“عالم النانو”.. أساليب الكائنات الحية في التكيف مع الكوكب

خاص-الوثائقية

النانو أو تقنية الجزيئات متناهية الصغر، هو ذلك العلم الذي يهتم بدراسة معالجة المادة على المقياس الذري والجزيئي، فمنذ أن نشأت الأرض لم تتوقف الطبيعة عن التطور، وكان على الكائنات الحية التكيف مع الظروف المتغيرة، لكي تضمن الاستمرارية.

هذا التطور المذهل على مستوى النانو لا تدركه العين المجردة، وهو مصدر مهم لمعرفة يحيط بنا من التغيرات كظاهرة الاحتباس الحراري ونقص الموارد وغيرها، وهذا يجعلنا نلجأ للطبيعة ودراسة الكائنات الحية، فالطبيعة تتمتع ببنى نانوية متطورة قد نستلهم منها لبناء مستقبل خلاق، أو نعرف لماذا تفضل الطبيعة حلولا بعينها.

في هذا الفيلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية بعنوان “عالم النانو.. مفتاح بقائنا”، نتعرف على الجهود التي يقوم بها عالمان خلال عملهما في جبال البرانس الأوروبية، في مهمة لجمع أنواع من الكائنات الحية ودراسة بنيتها النانوية، وهما الفيزيائي والخبير في البنى النانوية “سيرج بيرتييه”، والكيميائي المهتم بالإلهام البيولوجي “بيرند شولهون”، وسيطلعاننا على هذا العالم المعقد والمذهل فوق قمة السلاسل الجبلية.

 

تطور الكائنات الحية للتكيف.. حلول الطبيعة

يقول الفيزيائي “سيرج بيرتييه: لا يمكن تخيل العالم النانوي، فالنانو عبارة عن جزء من مليار جزء من المتر.

تبدأ الحياة على المستوى النانوي، حيث يبلغ حجم الجزء الواحد نانومتر، وعلى هذا الأساس تكتسب الجزيئات خصائصها، وتزود البنى النانوية البيولوجية الجزيئات العضوية للكائنات الحية بكثير من الخصائص الضرورية للبقاء، فتعطيها ألوانها والقدرة على شم الروائح والزحف على الأرض، كما هو حال الأفاعي.

يقول الكيمائي “بيرند شولهون”: لقد أدركنا أن كل ما يبدو لنا واضحا في الأسماك والطيور والنباتات والفراشات وغيرها؛ موجود بسبب أن الطبيعة مبنية على هذا المستوى بطريقة فعالة واقتصادية، فقبل قرنين اكتشفنا الحيوانات بأكملها واليوم نكتشف الطبيعة، باختصار لأننا غيرنا المقياس، لقد أصبحت لدينا الوسائل التكنولوجية لإعادة تقييم العالم على المستوى النانوي.

يكشف هذا العلم المتطور عالَما نانويا مخفيا عن العين المجردة، ومنظما بشكل مختلف عن عالمنا التقني، لقد طورت الطبيعة حلولا فعالة ومتعددة الوظائف ومعقدة، تتيح للكائنات الحية التكيف المستمر مع بيئتها والتأقلم الطبيعي مع العناصر الأربعة: التراب والماء والنار والهواء.

تتمتع الأفاعي بالقدرة على الحركة أثناء زحفها، فبالارتكاز على أطراف ذيولها يمكن أن تطلق أجسادها في أجزاء من الثانية

 

حركة الزواحف.. صراع الأجساد ضد خشونة الأرض

على اليابسة يكون الاحتكاك مع الأرض قاسيا، فبعض الأراضي تكون انسيابية، وبعضها الآخر يكون منحدرا ووعرا أو غائصا عند المشي، فكيف تأقلمت الزواحف مع هذه الأوضاع المتنوعة؟

تتمتع الأفاعي بالقدرة على الحركة أثناء زحفها، فبالارتكاز على أطراف ذيولها يمكن أن تطلق أجسادها في أجزاء من الثانية، لكن كيف يمكنها الزحف على التربة الخشنة التي قد تتسبب بقشط حراشفها.

