“على متن الرحلة المنكوبة”.. سباق الإنسان والتكنولوجيا يسحق الأرواح في السماء

خاص-الوثائقية

لأن التحليق على ارتفاعات شاهقة يبعث في النفس الكثير من الرهبة والخوف فقد أولى المهندسون والباحثون والفنيون مسألة الأمان والسلامة الجوية اهتماما بالغا حتى أصبحت الطائرات من أكثر وسائل النقل موثوقية وأمانا.

لكن كل هذه الاحتياطات لم تمنع وقوع حوادث كارثية أزهقت الأرواح، وخلّفت كثيرا من الإصابات، ووضعت العالم أمام تحديات، وفي مقدمتها الحفاظ على الأنفس وتعزيز مستويات الأمان في الطائرة، والارتقاء ببرامج تدريب الطيارين.

هذا ما قدمته لنا الجزيرة الوثائقية في أفلام عرضتها بعنوان “على متن الرحلة المنكوبة”، غطّت ثلاثة من حوادث الطيران التي هزّت الكوكب.

 

“بوينغ 737 ماكس”.. منافسة عمالقة الطيران على السوق

في عام 2018 فقد الطيار “بافي سونيتجا” التحكم في طائرة بوينغ 737 ماكس التي غادرت من مطار جاكرتا في إندونيسيا، فتحطمت في بحر جاوا وتسببت بمقتل كل ركابها، وبعد خمسة أشهر تحطمت طائرة 737 أخرى في إثيوبيا، مما تسبب في حظر تشغيل جميع طائرات هذا الطراز في أنحاء العالم.

يقول محقق حوادث الطيران “جيف غوزيتي”: على مدى السنوات الماضية نما الطلب على السفر الجوي، وبرزت الحاجة لطائرات جديدة وموفرة للوقود في فئة النقل، ويمكن لاستخدامها أن يجعل شركات الطيران قادرة على المنافسة، والواضح أن بوينغ وإيرباص هما الأبرز في هذا المجال، والتنافس بينهما شرس دائما.

بعد تحطم اثنتين من طائرات بوينغ 737 ماكس، تم إيقاف هذه الطائرة عن الطيران في كل أنحاء العالم

 

كانت إيرباص تطور طائرة ذات محركين من فئة النقل تسمى “نيو”، بينما لم يكن لدى بوينغ تصميم جديد ينافسها، ولذا قرروا العمل على فئة 737 وإعادة هندستها، وهكذا ولدت “بوينغ 737 ماكس” (737-Max)، فقد أرادت بوينغ أن تستمر في المنافسة من خلال “ماكس” لكنهم لم يرغبوا في بيع طائرة لشركات الطيران تجبرها على إخضاع الآلاف من طياريها للتدريب لأيام وأسابيع، لأن التدريب يكلف الكثير من المال.

كان عرض بوينغ أنها طائرة جديدة بالكامل أكثر كفاءة باستهلاك الوقود وأسرع، ولكنها متطابقة تماما مع 737 من حيث القيادة، ولن تضطر لدفع مبالغ إضافية للتدريب، ولكن نظرا للمحركات الأحدث واختلافات الديناميكا الهوائية وشكل جسم الطائرة والأجنحة، فقد ظهرت خصائص في أنظمة معينة مختلفة قليلا عن طرازات 737 السابقة، مما دفع بوينغ لإحداث تغييرات في البرامج وإضافة قانون تحكم يسمح لعناصر التحكم بالتحرك تلقائيا أثناء الرحلة دون علم الطيار.

في هذا النظام سيعمل البرنامج على تغيير الإحساس بمقود التحكم حتى لا يلاحظ الطيار ما يحدث. كان البرنامج الذي ابتكرته بوينغ هو نظام زيادة خصائص المناورة “إم-كاس” المصمم لمساعدة الطيارين على التحكم بالطائرة في مواقف معينة، ولم يُضمّن هذا البرنامج الجديد في كتيبات الطائرة، ولا يعلم الطيارون بوجوده.

مجسات زاوية الهجوم.. معلومات خاطئة تتلاعب بالحاسوب

أقلعت الطائرة وبدأ نظام “إم-كاس” في العمل، إنه يتلقى معلومات خاطئة من إحدى مجسات زاوية الهجوم، وهي تشبه مروحة صغيرة مثبتة في مقدم الطائرة، وتقيس زاوية الهجوم عن طريق تحركها حسب سرعة وزاوية الرياح، وهي إشارة يجب رؤيتها للتأكد من أن الجناح لا يفقد ديناميكية الرفع الهوائية، وهي تقدم صورة أكثر دقة من مجرد قياس السرعة الجوية.

