“عصر الإنسان”.. حين يدمّر الإنسان الطبيعة

 

قيس قاسم

مرَّت الكرة الأرضية خلال ما يقرب من أربعة إلى خمسة مليارات عام بعصور جيولوجية طويلة غيَّرت من تكوينها وأسهمت في تطور الحياة عليها، وامتازت كلها بطبيعيتها؛ أي دون تدخل الإنسان فيها.

لكن العلماء اليوم يفكرون بإطلاق تسمية جديدة على عصرنا الحالي مقرونة بتدخل الإنسان المباشر في التغيّرات الهائلة التي تجري فيها وبسرعة خيالية، فاقترحوا تسميته بـ”أنثروبوسين”، أي عصر الإنسان.

للتدقيق في المصطلح يشرع الوثائقي الكندي في رحلة بحث وتقصٍّ لأشكال تدخّل الإنسان في الطبيعة ومقارنتها بالعوامل الجيولوجية الطبيعية، حيث زار مخرجوه جينيفر بايتشوويل ونيكولاس دي بينسر وإدوارد بورتينسكي 20 بلدا عاينوا فيها أبرز تجليات تأثير الإنسان في الطبيعة، وكلفوا الممثلة السويدية أليسيا فيكاندير بالتعليق على أهم ما اقترحوا نقله للمُشاهِد بلغة مؤثرة تتناسب وعمق بحثهم البصري الذي نشد مراجعة أغلب مظاهر التدمير البيئي، على عكس وثائقيات أخرى اختصت بجانب واحد منها.

 

فِيلة مُبادة دون عودة

يفتتح الوثائقي مساره بمشهدِ حرقِ حرّاس محمية نيروبي الطبيعية آلافٍ من أنياب فيلة أمبوسيلي تم استردادها بالقوة من لصوص وتُجّار بيع العاج في الأسواق السوداء، ثم يعقبه تعليق لناشطة بيئية تُذكّر بأن هذا الإجراء المُراد به حرمان اللصوص من بيع ما سرقوه، ونقل رسالة رسمية واضحة بأن ثروة كينيا الطبيعية غير قابلة للمبادلة أو للبيع، فإن الفِيلة المُبادة لن تعود ثانية إلى هذا المكان.

يلتزم صُنّاع “أنثروبوسين.. عصر الإنسان” بذلك الأسلوب السردي المعروض في المفتتح، فبعد عرض كل جانب من جوانب تدخّل الإنسان في الطبيعة سيرفقونه بتعليق لأحد العاملين في الحقل الذي تم تصويره، وهي في غالبيتها وجهات نظر تُعبّر عن أنانية وتوافق مصالح شخصية مع الجهات المعتدية على قوانين الطبيعة، وبذلك يقدم الوثائقي صورة واقعية للعوامل التي تُسهم في تدمير كوكبنا، وتساعد على تحوّل عصرنا الجيولوجي بحق إلى “عصر الإنسان” بمعناه السلبي.

يؤدي الاعتداء على الغابات وقتل الحياة البرية فيها أحد عوامل التصحر وتغيير البيئة القسري

 

سيبيريا وإيطاليا والتشيك.. انتزاع أحشاء الجبال

يحلّ الوثائقي في سيبيريا الروسية، حيث يُقام على أرضها واحد من أكبر معامل التعدين في العالم، وبالقرب من معامل مدينة نوريلسك تجري عمليات استخراج الحديد على نطاق واسع، فتآكل التربة وتسرّب النفايات جعلت المدينة من بين أكثر المدن تلوثا، وأضرّت بصحة سكانها وخاصة العاملين في معملها الرئيسي، ومع ذلك فإن حديث بعض العاملات فيه يشي بارتياحهن من وجودهن في المدينة.

وفي الخارج يصور الفيلم احتفالا سنويا يُظهر أطفالا يركبون آلات حفر وقلع عملاقة بدلا من ألعاب الأطفال التقليدية، حيث تصف ناشطة بيئية المدينة بأنها من مصادر فساد هواء روسيا وأكثرها تدميرا للحياة البيئية في سيبيريا، وذلك لضخامة المُستخرج من بطون مناجمها، والتي تقدر بما بين 60 و100 مليار طن سنويا.