عند لمس أفعى السوط الأخضر يبدو ملمسها ناعما للغاية، رغم أنها مغطاة بنسيج من الأشواك، لكنها أشواك نانوية، وعندما تكون بالحجم المناسب يظهر تغير بسيط في اللون بسبب البنى النانوية، وهو اللون القزحي.

يقول “بيرتييه”: كل الأشواك سليمة وذلك لأنها مكونة من مادة طرية تدعى الكايتين، وهذه ميزة عبقرية، ومع وجود أشواك كهذه يوجد أثر للكهرباء الساكنة يحدث على الأطراف، أي أنها مشحونة كهربائيا، والمواد كالرمل مشحونة هي الأخرى، ويحدث تنافر يتيح للأفعى الحركة، وهذا يعني أنها تطفو تقريبا على السطح، لكونها لا تكاد تلامس الرمل.

يمتلك الحلزون ميزة مقاومة للصدمات، فهذا الكائن الصغير الرخوي يمتلك صدفة تعتبر تحفة تكنولوجية، وهي عبارة عن سيراميك مكون من معدن الأروغنايت، ويمكنه بناء صدفته بدرجة حرارة الغرفة، بينما يحتاج البشر لدرجة حرارة مرتفعة جدا لصنع الشيء ذاته.

يرص الأروغنايت في بلاطات صغيرة متجاورة وفي طبقات متعددة، وحين تتعرض الصدفة لصدمة ما تبقى البلاطات ملتصقة ببعضها، بواسطة بروتينات تلحمها مع بعضها بطريقة مرنة، وبالتالي تتزحلق البلاطات فوق بعضها بشكل جانبي وتمتص الطاقة، مانعة موجة الاصطدام من الولوج عميقا داخل الصدفة، مشكلة بذلك حماية لجسم الحلزون.

تتكون عين النحلة من ألف وحدة منفردة يملك كل منها مستقبلا ضوئيا معينا، يرى كل منها ألوانا معينة من الطيف

 

ألوان نيوتن.. ميزان أبصار الكائنات الحية

توجد بنى نانوية لا ترى بالعين المجردة، لكن في المقابل هناك أخرى مكشوفة بشكل ملون بفضل أشعة الشمس وانعكاس الضوء، لكن هل ترى الكائنات الحية المختلفة الألوان بالطريقة ذاتها؟

يقول “بيرتييه”: يمكننا تحليل أشعة الشمس، فإذا أخذنا جسما يشتت أشعة الشمس، فما نراه هو الجزء المنظور من الطيف الشمسي، لكن الطيف الشمسي أوسع من هذا، فهناك الأشعة الحمراء والأشعة فوق البنفسجية، وهنا تمكن مشاهدة ألوان نيوتن؛ البنفسجي والأزرق والنيلي والأخضر والأصفر والبرتقالي والأحمر، وهذه الألوان يمكن أن نشاهدها نحن البشر.

أما الكائنات الأخرى فتمتلك عيونا وأجهزة بصرية مختلفة، وبالتالي تكون رؤيتها مختلفة، فالأفاعي ترى أكثر بكثير في طيف الأشعة تحت الحمراء، وبعض الكائنات بصرها ضعيف للغاية، وتبصر الطيور والحشرات القليل من موجات الأحمر، في حين تبصر بشكل أفضل موجات ألوان الأزرق والبنفسجي وفوق البنفسجي.

بيفرلي غلوفز عالمة النباتات بجامعة كامبردج

 

إنتاج التقزح اللوني.. خدعة الأزهار لجذب الحيوانات الملقحة

تقوم مديرة حديقة جامعة كامبريدج البروفيسورة “بيفرلي غلومز” بدراسة الاستراتيجيات التي طورتها الأزهار لاستغلال مساعدة النحل والحشرات. تقول بيفرلي: يقوم بحثي حول الكيفية التي تقوم بها الأزهار لجذب أنواع الحيوانات الملقحة، وكيف تتحول فيها زهرة أولية إلى أربعمائة ألف نوع مختلف، ويجذب كل نوع حشرات مختلفة من الفراش والنحل والذباب والطيور، معتمدة على تنوع ألوانها وأشكالها وأنماطها.