في حالتنا يبدو مؤشر الزاوية اليسرى معطلا، وهكذا توصل الحاسوب إلى نتيجة مفادها أن زاوية الهجوم عالية جدا، وفي الحقيقة كانت الطائرة تهوي. إنه مجرد مجس معطل طلب من الحاسوب خفض مقدمة الطائرة تلقائيا دون علم الطيار، وبمجرد محاولة الطيار تحريك جهاز معايرة التوازن على زر الإبهام يتوقف نظام (إم-كاس) ويحدث انقطاع، فيظن الطيار أنه بخير.

زاوية الهجوم هي الزاوية التي تتحرك بها الطائرة بالنسبة لمستوى الأفق الموازي لسطح الأرض

 

بعد ثوان يقول الحاسوب ما زلت أتلقى معلومات مغلوطة، ويغير اتجاه الميلان للأسفل، مما يدفع الطيار لمحاولة الموازنة وتحريك الذيل الأفقي في الاتجاه المعاكس، وهكذا دواليك. ومع زيادة السرعة الجوية زاد الضغط على مقود التحكم، وأصبحت عملية رفع مقدمة الطائرة صراعا حقيقيا.

قام الطيار القائد بإلغاء عمل الأنظمة الأوتوماتيكية، وسلّم عمله إلى الطيار المساعد دون توجيهه بشكل جيد، لقد كانت حالة تستدعي الاستغاثة، فهنالك مشكلة كبيرة في معدات التحكم، وهي تتفوق قوة على الطيار الذي يحاول عبثا سحب مقود التحكم للخلف، وقوته غير كافية لموازنة تعديل التوازن، لقد فقد السيطرة بالكامل، ولم يعد هناك وقت لفعل أي شيء، لقد سقطت الطائرة في البحر.

استبدال المجس.. آخر الحلول الفنية بعد تبليغات الطيارين

بعد عملية بحث وإنقاذ مكثفة في بحر جاوا أُعلن عن مقتل كافة ركاب الطائرة وعددهم 181، وكامل الطاقم وهم ثمانية، ثم وجدوا مسجل بيانات الرحلة “الصندوق الأسود” بعد بضعة أيام، ووجدوا صندوق تسجيلات قمرة القيادة بعد شهرين. وعند تفريغ المعلومات من الصندوقين تبين أن خطأ ما حدث في نظام “إم-كاس”.

كانت “ليون إير” قد استلمت الطائرة من المصنع قبل ثلاثة أشهر من الحادث، وحلقت خلالها في عدة أجواء، وقبل الحادث بعدة أيام بلّغ الطيارون عن إنذار يتعلق بسرعة الطيران، وحاول أفراد الصيانة الأرضية في كل مرة استكشاف هذه الأخطاء، بينما استمرت الحالات الشاذة في الحدوث حتى اليوم السابق للحادث، وكانت الطائرة في رحلة إلى بالي، حيث قرر الفنيون تغيير مؤشر زاوية الهجوم الأيسر.

رحلة الطائرة الإندونيسية بوينغ 737 المتوجهة من جاكرتا إلى بانكالبينانغ

 

قام الفنيون باستبدال هذا المجس بآخر من طائرة 737 تعمل منذ سنوات، وقامت الطائرة برحلتها قبل الأخيرة من بالي إلى جاكرتا، ولكنها كانت أشبه بلعبة أفعوانية لم يستطع الطيارون خلالها السيطرة على توازن الطائرة طيلة الرحلة، وكانت لعبة شد وجذب بين نظام إم-كاس والطيارين، انتهت بإطفاء النظام، لكن إنذار اهتزاز المقود استمر حتى بعد إطفاء النظام. لقد أطلّ إم-كاس بوجهه القبيح من بين الحطام.

حادثة الطائرة الأثيوبية.. إيقاف نظام “إم-كاس”

أثناء التحقيقات قام الجميع بمهاجمة نظام إم-كاس، وبعد الحادث أرسلت بوينغ وفيدرالية الطيران تعميما طارئا يتضمن مجموعة من التعليمات البسيطة للطيارين في أنحاء العالم، ومع أنهم لم يذكروا نظام إم-كاس بالاسم فإن التعليمات شملت إطفاء “نظام الموازن الأفقي” في حال حدوث ظواهر مشابهة.

