن اهتمامه بالقيمة الدينية للآثار المقدسة، بل القيمة الاقتصادية فقط؛ لذلك قام بعقد شراكة في ستراسبورغ (الواقعة في فرنسا حاليا) مع أندرياس دريتزن وأندرياس هيلمان من أجل العمل على سد النقص الحاصل في بيع المرايا للحجاج.

خطة عبقرية فاشلة

يقول بيير مونيه مدير المعهد الألماني الفرنسي: الشيء المثير للاهتمام بخصوص هذه العملية هو أنها تبين لنا طبيعة شخصيته، ربما توقعنا منه أن يتبع خطا والده، فيقوم بعمل أو تجارة صغيرة، ولكن الأمر لم يكن كذلك، ففي ستراسبورغ قرر غوتنبرغ الاستفادة من تدفق البضائع والناس وتداول السلع ورؤوس الأموال، لقد شعر بأن هناك أموالا يمكن كسبها في القرن الخامس عشر، وكان متأكدا من وجود منتجات جديدة يمكن تطويرها.

تم طبع هذا العدد الكبير من الكتاب المقدس في نسخ بلغت 1286 صفحة مقسومة إلى عمودين
تم طبع هذا العدد الكبير من الكتاب المقدس في نسخ بلغت 1286 صفحة مقسومة إلى عمودين

كان غوتنبرغ مبدعا، وكانت طريقة تفكيره مختلفة، لذا فقد وجد بعبقريته التجارية طريقة ذكية لصناعة المرايا أسرع وأقل كلفة من غيرها، لكن على عكس المتوقع لم يتم الحج إلى آخن في السنة التالية، بل تأجل إلى السنة التي تليها، مما أدى إلى فشل الخطة المطروحة والاضطرار إلى تأجيل بيع مخزون المرايا إلى العام القادم.

كان غوتنبرغ يتهرب من شركائه بسبب هذا الفشل الخارج عن إرادته، لكنهم استطاعوا إيجاده أخيرا وطالبوه بتفسير الأمر، إلا أن غوتنبرغ استطاع إرضاء شريكيه وإقناعهما مرة أخرى بالانخراط في مشروع تجاري آخر، قاموا بموجبه بإبرام اتفاق جديد بالغ السرية.

الطاعون

كان اتفاق غوتنبرغ مع شركائه بالغ السرية يمنع تسريب معلومات لأي أشخاص آخرين حوله، كما يمنع توريث الشراكة فيه لأهل أحد الشركاء في حال وفاته، وإنما يُكتفى بدفع مبلغ من المال لهم.

لكن الطاعون الذي ضرب مدينة ستراسبورغ أفسد سرية العملية، حيث سقط أحد شركاء غوتنبرغ في الطاعون وطالب أخواه المحكمة بإشراكهما نيابة عن أخيهما الراحل، وهناك في المحكمة سأل القاضي غوتنبرغ عن الأمر لكنه لم يبح بشيء عن المشروع، وكذلك لم يبح أحد من أعوانه بأي شيء عن الأنشطة التي تدعمها هذه الشراكة، ربما لأنهم لا يريدون الإفصاح عن أي أسرار بشأن عملية التصنيع.

غوتنبرغ استخدام نوعا بدائيا من القوالب كان موجودا في ألمانيا آنذاك
غوتنبرغ استخدام نوعا بدائيا من القوالب كان موجودا في ألمانيا آنذاك

لكن المثير في الأمر أن هذه المحاكمة التي وجدها المؤرخ يوهان دانيال في السجلات الرسمية، والتي تبدو مجرد محاكمة تهدف إلى حل نزاع قانوني وتجاري عادي نوعا ما، تأخذنا إلى صفقة مالية قد تكون وراء اختراع آلة الطباعة، خصوصا أن بعض الشهود كانوا يتحدثون عن تركيب قطع وأجزاء صغيرة وتفكيكها حتى لا يعلم أحد حقيقتها؛ وهذا ما يدل على أن غوتنبرغ كان في مرحلة متقدمة من التصنيع، إلا أنه لا توجد وثائق تثبت ذلك.

يقول المؤرخ جورج بيشوف: كان يجب إحاطة هذه الطابعة أو المطابع بالصمت، وذلك لأنها كانت مختلفة عن الطباعة العادية.