تستخدم النباتات بنيتين نانويتين لإنتاج التقزح اللوني، تدعى الأولى منهما بـ”محزوز الحيود”، وهي عبارة عن مجموعة من الحواف المتباعدة بشكل منتظم، وتتداخل مع الضوء وتنتج التقزح اللوني، ويوجد هذا في بتلات الأزهار.

أما النوع الثاني فهو متعدد الطبقات، ويتكون من جدران الخلايا التي تباعد بينها فجوات هوائية، وتوجد في الثمار والأوراق، وينتج التقزح اللوني بسبب الطيات وتجعد البشرة، والتقزح اللوني مرئي للنحلة بسبب تمتعها بطيف بصري خاص يقوم على هندسة طبيعية معقدة يمكنها من إيجاد الأزهار بسرعة أكبر.

تقول “غلومز”: يرى النحل بواسطة مستقبلات ضوئية في عيونه، فعين النحلة مكونة من ألف وحدة منفردة يملك كل منها مستقبلا ضوئيا معينا، بعضها يرى اللون الأزرق، وبعضها يرى الأشعة فوق البنفسجية، وهكذا يستقبل دماغها إشارات لترى صورة كاملة.

أجنحة اليعاسب شفافة بسبب وجود هيكل نانوي يمنع انعكاس الضوء على جانبي الجناح

 

تعزيز لون الأجنحة.. زينة الحشرات لجذب الشريك

قام فريق “بيفرلي” بتصنيع أزهار تحاكي مؤثرات التقزح اللوني للبنى النانوية الحية، وبعد ذلك قاموا برصد المدة الزمنية التي تستغرقها النحلة في رصد الأزهار، وكانت سريعة جدا في رصد الضوء المتقزح.

تستخدم الحشرات مقترنات الأجنحة -التي تشبه اليعاسب- ظاهرة التقزح اللوني لتعزز لون أجنحتها، من أجل جذب الشريك وتسهيل عملية التزاوج، ولديها شعيرات نانوية تمكنها من الالتصاق ببعضها، وتمتلك مقترنات الأجنحة واليعاسب أجنحة شفافة مكونة من غشاء رقيق، وإذا أراد الاختفاء في محيطه تجنب انعكاس الضوء.

وتكون أجنحة اليعاسب شفافة بسبب هيكل نانوي يمنع انعكاس الضوء على جانبي الجناح، فغشاء الجناح مغطى بغطاء شوكي فوضوي، ويبلغ طول الأشواك 100 نانومتر، وحين يسقط الضوء على الغطاء يدخل تدريجيا، ليقلل الانعكاس ويجعل جناح اليعسوب شفافا، مما يتيح له أن لا يكون مرئيا لدى المفترسات كالضفادع والطيور والزواحف.

جلد الأفعى وعلاقة أجزائه النانوية بالأرض وبحركته فوقها

 

شراكة الكائنات الحية.. إلهام الدورة الاقتصادية المعاصرة

طورت الأفاعي واليعاسب والأزهار بنى نانوية ذكية باستخدام القليل من الطاقة والموارد، وهذا يثبت واحدا من أهم مبادئ الطبيعة، إنها مقتصدة وموفرة.

يقول الخبير “غوتييه شابيل”: تبحث الطبيعة دائما عن مواد على مستوى صغير المقياس النانوي، فهي لا تقوم بتقطيع الصخر، لكن على العكس ستقوم باستخدام مواد أولية، وتشترك الكائنات الحية بطريقة العمل ذاتها، فهي تتيح تطوير شبكة متسقة من التبادل، فكل مادة ينتجها نوع من الكائنات الحية يمكن استخدامها من قبل نوع آخر، وهذا يتيح ظهور هذه الدورة الشهيرة التي تلهم الدورة الاقتصادية اليوم، وتتوافق الكائنات الحية مع بعضها مشكِّلة ميدانا مشتركا يوفر أساسا رائعا من التنوع.