بقايا من أشلاء الطائرة الإندونيسية المنكوبة بوينغ 737

 

كانت بوينغ على وشك الخلوص إلى نتيجة أن هذا الحادث فردي، ويتعلق بطاقم القيادة، لولا ذلك النبأ الذي هز العالم بوقوع حادث مماثل على رحلة الشركة الإثيوبية، وعلى الفور حُظر طيران أي طائرة طراز من 737-ماكس في جميع أنحاء العالم. وثارت زوبعة تساؤلات على المستوى الرسمي والتقني عن تبريرات بوينغ حول تزويد طائراتها بأنظمة لا يعرفها الطيارون.

بعد هذا الحادث وحادث الطائرة الأثيوبية أعادت بوينغ النظر في نظام التحكم، وزوّدت الطائرات بأجهزة تحكم مزدوجة، وتخلصت من نظام إم-كاس، وأصبح لزاما على الطيارين اجتياز تدريب على نظام المحاكاة، والتعرف على أنظمة الطيران الجديدة وقوائم المراجعة المحدّثة.

 

مطار لاغوارديا.. إقلاع الرحلة الأخيرة لطائرة رائدة

كانت رحلة الخطوط الجوية الأمريكية رقم 1549 مقلعة من مطار لاغوارديا في نيويورك ومتوجهة إلى تشارلوت، وذلك في تمام الساعة 3:30 من مساء يوم 15 يناير/كانون ثاني 2009 بقيادة الطيار “تشيسلي سولنبرغر” ومساعده “جيفري سكايلز”.

كان “سولينبرغر” طيارا عسكريا قبل أن يعمل في الطيران التجاري، وهذا أكسبه تدريبا جيدا، وخبرة في معالجة البيانات الواردة بسرعة، وقدرة على اتخاذ القرارات الصعبة في الوقت المناسب، وكان من نخبة الطيارين المفضلين لقيادة الطائرات.

الطيار الذي أنقذ رحلة الخطوط الجوية الأمريكية رقم 1549 بإنزالها في نهر هدسون

 

لاغوارديا مطار مزدحم وطوابيره مزعجة، والانتظار يطول خلف صفوف الطائرات قبل الإقلاع، وكان “سولنبرغر” و”سكايلز” ينتظران بطائرتهما (إيرباص-320)، وهي طائرة رائدة، تحوي أكبر كمّ من أنظمة التحكم الإلكتروني، وهي المنافس المباشر لطائرة بوينغ-737، وتختلف عن بوينغ بأن لها عصا تحكم جانبية، لا مقود تحكم أمامي. وتعمل بمحركين نفاثين هائلين، أو بأحدهما إذا تعطل الآخر.

أسراب الإوز.. خطر الموت المحدق بالمحركات النفاثة

على ارتفاع 2800 قدم رأى “سولينبرغر” سربا من الطيور، بعدها حدث انفجار هائل، فقد ضربت الطيور المحركين واشتعلت النار فيهما. لقد اختفى الضجيج، وباتت مجرد طائرة شراعية.

لم يتوقف المحركان تماما، ولكنهما تضررا بشكل كبير وانخفضت طاقتهما بحيث لم يعد بإمكانهما التحليق، لقد اعترضت مجموعة من الإوز الكندي مسار الطائرة، وانجذب عدد كبير منها إلى المحركين، إن احتمال تعطل المحركين معا منخفض جدا، ويتدرب الطيارون غالبا على حالة تعطل محرك واحد، أما أن يتعطل الاثنان، وعلى ارتفاع منخفض، فهذا يتطلب إجراء غير اعتيادي.

محركات الطائرات مجهزة لاستيعاب دخول أحجام وأوزان محددة من الطيور وإلا وقعت كارثة

 

تمثلت ردة فعل “سولنبرغر” العبقرية في أنه لم يتتبع الإجراءات الواجب اتخاذها في هذه الحالة بالترتيب ودون تفكير، ولكنه طلب من مساعده تشغيل وحدة الطاقة الاحتياطية (APU)، وهي محرك نفاث صغير في منطقة الذيل، وظيفته أن يحافظ على عمل جميع أنظمة التحكم والمضخات والهيدروليك بشكل اعتيادي.