ميلاد جديد

عاد يوهان غوتنبرغ إلى مسقط رأسه مرة أخرى، وتظهر السندات التوثيقية للقروض التي تعاقد عليها أنه عاد إليها وقابل رجلا ثريا ذا نفوذ وشخصية بارزة في عصر الرأسمالية الوليدة ويدعى يوهان فوست، وقد قام بإقناعه بمنحه قرضا يبلغ 800 جيلدر، وهو مبلغ ضخم يمكنه شراء أربعة أو خمسة منازل ضخمة في ذلك العصر، لكنه رفض أن يكون شريكا في المشروع بل منحه المال على أنه قرض بفائدة لا أكثر، سواء أكان المال على قدر كلفة المشروع أم أكثر أم أقل.

يقول بيير مونيه مدير المعهد الألماني الفرنسي: عاش غوتنبرغ في عالم كانت المشاريع التجارية تعني له الكثير، بعبارة أخرى إن كانت لدى شخص ما فكرة أو ابتكار فيمكنه الحصول على المال لدعمه.

غوتنبرغ قام بالمزج بين عدة تقنيات كانت مستخدمة في عصره
غوتنبرغ قام بالمزج بين عدة تقنيات كانت مستخدمة في عصره

وبعد أن حصل غوتنبرغ على الأموال الكافية لتمويل مشروعه نهضت المغامرة مرة أخرى، وفي السنوات التالية ما بين 1450 و1454 بدأت تؤتي ثمارها، حيث ظهرت مجموعة من النصوص المطبوعة لا تزال بعض أجزائها الصغيرة محفوظة في متحف غوتنبرغ، ومن بينها قطع من كتاب قواعد دوناتس.

تقول كورنيلا شنايدر أمينة متحف غوتنبرغ: هذه القطع الأربع المحفوظة هنا في متحف غوتنبرغ ثمينة لأنها قطع من أحد الكتب الأولى التي تمكن غوتنبرغ من إنهاء طباعتها ومن ثم بيعها، حيث كانت مطلوبة جدا في ذلك الوقت، لأنها كانت الكتاب الوحيد المتاح لتعلم اللغة اللاتينية.

كيف فعلها؟

يقوم العلماء حديثا بمحاولات لتسليط الضوء على التقنيات المتعددة التي استخدمها غوتنبرغ في اختراعه، ويذهب العلماء إلى أنه قام بالمزج بين عدة تقنيات كانت مستخدمة في عصره، لينتج منها في النهاية اختراع الطباعة في شكلها الذي برز للعالم، لكن لا إثبات قطعيا على كل ذلك، وإنما هو قائم على النظريات والدراسات التحليلية.

يقول د. أوليفر ديلويون وهو دكتور في تاريخ الخط: لم يترك لنا غوتنبرغ دليلا أو تعليمات عن أسلوبه، لذا فإن خيارنا الوحيد هو التنقيب في الكتب نفسها لدراسة أي أخطاء مطبعية حدثت أثناء عملية الطباعة، ومحاولة تفسير الدلالات المختلفة لتلك الأخطاء.

جمع غوتنبرغ بين آلات الطباعة نفسها والورق والحبر وأدوات التثقيب ونماذج خطوط الطباعة
جمع غوتنبرغ بين آلات الطباعة نفسها والورق والحبر وأدوات التثقيب ونماذج خطوط الطباعة

توصل د. ديلويون إلى أن غوتنبرغ استخدام نوعا بدائيا من القوالب كان موجودا في ألمانيا آنذاك، وهو عبارة عن قالب خشبي مكون من قطعتين يُسكَب خليط مذاب من الرصاص والقصدير بينهما لتكوين قالب صلب على شكل حرف، وذلك من خلال أداة أخرى توضع تحت القالب الخشبي مثقوبة ثقبا على شكل حرف، ويمكن من خلال القالب الخشبي والأداة التي توضع تحته التحكم في حجم الحرف الذي يريد صناعته، وبهذا استطاع غوتنبرغ صناعة سبيكة معدنية ناعمة تستطيع الضغط على الورق من أجل طباعة الحرف المقصود عليها دون أن تثقب الورقة.

آلاف الحروف

بعد عملية السكب تبدأ الأعمال اليدوية المتعلقة بتنعيم السبائك وغير ذلك، وقد كان العامل الواحد أيام غوتنبرغ قادرا على صناعة عشرة سبائك حرفية خلال ساعة، لكن كانت الحاجة أكبر من ذلك بكثير، إذ إن الصفحة الواحدة قد تحتاج إلى عدة نسخ من نفس الحرف من أجل طباعتها، فالطابعة إذن تحتاج إلى آلاف الحروف ذات الأحجام المختلفة في نفس الوقت حتى تكون هذه الطريقة فعالة، ثم توضع الحروف معا في صفوف متراصة من أجل تشكيل الجُمل.