وللأصوات في الطبيعة غاية، فالطيور لا تغرد بلا سبب، وفي المقابل فإن السيارة تصدر أصواتا لكنها غير مصممة لهذا الغرض، يقول “شابيل”: الأصوات في مدننا إهدار للطاقة، في حين أن الأصوات في الطبيعة دائما يكون لها هدف وتصدر بحكمة.

ينتمي فراش الأرغوس إلى فصيلة كبيرة تدعى النحاسية، والطيف الأزرق ميزة تنفرد بها معظم فراشات الأرغوس

 

خلق الألوان الباردة والحارة.. استراتيجية الفراش

يبحث الفيزيائي الخبير في البنى النانوية “سيرج بيرتييه” عن الاستراتيجية التي تتبعها الفراشة لخلق الألوان، فهي لا تستخدم العملية ذاتها في إنتاج الألوان الباردة والحارة. يقول بيرتييه: ينتمي فراش الأرغوس إلى فصيلة كبيرة تدعى النحاسية، والطيف الأزرق ميزة تنفرد بها معظم فراشات الأرغوس، فيتزايد في جناحيها ويكون الحد الأعلى عند الموجات فوق البنفسجية، مما يعني أنها تحمي نفسها من الأشعة فوق البنفسجية، ويكون الحد الأدنى عند اللون الأزرق والأخضر وهو الحد الأعلى لضوء الشمس، واللون الأزرق ليس نتاج صبغات وإنما بفعل عضو معقد داخلها.

هناك بلورات فوتونية تقوم بتشتيت اللون الأزرق في كل الاتجاهات، ثم توجد فوقها طبقة ثانية من مادة فوضوية تشتت اللون الأزرق بشكل أكبر، وتكمن استراتيجيتها ببث اللون الأزرق في كافة الاتجاهات.

إن استراتيجية الطبيعة أهم من إنجازاتنا، لأننا في نهاية المطاف لا نستطيع تصميم جناح فراشة، لكن فهم تعقيد هذا الجناح ومقدار روعته هو ما يتيح للفراشة الكثير من الأمور، وهو متعدد المهام، وكل هذا بفعل أربعة عناصر كيميائية. إن إنتاج الألوان الباردة بفضل بنى نانوية معقدة، أما إنتاج الألوان الحارة فيجري باتباع عمليات لا تقل تعقيدا.

ويضيف “بيرتييه”: في الفراشة ذات اللون الأصفر والأسود صبغات في كل مكان، إذ تقوم اليرقة بتخزين كل ما تأكله بما في ذاك الكثير من السموم، والمكان الأفضل لتخزينها هو الحراشف، وذلك لأنها هي التي تنتج الألوان وهي تساعد على التواصل بين الذكور والإناث أو بين الأنواع، وفي الوقت ذاته بما أن الصبغات سامة فهي تحمي الحشرة من المفترسات، وإذا تناولها طائر فسوف يبصقها ولن يلمسها مرة أخرى، وهذا يحمي الفصيلة كلها.

يتكون جناح الفراشة من عدة طبقات متداخلة يلعب كل منها دورا مختلفا

 

فهم البنى النانوية.. أسرار أنظمة الكائن الحي

تستكشف الخبيرة في الكائنات الحية “سيلفيا فينيوليني” الأنظمة الحيوية مختلفة الاستراتيجيات لإنتاج البنية الفوتونية، وتقول: لكل منها مادته المختلفة التي يختلف مقدار توفرها، وتنتشر بين النبات لإنتاج نوع من السيليلوز في جدران الخلايا، ويجري ترتيبه بشكل هندسي حلزوني. ثمة استراتيجيات أخرى في الأزهار تستخدم بشرتها الخارجية وتتفاعل جدران الخلايا فيما بينها لبناء الهيكل النانوي، أما الثدييات فتستخدم الكولاجين، ويغلب على الحشرات استخدام مادة الكايتين أو الكيراتين أو مزيج بروتيني من كليهما معا.