“استعدوا للاصطدام”.. قرار سريع من طيار عسكري شجاع

قام الطيار بتسوية الطائرة، وتحدث إلى برج المراقبة فأخبرهم أن الطائرة في حالة طوارئ، وسيعود بها إلى المطار، وفي هذه الحالة يعمد المراقبون على الأرض إلى إبعاد الطائرات وتهيئة أكثر من مدرج لاستقبال الحالة الطارئة، وأما بالنسبة للطيار فالخيارات المتاحة إما العودة إلى لاغوارديو أو مطار تيتربرو أو مطار (JFK) أو التوجه إلى نهر (هدسون).

يتدرب الطيارون بشكل مكثف على الطائرات الحديثة في أنظمة محاكاة الطيران التي توفرها شركات صناعة الطائرات

 

ربما كان خيار أحد المطارات هو المفضل، ولكن عندما تفكر في مدينة نيويورك وازدحام مطاراتها وكثافة السكان وارتفاع ناطحات السحاب فإن هذا الخيار يسقط تلقائيا، ولم يعد معقولا سوى خيار النهر. اتخذ “سولنبرغر” قراره، وانهالت الاتصالات على مرافق الإطفاء والإسعاف والإخلاء وكل من يمكنه المساعدة، للتوجه إلى أقرب مكان من النهر يتوقع أن تهبط فيه الطائرة.

كان النداء الوحيد الذي سمعه الركاب من قمرة القيادة، هو صوت قائد الطائرة يقول لهم: “استعدوا للاصطدام”، وكان المنظر الذي يمكن لقائد الطائرة أن يراه هو ضفتا النهر والمباني حوله، كان هذا بالكاد كافيا لأنْ يوازن مسار الهبوط. ثم انهالت على مسامع الركاب تعليمات الطاقم: اخفضوا رؤوسكم، ضعوا رؤوسكم بين أقدامكم.

نهر هدسون.. هبوط خطير من السماء إلى الماء

انخفض الارتفاع إلى 200 قدم، وبدأ الطيار برفع مقدمة الطائرة قليلا حتى لا تغوص في الماء، وما زال يحافظ على توازن الجناحين حتى لا يغوص أحدهما في الماء قبل الآخر، وفجأة ثار رذاذ الماء وغطى النوافذ بعنف، “لقد هبطنا في الماء”، كان الذيل أخفض قليلا من جسم الطائرة، “لكن الطائرة لم تتحطم، ولم تغرق في الماء، لقد انحرفت قليلا نحو اليسار واستقرت، يبدو أننا نجونا”.

خيارات الهبوط بعد ارتطام الأوز بمحركات الطائرة في رحلة رقم 1549 المقلعة من مطار لاغوارديا

 

لقد صنع “سولنبرغر” و”سكايلز” المستحيل بعد 7 دقائق من إقلاعهما من لاغوارديا، واستطاعا أن ينقذا حياة 150 شخصا كانوا على متن إيرباص-320، ثم خيّم الصمت على الجميع، مرّت لحظات دون أن يتحرك أحد من مكانه، ثم هرع الناس في ممرات الطائرة إلى المنافذ والأبواب، لقد أصبحت الطائرة قاربا كبيرا ممتلئا بالماء، وفي الخارج كان النهر متجمدا والجو باردا جدا.

كان مكان الهبوط مناسبا به كثير من قوارب الإنقاذ، والمروحيات تراقب المكان، ولولا عناية الله ثم هذا المكان المأهول لمات أكثر المسافرين غرقا أو متجمدين، وبالمحصلة كان هنالك عشرة قوارب إخلاء وقاربا خفر سواحل وسفينة إطفاء، وجرى التأكد بسرعة من عدم وجود وفيات. لقد كانت أعجوبة أن ينجو جميع المسافرين والطاقم، وأن يتابعوا بأعينهم الطائرة وهي تغوص في النهر شيئا فشيئا.

بعثة التحقيق.. أحاديث العائدين من الموت

يصف بعض المسافرين ردود فعل ذويهم وهم يتحدثون إليهم بعد الحادث، كان الذين يتابعون الحادث على محطات التلفزة ويستمعون إلى ذويهم يظنون أن أصواتهم قادمة من العالم الآخر، إنه شعور مذهل أن تكتب لك الحياة من جديد. ولكن كان هناك رغبة مشتركة من كل المسافرين: نرجوكم، أعيدونا إلى عائلاتنا الآن، لا نعرف كيف، ولكننا بحاجة إلى دفء منازلنا.