الكتاب المقدس تحفة فنية رائعة أصبحت من روائع فجر الطباعة
الكتاب المقدس تحفة فنية رائعة أصبحت من روائع فجر الطباعة

يقول أوليفر ديلويون: فيما يتعلق بالحروف والفراغات التي اختلفت أحجامها، كان لديه نفس الحرف متاحا بأحجام مختلفة، مما يعني أن بإمكانه تجميع مجموعات من شأنها أن تشغل مساحة كبيرة أو صغيرة حسب رغبته، فالهدف العام هو الحصول على خطوط متساوية الطول، سهلة القراءة قدر الإمكان، فجودة الطباعة وتكوين الصفحات الجيد يجعلان القراءة المستمرة أمرا سهلا للغاية.

الطابعة.. وليدة التنوع

لم يترك يوهان غوتنبرغ أي تفسيرات لاختراعه، لكنه بالتأكيد قام بالمزج بين الكثير من الاختراعات المختلفة في عصره، ومواءمتها خلال فريق عمل واحد، لذلك فإن فهم الطريقة التي صنع بها الطابعة يستوجب العودة إلى طريقة صناعة الآلات والتقنيات المستخدمة إبان القرون الوسطى، مثل مكابس صنع الشراب وصنع الورق، وهذه الأخيرة أقرب إلى المنطق أن تكون رفيقة غوتنبرغ في اختراعه.

خلال فترة تتراوح ما بين 12 و15 سنة من حياته كان يناضل من أجل تجميع سلسلة من التقنيات من مجالات مختلفة جدا، فقد جمع بين آلات الطباعة نفسها والورق والحبر وأدوات التثقيب ونماذج خطوط الطباعة، ثم جعلها تعمل معا في النهاية، وتمكن من إنتاج كتاب باستخدام هذه الآلة التي أنتجها من كل تلك المجالات.

الانطلاقة الكبرى

في أكتوبر/تشرين الأول عام 1454 كان المعرض التجاري الكبير في فرانكفورت في ذروته، وكان من أهم الأسواق في الإمبراطورية المقدسة بكاملها، حيث تجتمع في أحضانه جميع السلع والبضائع والأدوات من جميع أنحاء أوروبا، كما يحتشد فيه الكثير من الزوار القادمين من بيئات ومناطق مختلفة، ومنهم غوتنبرغ الذي جاء لعرض بضاعته المطبوعة، وكان من بين الزوار أيضا الأسقف “إينيا سيلفيو بيكولوميني” أسقف سيينا الذي أصبح فيما بعد البابا بيوس الثاني.

الجودة التي ظهر بها الكتاب المقدس كانت نتيجة للتطوير الذي شهدته آلة الطباعة
الجودة التي ظهر بها الكتاب المقدس كانت نتيجة للتطوير الذي شهدته آلة الطباعة

كان الأسقف بيكولوميني رجلا رحالة مؤرخا مثقفا مهتما بكل ما هو جديد في وقته، وما رآه في المعرض هذا العام هو أول نسخة مطبوعة للكتاب المقدس في العالم، وقد شرح له غوتنبرغ أنها نسخة كاملة للإنجيل مطبوعة بواسطة الحبر لا الريشة طبعت على نفس مستوى التوحيد والوضوح والأناقة من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، وقد كان الأسقف منبهرا بما رأى، حتى إنه كتب عنه لصديقه الكاردينال الإسباني خوان كارفاخال.

يقول بيكولوميني في رسالته: لقد كانت الكتابة دقيقة جدا وواضحة وخالية من الأخطاء، يمكنكم أن تقرؤوها بسهولة ومن دون عدسات.

النجاح التجاري الضخم

حققت طبعة الإنجيل نجاحا تجاريا ضخما، حيث بيعت منه قرابة 180 نسخة، وهو رقم ضخم في ذلك الوقت، إذ إن المخطوطات كانت لا تكاد تنسخ إلا عشرات المرات فقط في ذلك الوقت، بينما تم طبع هذا العدد الكبير من الكتاب في نسخ بلغت 1286 صفحة مقسومة إلى عمودين، يحمل كل منهما 42 سطرا.