يعتمد الأمر على النظام الحيوي للكائن الحي، مما يوجد استراتيجيات مختلفة، لكن فهم الآلية الموجودة في كل نظام حي وكيفية تنظيمها يتطلب مجهودا من كافة التخصصات من علماء البيولوجيا الجزيئية إلى علماء المادة والكيميائيين والفيزيائيين، لأن فك أسرار الموضوع معقد ويشكل تحديا.

يقول “بيرند شولهون”: لا بد من تضافر الجهود والتعاون بين العلماء في فهم البنى النانوية، فلا نستطيع فهم الظاهرة ووصفها إلا من خلال وجهات نظر مختلفة.

تنمو أزهار إديلوس على ارتفاع ألفي متر لامتصاص الأشعة وحماية الخلايا الحيوية في المدى الضروري لتكاثرها

 

أزهار إديلوس.. تحدي أشعة الشمس على ارتفاع شاهق

رغم أن الشمس وطاقتها مصدر أساسي لبقاء الكائنات الحية، فإن البقاء تحت أشعتها سيؤدي إلى الإصابة بحروق شمسية خطيرة، ويتمتع الإنسان بصبغة الميلانين في الجلد، كما أنه يستخدم واقيات الشمس، لكن كيف تحمي الحيوانات والنبات نفسها من الأشعة فوق البنفسجية؟ يصحبنا “بيرند شولهون” ومدير مستنبت جبال البرانس “جيرار لارجيه” إلى قمم هذه الجبال بحثا عن زهرة إديلوس.

تتركز الأشعة فوق البنفسجية كلما ارتفعنا، فكل ألف متر من الارتفاع يعني زيادة تركيز الأشعة بنسبة خمسة إلى عشرة بالمئة، فكيف لأزهار إديلوس التي تنمو على ارتفاع ألفي متر امتصاص الأشعة؟ وكيف تحمي الخلايا الحيوية في المدى الضروري لتكاثرها؟ يقول “شولهون”: “وجود أزهار إديلوس على هذا الارتفاع يعني أنها طورت بعض الميزات.

وتتمتع الشعيرات الموجودة على سطح الزهرة بأطراف صغيرة مدببة وموزعة بالتساوي على محيط الشعيرة بأكمله، وتتطابق المسافات بين الأطراف المدببة مع الطول الموجي للأشعة فوق البنفسجية، لذا وبفضل هذا التوزيع الذكي للأطراف يجري امتصاص جزء من الأشعة في حين ينعكس القسم الآخر، ثم يجري توزيع الأشعة وامتصاصها تدريجيا في الشريط.

زهرة جميلة بألوانها لكنها تخفي في أعماقها النانوية تحذيرا للمفترسات

 

تألق الأزهار.. تحذير المفترسات وآليات التخفي

يشكل الاحترار العالمي تهديدا حقيقيا لزهرة إديلوس، إذ من المتوقع أن تزيد درجة الحرارة بعد أربعين عاما درجتين مئويتين، ومن غير المتوقع أن تستطيع أزهار إديلوس التكيف مع هذا التغير، وقد تختفي، لكن هناك أنواع أخرى طورت طرقا لحماية نفسها، فهي تمتص الأشعة بأطوال موجية تتراوح بين 250 إلى 400 نانومتر، ثم تحولها إلى حرارة وضوء مرئي بطاقة منخفضة.

يقول “جيرار لارجيه”: يأتي الضوء من الجزء الداخلي من المادة ليصل إلى الهواء، وفي العلوم البصرية نقول ينتقل من عامل أعلى إلى عامل أدنى، وهنا نشهد ظاهرة انعكاس كامل يمنع الضوء من الخروج. وقد استلهم العلماء من البنى النانوية للحشرة مصباح “أل إي دي” LED)) الثنائي الباعث للضوء.