منطقة كارارا الإيطالية توصف بأنها منبع استخراج وتصدير المرمر الجيد النوعية للعالم، فالطلب المتزايد عليه سرّع من عمليات تكسير سفوح جبالها، وما كان يؤخذ منها سابقا بالطرق اليدوية البسيطة خلال عشرين يوما صار يؤخذ خلال ساعة واحدة.

في صحراء أتاكاما التشيلية كمية ما يُستخرج من مادة الليثيوم يوميا تعادل ما يُستخرج منها خلال عقود، حيث يفخر بعض المشتغلين بالتنقيب عنه في باطنها الساخن بأنهم يسهمون في ازدهار صناعة البطاريات في العالم.

ينقل الوثائقي صورة لواحد من مستثمري خامتها النفيسة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ معمل “جي أم ليثيوم”، حيث لا يتوقف المعمل دقيقة عن طلب المزيد من خامات تشيلي المعتمد عليها كليا في صناعة بطاريات السيارات. لقد غدت الصحراء وبفعل إرادة بشرية مصدرا لصناعة مواد وأجهزة تُسهم في زيادة حرارة الكوكب، وتهدد بتهشيم غلافه الخارجي.

وتشير الإحصائيات إلى أن الأرض تحتاج ملايين السنين لاستخراج كمية الحديد نفسه المُستخرج من سيبيريا والمرمر من جبال إيطاليا والليثيوم من صحراء تشيلي، وبشروط توفر عوامل بيئية مساعدة شديدة القوة مثل البراكين والهزّات الأرضية، أو بفعل عوامل تعرية طويلة الآجال.

قطع الغابات والاعتداء على المساحات الخضراء يزيد من تلوث الكوكب

 

اقتلاع مدن وغابات

يسكن البشر على مساحة 75٪ من اليابسة غير المغطاة بالثلوج، وخلال زمن قياسي قصير اقتلع الإنسان مدنا وبشرا من الجذور.

يكرس الوثائقي جزءا من وقته لعرض التطور التكنولوجي الهائل الذي وصله الإنسان، ويستخدمه لأغراض ضد نفسه في النهاية، فمكائن الحفر الألمانية مخيفة كما تظهر في مقاطع من الوثائقي وهي تحفر الأنفاق في الجبال الصخرية، وتزيح مساحات كبيرة من الأرض المزروعة، زِنَة الواحدة منها أكثر من 12 ألف طن.

يتوقف الوثائقي عند بعض العوائل المتبقية في مدينة إيمراث الألمانية، وذلك بعد أن هجرها أغلب سكانها نتيجة زحف آلات القلع نحو مواقعهم التي عاشوا فيها قرونا.

تَقلُّص المساحات الخضراء والأرض المخصصة للبشر له عواقبه الوخيمة، ولرصدها ومعرفة حجم تدخل الإنسان في تغييرها يرصد الوثائقي عمليات قلع الأشجار من غابات كولومبيا الكندية، والتي بخسارتها تخسر الأرض تنوعا بيئيا عمره مليارات السنين.

في لاغوس النيجيرية تجري عمليات قطع منتظم للغابات، فالعاملون فيها لا يجدون غضاضة في فعل الشركات المتاجرة بالأخشاب. أحد العوامل التي تدفع الناس للسكوت عن موت غاباتهم هي البطالة، فعدم توفر فرص عمل جيدة يدفع الفقراء لقبول العمل في تلك الشركات.

ويبحث الوثائقي في الأسباب ويجد أن زيادة عدد سكان المدينة كان عاملا في عوز سكانها، فخلال جيلين فقط ارتفع عدد سكان لاغوس من 200 ألف إلى قرابة مليونين. وتعاني البشرية بدورها من المشكلة نفسها، والزيادة المتوقعة خلال العقود الثلاثة القريبة مخيفة، ومن نتائج الزيادة هجرة الفلاحين وترك أراضيهم الزراعية نحو المدن المزدحمة والملوثة.

ويوثق صنّاع الوثائقي حالة الفقر والعوز من خلال اتساع مساحات النفايات التي تعتاش عليها آلاف من العوائل الفقيرة، ففي العاصمة الكينية نيروبي يعيش قرابة ربع مليون إنسان على النفايات يدوّرون ما يصلح تدويره من فضلاتها، ويحصلون مقابل عملهم على دخل بسيط.

وما تخلفه النفايات من كوارث بيئية يصعب حصرها، وهي في النهاية نتاج بشري خالص لم تُسهم فيه الطبيعة ولم تعرفه من قبل.