إذن فقد كان غوتنبرغ قادرا على تطوير أداته إلى درجة تمكنه من نشر كتاب ثمين وضخم كالكتاب المقدس في تحفة فنية رائعة أصبحت من روائع فجر الطباعة، وهو الآن من أغلى الكتب في العالم، حيث يمكن بيعه كاملا مقابل 20 مليون دولار.

طبعة الإنجيل حققت نجاحا تجاريا ضخما، حيث بيعت منه قرابة 180 نسخة
طبعة الإنجيل حققت نجاحا تجاريا ضخما، حيث بيعت منه قرابة 180 نسخة

لا شك في أن هذه الجودة التي ظهر بها الكتاب المقدس كانت نتيجة للتطوير الذي شهدته آلة الطباعة في الفترة التي بين طبع الكتابين، حيث تم تطوير الحروف كما يبدو لتطبع بشكل أكثر جودة واحترافية وجمالا، وهو ما يعني أن قوالب الحروف أُعيد تصميمها بالكامل، وهو تطور يُرجع المختصون الفضل فيه إلى رجل ثالث في المعادلة هو بيتر شوفر، وهو خطاط كان يعمل في باريس، ثم التحق بفريق الطباعة مع غوتنبرغ، إذن فهذه التحفة الفريدة بحسب المختصين كانت عملا ثلاثيا مشتركا بين غوتنبرغ وفوست وشوبر.

المحكمة مرة أخرى

لم تستمر فرحة غوتنبرغ بنجاحه التجاري طويلا، فلقد تم رفع دعوى قضائية عليه من قبل شريكه يوهان فوست، وأرسل غوتنبرغ بعض الأصدقاء لتمثيله في المحكمة، تجنبا -ربما- لمواجهة شريكه أمام القضاء.

وتُظهر الوثيقة الوحيدة الموجودة عن المحاكمة أن غوتنبرغ كان هو المسؤول عن المحاسبة في شراكته مع فوست، حيث كان يتولى شراء الأدوات ودفع رواتب العمال، ولكن يبدو أنه اكتشف أثناء العمل أن عملية الإنتاج ضخمة ومكلفة جدا أكثر مما كانوا يتوقعون، حيث تزايدت النفقات وأصبحت الشراكة تقبع تحت عجز مالي صعب، ويبدو ذلك جليا في الكتاب، إذ إنه قام بزيادة الأسطر في وسط الكتاب من 40 سطرا في كل صفحة إلى 42 اقتصادا في التكاليف.

يقول المؤرخ غاي بيتشل: كان غوتنبرغ يفعل أشياء لم تكن تفعل من قبل، لم يكن يعلم مقدار التكلفة التي تتطلبها العملية، ولا مقدار الوقت التي ستستغرقه لتنجح، ولا عدد الحروف التي ستنكسر، ولا مقدار الرصاص الذي سيحتاجه، فهناك كما هو الحال في أي تجارة أخرى نفقات إضافية قد لا تكون في الحسبان.

كانت النتيجة الحتمية للنزاع الذي عجز الشريكان غوتنبرغ وفوست عن حله وديا هو فض الشراكة، فاستقل كل من الرجلين بطابعة من الطابعتين اللتين كانتا مشتركتين بينهما، ثم بدآ العمل منفصلين بعد أن تم رفع قيود الشراكة الملزمة، ليستخدم كل منهما الأداة الجديدة على طريقته الخاصة وفق منظوره الخاص.

تحفة فوست الكاسدة

اتخذ يوهان فوست من بيتر شوفر شريكا له في مشروع جديد ضخم، حيث قاما معا بطبع تحفة فنية استثنائية من مزامير داود باللغة اللاتينية تعرف باسم “مزامير ماينتس”، وقد استخدم فيها فوست وشوفر أساليب وألوانا جديدة جعلتها تضاهي جميع المخطوطات روعة وجمالا، ولم تبق من تلك التحفة الفنية البديعة إلا نسخة واحدة في المكتبة الوطنية في فيينا.

تقول جوانا راتشينغر مديرة مكتبة النمسا الوطنية: إحدى السمات المميزة لهذا الكتاب أنه ولأول مرة تم استخدام عملية خاصة لطباعة النص بثلاثة ألوان مختلفة هي الأسود والأحمر والأزرق، وكان ذلك إنجازا فنيا ضخما. وأما السمة الثانية المميزة فهي ظهور ختم الناشر في نهاية الكتاب، حيث يقول إن العمل قد طبع في مطبعة يوهان فوست وبيتر شوفر.