تتألق بعض الأزهار ونحن نعتقد أنها تجعل ألوانها أكثر إشراقا وبالتالي أكثر جاذبية، لكن قد يكون ذلك أيضا تحذيرا للمفترسات أو آلية للتخفي، وعندما ننظر للبنى النانوية في الطبيعة يكون التعقيد جليا، ولكن هل عدم نظامها الظاهري منظم؟

لا يرى “ديفيد غارسيا” الباحث في تكنولوجيا النانو في جامعة برشلونة ذلك، وهو يصنع أجساما نانوية كالمجسات البصرية المستخدمة في الكاميرات عالية الحساسية التي تصور في الضوء الخافت، ومن خلال عمله في تحليل البنى النانوية في الطبيعة ومحاولة إنتاجها، فوجئ بمدى اضطراب هذه البنى النانوية.

يقول “ديفيد غارسيا”: يكمن اهتمامي العلمي في فهم التعقيد وعدم النظام في هذه الأجهزة، حين نقوم بإنتاج مادة مصنعة، فإننا نميل لتفضيل الأنماط المتماثلة والمنظمة، لذلك نستلهم من الطبيعة، وبهذه الطريقة يمكن أن نتخيل النقص عائقا، ونحاول صنع أجهزة نانوية بالغة الدقة، لكننا اكتشفنا أنه يمكننا استغلال عدم الانتظام في تحقيق بعض الوظائف وتسخيره لصالحنا.

الحدأة الحمراء في جبال البرانس

 

ريش الحدأة الحمراء.. وظائف التدفئة وميكانيكية الطيران

في جبال البرانس يوجد طائر الحدأة الحمراء المهاجر، وهو خير مثال على تعقيد الطبيعة ووظائفها على المستوى النانوي وهو خفيف للغاية يمكن للهواء أن يحمل جسمه بالكامل. تقول “أوريلي دوسين”، منسقة مشروع الحدأة الحمراء في جبال البرانس: تزيد هذه الطيور من ارتفاع تحليقها باستخدام تيارات الهواء الدافئ، مما يتيح لها الطيران دون صرف الكثير من الطاقة، وهي محلقة جيدة بسب أجنحتها الكبيرة، وهذا المكان مثالي لهذه الطيور، ويبلغ امتداد جناحي الحدأة ما بين متر ونصف إلى أكثر بقليل، ويزن الذكر كيلوغراما واحدا والأنثى 1.3 كيلوغرام وهو واحد من أخف الطيور وزنا، وهي تستخدم ذيولها كمقود للتوجيه، مما يجنبها استخدام جناحيها لتغير الاتجاه.

وعلى المستوى النانوي يتكون الريش من مادة “البيتاكيراتين” وهي عبارة عن بروتين ليفي يوجد في الزواحف، ويغلف الكيراتين جزيئات أخرى كالميلانين والميلانوزوم لتشكيل خيوط مرنة وقوية، ويحتوي الريش كذلك على تجاويف هوائية متسعة بالتساوي، مما يشكل شبكة معقدة من الهواء والكيراتين تجعله قادرا على الطيران.

يقول “غوتييه شابيل”: يقوم الريش بوظائف حيوية يمكنها الحفاظ على الدفء، وفي نفس الوقت يقوم بوظائف ميكانيكية تمكنه من الطيران، ويتميز بخصائص فريدة تجعله مقاوما للماء، فتنزلق قطرات المياه فوقه، وهناك وظائف متعلقة باللون، حيث تتواصل الطيور فيما بينها من خلال لونها، وهناك وظائف تعمل كمضادات حيوية.

يستطيع بق الماء الوقوف عل سطح الماء بسبب خاصية التوتر السطحي التي تصنعها مكونات أرجله النانوية المضادة لامتصاص الماء

 

بق الماء المتزحلق.. تقنيات الجمع بين المتضادات

ظهرت أولى الكائنات الحية في الماء، ولكي تتحرك وتتنفس وتشرب قامت بتطوير بناها النانوية من الظاهرة الفيزيائية التي تتشكل من السلوك الكهربائي لجزيئات الماء، ومثال ذلك تتمتع حشرة بق الماء المتزحلق بالقدرة على السير فوق الماء بفضل شعيرات تعنى بعدة وظائف؛ فيمكنها السير على الماء، لكن لا يمكنها الغوص، ومع ذلك فكلاهما يتكون من المادة ذاتها وهي مادة الكايتين، فكيف يمكن استخدام استراتيجيتين مختلفتين من المادة نفسها؟ إنها مسألة كيميائية.