هبطت رحلة في نهر هدسون، ورغم الطقس البارد، نجا الطاقم وركاب الطائرة جميعا

 

بعد إنقاذ جميع المسافرين أرسلت بعثة للتحقيق في ظروف الحادث، ورفع أجزاء الطائرة من الماء، لم يكن هنالك أدنى شك أن الطيور تسببت في الحادث، فقد فُحص الحمض النووي، وتبين أن الأوز من كندا، في كل عام يجري التبليغ عن عشرة حوادث اصطدام بالطيور تقريبا.

في العادة تكون المحركات النفاثة مصممة لهذا النوع من الاصطدام، فالشفرات المركبة في مقدمة المحرك توجه الطير الضحية إلى مجرى خاص بحيث يتم التخلص من بقاياه دون أن تدخل إلى الأجزاء الحساسة من المحرك، كما أن اختبارات المحركات تسمح باصطدام أربعة طيور لا يزيد وزنها جميعا عن ثلاثة كيلوغرامات، أما في حالتنا فالمحرك ابتلع عدة إوزات، وزن الواحدة منها 4 كغم.

تعطل المحركات.. نصف دقيقة لاتخاذ القرار المناسب

أثناء التحقيقات عقد المجلس الوطني لسلامة النقل عدة جلسات استماع، استجوب فيها جميع الركاب تقريبا، وكانت حالة من الذهول تسيطر على وجوه المحققين، إنهم للمرة الأولى تقريبا يستمعون إلى شهود يفترض أن يكونوا في عداد الأموات. وكان السؤال التالي: ماذا كان سيحدث لو أن “سولنبرغر” اختار أن يهبط في أحد المطارات وليس في النهر؟

إذا تعطل محركا الطائرة معا، فإن أمام الطيار 35 ثانية فقط ليتخذ قرارا مناسبا

 

توصل أكاديميون وأساتذة جامعات ومستشارون في مجلس سلامة النقل أن أمام الطيار 35 ثانية فقط ليتخذ قرارا مناسبا في حال تعرضه لمثل هذا الحادث، حيث خرج المحركان معا من الخدمة، وفي النهاية توصل الباحثون والمحققون إلى أن قرار “سولنبرغر” الهبوط في النهر لم يكن صائبا فحسب، بل كان ينم عن جرأة وشجاعة وروح من المسؤولية قلما تتوفر لغيره في مثل هذه الظروف.

بعدها أصدر مجلس سلامة النقل أكثر من ثلاثين توصية بخصوص التدريب ومعايير اعتماد المحركات وقوائم التحقق، بما في ذلك رفع أولوية تشغيل وحدة الطاقة الاحتياطية.

 

طائرة بلفاست.. عطل المحرك على ارتفاع 28 ألف قدم

في 1989 تعرضت طائرة بوينغ 737، في طريقها إلى بلفاست في إيرلندا الشمالية، إلى عطل كارثي في المحرك على ارتفاع 28 ألف قدم، ومع أن الطياريْن استطاعا شق طريقهما إلى أقرب مطار، فإن الطائرة تحطمت على بعد 500 متر من المهبط، في كارثة مأساوية تسببت بمقتل 47 شخصا.

تعتبر بوينغ من أشهر الطائرات التجارية حول العالم، وهي تعمل بمحركين، وترغب بها جميع شركات الطيران. وقد كانت بوينغ 737 طرازا مخصصا للرحلات القصيرة، أنتج منها ثلاث فئات حسب المسافة: 300، 400، 500، وكانت الأخيرة الأقصر مدى، بينما 400 هي الأضخم حجما.

يعتمد المحرك النفاث على مبدأ الاحتراق الداخلي، ويشكل الغاز الناتج عن الاحتراق والمندفع من الفوهة الضيقة الخلفية عنصر دفع هائل للطائرة، وكلما كانت سرعة الدوران أكبر، كانت الطاقة الناتجة أكبر. ويخضع المحرك لاختبارات في غاية الصعوبة، لمعرفة مدى تحمله للظروف الجوية وحالات الاصطدام الطارئة.