لأول مرة تم استخدام عملية خاصة لطباعة النص بثلاثة ألوان مختلفة هي الأسود والأحمر والأزرق
لأول مرة تم استخدام عملية خاصة لطباعة النص بثلاثة ألوان مختلفة هي الأسود والأحمر والأزرق

ومع ذلك فإن هذا الكتاب الفخم الباهظ الثمن لم يكن ناجحا، بل بقي معروضا للنشر مدة 13 عاما، لكن أهم ما في المزامير هو تجلي رؤية فوست لفن الطباعة، حيث كان يرى أن التقنية الجديدة يجب أن تنسخ التقنيات القديمة في فن الكتابة، فقام بتطريز تحفته عن طريق مجموعة من الحرفيين البارعين الذين قاموا بمحاكاة تلك المخطوطات بطريقة آلية رائعة.

رسائل الغفران

بعد أن انفصل غوتنبرغ عن شريكه فوست عاد إلى ممارسة هوايته القديمة، وهي استهداف الأسواق الثانوية ذات الإنتاج السريع الضخم والرخيص في نفس الوقت، فقام بطباعة عدة أعمال منها رسائل الغفران للكنيسة، وهي عبارة عن رسائل أو وثائق تمنحها الكنيسة للمؤمنين من أجل تطهيرهم من خطاياهم عبر أداء عمل صالح أو تعويض مادي للكنيسة متى ما فرغت خزينتها.

يقول ستيفان فوسل من جامعة ماينتس: كانت نصوص الغفران أول النصوص الرسمية التي تم طبعها بأعداد ضخمة وبجهد ضئيل للغاية، كل ما كان على الطابع فعله هو وضع صفحة واحدة ثم تشغيل الآلة الطابعة، كانت صفقة جيدة جدا للطابعين حتى بداية العصر الرقمي.

ديمقراطية المعرفة

لم يتم العثور على أي منشورات من مطبعة غوتنبرغ في ماينتس بعد العام 1461، فقد أصبح غوتنبرغ دون شك كهلا مسنا عاجزا عن العمل، لكنه من المرجح أنه قام بتعليم سر مهنته للآخرين مقابل المال، فلم يعد الإبقاء على سريتها ضروريا، ولعل ذلك ما يفسر انتشار المطابع خلال العقود الخمسة الموالية في عشرات المدائن الكبرى في أوروبا، وهي الحركة التي أنتجت ما يربو على عشرين مليون كتاب خلال خمسين سنة تقريبا من اختراع غوتنبرغ للطباعة الآلية.

أتاح اختراع غوتنبرغ للعالم حينها أن يصل إلى جميع الكتب والمعارف الإنسانية القديمة من الحضارة اللاتينية واليونانية، مما أدى إلى نهضة علمية أوروبية كبرى غيرت وجه العالم في العصور الوسطى ومهدت لظهور النهضة التي يعيشها العالم اليوم، كما أدى إلى ظهور الإصلاحات الدينية في الكنيسة، وذلك بعد أن أصبحت الكتب المقدسة متاحة للجميع بجميع اللغات المحلية في أوروبا، مما أتاح للتفسيرات المختلفة لتلك الكتب أن تظهر وتحدث تغييرا في مجال الدين.

خاتمة غوتنبرغ

لا تزال خاتمة يوهان غوتنبرغ محل نقاش بين المؤرخين، فلا يعلم على سبيل القطع إلى حد الآن هل تمتع الرجل بالشهرة والثروة المستحقتين له مقابل اختراعه العظيم الذي أحدث تغييرا كبيرا في تاريخ البشرية، أم أخذته آلة النسيان المجحف فمات فقيرا؟

آخر ما وجدناه عن غوتنبرغ أنه قد تلقى في يناير/كانون الثاني عام 1465 خطابا من الأسقف أدولف فون ناساو رئيس أساقفة ماينتس يمنحه فيه -كخادم للكنيسة- عطاء سنويا مقدما من طرف الكنيسة يتضمن إشباع بعض الحاجات المعيشية كالقمح والنبيذ.

ولكن على أي حال فإن الرجل سواء أمات ثريا أم فقيرا لم يشهد نجاح اختراعه الكبير الذي حققه، فحين فارق الحياة عام 1468 كانت آلات الطباعة قد بدأت لتوها في مسيرة تغيير العالم.