من بين أكثر النتائج وضوحا لتوسيع بناء المدن تقليص مساحتها الخضراء

 

توسع بلا حدود على حساب الطبيعة

التوسع العمراني شأن بشري آخر بامتياز، فزيادة عدد السكان وهجرة الفلاحين وتقلص المساحات الزراعية؛ نتاج موضوعي لتدخل الإنسان في الطبيعة وإجبارها على الخضوع لإرادته.

ويرصد الوثائقي التطور المخيف في مجال بناء قطارات الأنفاق، فكل كيلومتر منها يترك آثاره السلبية على البيئة، ويزيد من نسبة تدخل الإنسان ليصبح هو المُتحكم ليس في الطبيعة وحدها بل في الكوكب.

ومن بين أكثر النتائج وضوحا لتوسيع بناء المدن تقليص مساحتها الخضراء، ففي لندن يبدو أن مستقبل الزراعة فيها سيكون للبيوت الزجاجية، حيث لم تعد الأرض هي المصدر الأساسي للزراعة، فقد قلّص الإنسان مساحات الزراعة ونوعها بشكل لم تعرفه البشرية من قبل.

يفخر مهندسو البيوت الزجاجية بما يفعلون، ويبررون انتقالهم إليها بالحرص على الأرض ومياهها، فهم يدّعون أن البيوت تلك تستهلك كمية أقل من المياه، وأن كل ما تحتاجه هو الضوء الاصطناعي بدلا من أشعة الشمس.

ويكشف الوثائقي أن كل ملاجئ الحرب العالمية الثانية في لندن تحولت اليوم إلى مراكز زراعية مظلمة، أما حقول الدواجن وتربية الماشية فما زالت مساحاتها في اتساع، وبقيت المواد الكيميائية الممزوجة بالسماد الصناعي مصدرا لتسميم مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة.

لم تنجُ المياه من تدخل الإنسان، فالنقل البحري وحده يقضي على نسبة كبيرة من الأحياء المائية في البحار والأنهار

 

البحار.. لم تعد كما كانت

لم تنجُ المياه من تدخل الإنسان، فالنقل البحري وحده يقضي على نسبة كبيرة من الأحياء المائية في البحار والأنهار. لقد لعب التغيّر المناخي دورا في ارتفاع منسوب المياه في العالم، وزادت من نسب حموضتها، إلى جانب زيادة سرعة الرياح.

ويصور الفيلم الموت البطيء للشُعَب المرجانية في أستراليا بسبب حموضة المياه. ثم يتوجه إلى الصين لمقابلة عمال يشتغلون في مشروع بناء سدود إسمنتية على طول ساحل البحر، وذلك حماية لحقول شينغلي النفطية من الغرق. وأمام سد إسمنتي على طول 120 كلم يفتخر المهندس المشرف عليه بمنجزه، ويتوقع أن يمتد حتى 500 كلم خلال السنوات العشرين القادمة.

اقتحام الطبيعة وإدخال تركيبات كيميائية وصناعية عليها يُعطلها، ويترك للإنسان مجالا أوسع للتحكم بها كما يريد

 

سطوة الإنسان

اقتحام الطبيعة وإدخال تركيبات كيميائية وصناعية عليها يُعطلها، ويترك للإنسان مجالا أوسع للتحكم بها كما يريد.

يتفق الوثائقي في نهاية مساره مع تسمية العلماء لعصرنا بعصر الإنسان، لكنه يقارب اتجاهات أخرى تنشد العقلانية والرحمة بالأرض التي ظلّت حيّة بفعل عوامل تغيير بطيئة أخذت زمنها وحافظت على وجودها ووجود الإنسان فوقها.

وقبل إغلاق عدسات كاميراتهم يعود صُنّاع الوثائقي إلى المشهد الأول لعمليات حرق أنياب الفِيلة، مصحوبة هذه المرة بمقاطع من خطاب الرئيس الكيني الذي أعلن وقوفه ضد اللصوص وقتلة الطبيعة الكينية الجميلة. أما الاحتكام إلى العقل فقد اختتمت به الممثلة فيكاندير تعليقها مُناشِدة الإنسان التفكير بعواقب ما يفعله بالأرض التي بدونها لا وجود له مهما بلغ من تطور وسطوة عقل.