ذكاء الطائرات.. تكنولوجيا سابحة في الأجواء

في مرحلة الاختبارات أثناء الطيران، يجري تزويد الطائرة بكثير من أجهزة تسجيل البيانات، وذلك لرصد سلوك المحرك في مختلف الظروف أثناء الطيران، ثم تبدأ مرحلة التصنيع، ويجري تزويد الطائرات به في مختلف أنحاء العالم.

تعمل برامج المحاكاة على وضع الطيارين في رحلة طيران تقليدية تحت ظروف مشابهة للرحلة الحقيقية

 

مع تطور التكنولوجيا أصبحت الطائرات أكثر ذكاء، وأصبحت برامج تدريب الطيارين أكثر ضرورة، ومع تعدد طرز الطائرات أصبح بعض برامج التدريب يقتصر على تدريس الفروقات بين هذه الطرازات المتعددة، وقد كانت أهم التغييرات على طراز 400 من سلسلة 737 الواجهة الرقمية في قمرة القيادة.

قدمت بوينغ التدريب على الاختلافات عندما قدمت طرازاتها المختلفة من 737، ولكن لعدم توفر أجهزة المحاكاة آنذاك، فقد تدرب الطيارون بالورقة والقلم داخل القاعات، كما أن التدرب على الطائرة يكون غالبا في أجواء اعتيادية، وليس على حالات الطوارئ.

تدفق الهواء.. لبس في تحديد المحرك المتعطل

أدخلت بيانات الصندوق الأسود الحقيقية إلى نظام محاكاة ذكي لإعادة سيناريو الرحلة، ليتمكن المحققون من فهم حقيقة ما حدث، وكيف كان ينبغي أن تكون الإجراءات لتجنب الحادث، وتقديم هذه الخبرات في أنظمة التدريب للطيارين الجدد.

في بوينغ 737 يتدفق الهواء إلى مقصورة الركاب من خلال المحرك الأيمن، ولكن في فئة 400 أصبح الهواء يأتي من المحركين معا، وهكذا كان هنالك لبس في تحديد أي من المحركين قد تعطل، لأن مؤشرات الاهتزاز الرقمية كانت غير واضحة. وأشارت التسجيلات إلى أن إجابة الطيار المساعد ترددت بين المحركين.

محرك الطائرة البريطانية المنفجر الذي خدع الطيار وجعله يأخذ قرارا خاطئا

 

قام الطيار بتخفيف قوة المحرك الأيمن، وأوقف عمل الطيار الآلي والدفع الأوتوماتيكي، وبدأت سيطرته اليدوية على الطائرة، فانخفضت المؤشرات الأولية للأصوات العالية والدخان، تحسنت الأمور وتأكد لدى الطيارين أن المحرك الأيمن هو المشكلة. ولذا طلب الطيار من مساعده إيقاف المحرك الأيمن تماما. وللاسف لم تصل مشاهدات الركاب عن المحرك الأيسر إلى قمرة القيادة.

وبالرغم من أنهما ظنّا أنهما في مسار التحقق الصحيح، فإن الطيار ومساعده ارتكبا خطأ جسيما بإيقاف المحرك الخاطئ، وهو ما لم يتنبّها له حتى فات الأوان. ومن الطبيعي أن يفكرا الآن في الهبوط في أقرب مطار في منتصف المسافة بين مطاري هيثرو وبلفاست، وكان القرار باتجاه مطار كيغوورث في إيست ميدلاند.

ما زال أمامنا وقت طويل، نحن على ارتفاع 26 ألف قدم، ويلزمنا كثير من الدوران وتخفيض الارتفاع حول المطار حتى نرى الخط المركزي للمدرج، بينما يقوم مراقبو الحركة الجوية بتوجيه الطائرة إلى المدرج الآمن، ونظرا لأن الطائرة في حالة هبوط من ارتفاع مناسب، فلا حاجة للمحركات حتى اللحظات الأخيرة.

“استعدوا لحالة ارتطام عند الهبوط”

على الأرض كانت حالة طوارئ قصوى معلنة في المطار، وجرى نشر سيارات الإطفاء على الجهتين طوال المهبط. في الأميال الأخيرة سيضطر الطيار إلى تشغيل المحرك للحفاظ على السرعة الأفقية، وبالطبع سيشغلون المحرك الأيسر، الذي يظنونه المحرك السليم. وعند تشغيله تبين للطياريْن أنه لا يعطي الطاقة المطلوبة للدفع، وبالطبع لن يعمدا إلى تشغيل الأيمن لأنه معطل حسب ظنهما.