ويتمتع بق الماء المتزحلق بخاصية الصدود المائي، وعكسها خاصية الألفة المائية، وتتمتع بعض الحشرات بقدرتها على الغوص وبالتالي تبتل، مما يجعلها متآلفة مع الماء، أما البقة فحين تضع قدمها على الماء فإن الماء لا يرتفع بالخاصية الشعرية كما يحدث مع المادة الأليفة للماء، بل يصد الماء لأنها مادة صادة لا يدخل الماء إليها وبالكاد تلامس أقدامها.

كما أن وزن البق ضئيل جدا، فيمكن لبعض قطرات الماء أن تغرقه، وهذه مشكلة تواجهه بسبب عدم قدرته على تصريف الماء الذي يتكاثف على شعيراته، لكنه في المقابل يمزج بين خاصيتين هما القدرة على السير فوق الماء، والقدرة على صده، وتجسد شعيراته مثال حقيقيا على تعدد الوظائف.

والأزهار كذلك متعددة الوظائف على الدوام لأنها مضطرة لذلك. تقول البروفيسورة “بيفرلي غلومز”: عليها أن تجذب الحشرات الملقحة، وعليها أن تكون لافتة بالرائحة لتتمكن الملقحات من شمها، وعليها تزويدها بمهبط مناسب، وكذلك توفر خصائص لمسية، وعليها إنتاج مواد ذات مذاق جيد تستخدم مزيجا من كل هذه العوامل وبطرق مختلفة.

بالرغم من تقدم العلم إلا أننا نكتشف كل يوم حقيقة جديدة عن عالم المخلوقات الذي لانهاية له

 

كنوز الحياة.. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

تعد السيليكا المادة الأساسية في إنتاج الزجاج الذي نستخدمه في النوافذ، لكننا نحتاج لدرجات حرارة عالية جدا لإنتاجه قد تصل 1500 درجة مئوية، وبعض أنواعه (الداياتومات) يمكن إنتاجه في المياه الباردة، ويمكننا استخدام الداياتومات كمبيد حشري للحشرات الزاحفة، فلو وضعنا مسحوق الداياتومات على أقدامنا فسيكون بمثابة شظايا الزجاج للحشرات، لذا فلن تقترب إطلاقا، وهذا يشكل حاجزا دون اللجوء إلى المواد الكيميائية.

لقد سلكت الإنسانية مسارا عاد علينا بفوائد كثيرة، فنحن نتمتع بأعمار أطول وطب عالي الكفاءة وتكنولوجيا متطورة، لكنه بني على نموذج لم يعد مستداما، وقد استنفد عمله جيدا، فالبشر كثيرون وسيأتي غيرهم، لكن لا نعلم أين ستنتهي الأمور، لأن الأرض واحدة وعلينا العودة إلى نموذج أقرب إلى الطبيعة، ويتحمل الإنسان مسؤولية انقراض كثير من الكائنات الحية التي اختفت قبل اكتشافها ودراستها، إنه أمر سيء للتوازن البيئي في الطبيعة، لذا علينا العيش بوئام أكبر مع الطبيعة.

أتاحت لنا الرحلة في العالم النانوي التعرف على ثلاثة مبادئ أساسية في الطبيعة هي الكفاءة والتعقيد والتعدد الوظيفي، وهي التي طورتها الكائنات الحية على كوكبنا، وهذه المبادئ جزء من ستة عشر مبدأ ينبغي أن تحكم عالمنا للحفاظ على التوازن بين الكائنات الحية المتنوعة، وما زال في جعبة الطبيعة الكثير من المعرفة لنتعلمه.