عمد قائد الطائرة إلى الخيار الأخير، وهو إطالة الانزلاق الشراعي من أجل الاقتراب قدر الإمكان من المدرج، وهو ما أدرك أخيرا أنه مستحيل، فنادى في المسافرين: “استعدوا لحالة ارتطام عند الهبوط”. وضع المسافرون رؤوسهم بين أرجلهم، وشبكوا أيديهم على رؤوسهم، واصطدمت الطائرة بالأرض.

ارتطام الطائرة البريطانية بأرض المطار سنة 1989 وانقسامها إلى ثلاثة أجزاء

 

ارتطمت الطائرة بأحد جانبي الطريق، وتحطمت إلى ثلاثة أجزاء، وقطّعت ما في طريقها من الأشجار، وحطّمت موقفا قريبا للسيارات. وكان صوت صافرات الإنذار وأضواء سيارات الإسعاف والإطفاء يروي الجزء الأكثر كارثية من الحكاية، في أكبر عملية إخلاء للضحايا والمصابين في تلك الليلة العصيبة، حيث قضى 47 مسافرا نحبهم.

تطورات المحركات.. أخطاء متراكمة من طيارين خبيرين

حصل المحققون على الصندوق الأسود للرحلة، وبدأوا بجمع الأدلة والمعلومات من أجل معرفة ما حدث، وقد تواترت الأدلة المتوفرة لديهم على أن عطلا ما كبيرا قد حصل للمحرك الأيسر، ولكن ما الذي دفع طيارين خبيرين لاتخاذ هذا القرار الخاطئ بتوقيف المحرك السليم؟

كان الطاقم قد انتقل للعمل حديثا على فئة 400، ويظن الطياران أن المحرك الأيمن هو الذي يغذي وحدة التكييف في قمرة القيادة، بينما الواقع في فئة 400 أن المحركين كليهما يغذيان وحدات التكييف في الطائرة. ومع أنهما لاحظا مؤشر اهتزاز المحرك الأيسر إلا أنهما أهملا ذلك بحجة أن مؤشرات الاهتزاز غير موثوق بها.

يزود محركا الطائرة 400 معا الهواء لمقصورة الركاب، المعلومة التي لم يعلمها قائد الطائرة ولا مساعده

 

وقد أخبر الطيار “هالت” لجان التحقيق أن رائحة الدخان اختفت عندما قام بإطفاء المحرك الأيمن، وهذا ما أقنعه أن قراره كان صحيحا، لكن سلسلة الأخطاء استمرت بعد ذلك، فقد انفصل نظام الدفع الأوتوماتيكي للطائرة، ولذلك توقفت الأصوات واللهب، وظن الجميع أن كل شيء على ما يرام. وتواصلت الأخطاء بقرار التوجه إلى مطار إيست ميدلاندز.

الطاقم والمسافرون.. شركاء في الحياة والمسؤولية

ربما كان الخطأ الرئيسي هو اتخاذ القرار بناء على حكم مسبق، وهو أن المحرك الأيمن يزود المقصورة بالهواء، كما كان في الفئات السابقة التي اعتاد عليها الطياران، والخطأ الآخر هو عدم وضوح القراءات الرقمية لاهتزاز المحرك، الأمر الذي دعا الطيارين إلى عدم الوثوق بها، والخطأ الثالث عدم الاستماع لرأي المسافرين والطاقم خارج قمرة القيادة.

يطلب عادة من المسافرين فتح نوافذهم أثناء الإقلاع تحسبا لأي طارئ قد يقع لمحركات الطائرة ليتم إبلاغ الطيار مباشرة

 

بعد هذه الحادثة أصدر مجلس سلامة النقل تعليمات واضحة تنص على أن طاقم الطائرة خارج قمرة القيادة مسؤول تماما عن سلامة الرحلة مثل الطيار ومساعده، وأنه يجب أن يشارك قمرة القيادة في أي مشاهدات غير طبيعية يمكنها التأثير على اتخاذ القرار، كما قامت بوينغ بتعديلات جوهرية على فحوصات المحركات وكتيبات التدريب والصيانة، وقائمة المراجعات، وواجهة التحكم الرقمية.