“فاي”.. النسبة الذهبية.. هل هي صدفة كونية؟

لا شيء يبدو أكثر انتظاما من أحجار الشطرنج وهي مصطفة على رقعة تترقب من يطلق الشرارة الأولى، وكما هي أصول اللعبة، يبدأ صاحب الأحجار البيضاء بأول حركة، ثم يتبعه صاحب الأحجار السوداء بالحركة التالية، وبين كل حركة وأخرى، تفشي لنا الرياضيات ما يستتر خلف هذه الأحجار الصماء، ولو جيز لها أن تنطق لكان ذلك من شدة الذهول.

إن الشطرنج كون واسع مستقل بمفرده، مليء بالاحتمالات التي لا يمكن حصر حدوثها مهما كانت المحاولة، فلاعب الشطرنج الأول عند نقطة البداية يمتلك أمامه ثماني خيارات متاحة لكي يبدأ الخطوة الأولى، وكذا الحال بالنسبة للاعب الثاني، فيكون عدد احتمالات اللُعَب الممكنة من أول حركتين فقط من كلا اللاعبين هي 64 طريقة مختلفة لبدء اللعبة.

وإذا تبع ذلك حركتان أخريان فإن عدد الاحتمالات سيقفز إلى بضعة ألوف من الحركات المحتملة، ولأن الرياضيات هي اللغة التي يتحدث بها العالم الساكن حولنا، فإن بإمكانها أن تتنبأ بالأرقام المهولة لعدد الاحتمالات اللاحقة دون تعطي أدنى اعتبار لحدود تفكيرنا القاصر على ما تراه الأعين. وما أن يتم اللاعبان بضع حركات لكل منهما، تبدأ الأرقام الجنونية بالظهور إذ يزداد عدد الاحتمالات إلى مئات الألوف ومن ثم ملايين الحركات المحتملة التي لا يطيق عدها سوى الحاسوب.

وبهذا الصدد قام الرياضياتي الأمريكي “كلاود شانون” (Claude Shannon) في القرن الماضي بمحاولة تقصي عدد الاحتمالات من الحركات الممكنة في لعبة شطرنج تتألف من 80 حركة مجتمعة لكلا اللاعبين، فوجد أن عدد الألعاب الممكنة هو 10120 احتمالا -الرقم واحد يتبعه مئة وعشرون صفرا- ويطلق عليه “عدد شانون”، وهو بالطبع عدد جنوني يصعب استيعابه، ولغرض تبسيط الصورة ولإضفاء قليل من المعنى، إذا قمنا بمقارنة سريعة نجد أن هذا العدد أكبر بكثير من عدد الذرات الموجودة في الكون المرصود (Observable universe)‏ والذي يقدر بـ 1080 ذرة(1).

تتضاعف الاحتمالات راديكاليا في لعبة الشطرنج بمجرّد إزاحة حجرة واحدة على الرقعة، وكما يعبر عدد شانون عن نفسه، فإنّ نسبة أن تتطابق لعبتي شطرنج متكاملتين ببعضهما تكاد تنعدم، فليس هناك أي لعبتين في التاريخ متماثلتين، وربما سيتطلب الأمر ملايين السنوات من اللعب المتواصل حتى يتحقق هذا الأمر بشكل عفوي.

ولكن هناك ما هو أكثر جنونا وسحرا من ذلك، ولعلّ هذا الكون المخلوق يقفز متجاوزا كل تلك الاحتمالات والفرضيات اللامتناهية، فنجد أن جزءًا كبيرا من الكون يمتثل أمام توافق رهيب في نمط يظهر بذات التطابق تربطه قاعدة ذهبية، يُطلق عليها رياضيا النسبة الذهبية.

النسبة الذهبية.. الرياضيات تتغزل بالطبيعة

لقد قال ذات مرة العالم الألماني يوهانس كبلر: “إنّ للهندسة كنزين عظيمين: الأول نظرية فيثاغورس، أما الآخر تقسيم الخط إلى نسبته القصوى والمتوسطة. فالكنز الأول يمكن مقارنته بالذهب، وأما الثاني بجوهرة ثمينة”(2).

ويعرّف العالم إقليدس الإسكندراني الملقب بأبي الهندسة أنّ “النسبة القصوى والمتوسطة” يمكن الوصول إليها عند تقسيم ضلع مستقيم إلى جزئين، بحيث يكون طول الجزء الأصغر “BC” بالنسبة للجزء الأكبر “AB” مساوٍ لطول الجزء الأكبر بالنسبة لطول الضلع بأكمله “AC”، ويطلق على هذه النسبة بالنسبة الذهبية، أو النسبة الإلهية كما سميّت قديما(3).

عُرفت هذه النسبة قديما من قبل عدة شعوب، ولُوحظ حضورها دوما في مجالات عدة وألهمت كثيرا من العلماء والفنانين، إذ يقول عالم فيزياء الفلك “ماريو ليفيو” (Mario Livio): “أعظم العقول الرياضية في جميع العصور، من فيثاغورس وإقليدس في الزمن القديم، مرورا بعالم الرياضيات في العصور الوسطى الإيطالي ليوناردو، وعالم الفلك في عصر النهضة يوهانس كبلر، إلى العلماء الحديثين مثل عالم الفيزياء في جامعة أكسفورد روجر بنروز، قد كرسوا جميعهم ساعات طويلة في دراسة النسبة الذهبية وخصائصها.

لكن الانبهار نحو النسبة الذهبية لم يقتصر فقط على علماء الرياضيات، وإنما جذب أعين علماء الأحياء والفنانين والموسيقيين والمؤرخين والمعماريين وعلماء النفس وحتى المتصوفين. في الحقيقية، ربما من الانصاف قول أنّ النسبة الذهبية قد ألهمت المفكرين من جميع التخصصات على نحوٍ لا يضاهيه أي عدد آخر في تاريخ الرياضيات”(4).

النسبة الرياضية والمستطيل الذهبي

وتُصاغ هذه النسبة رياضيا باستخدام المعادلة التربيعية العامة بأبسط أشكالها كالآتي: x2 – x – 1 = 0 وبالاستعانة بالصيغة التربيعية لإيجاد قيمة “x” نحصل على عددين غير كسريين أحدهما موجب والآخر سالب، إلا أنهما متشابهان عدا الإشارة. فالعدد الأول هو (1.6180339887) والعدد الآخر (-1.6180339887).

ويُشار إلى كلا العددين بالنسبة الذهبية، ولا يمكن الوقوف عند أي رقم بعد الفاصلة مهما حاولنا الوصول إلى نهاية العدد. ويرمز إلى النسبة الذهبية برمز Φ (بالاتينية: فاي) كما هي عادة علماء الرياضيات باستخدام الأحرف اللاتينية، مثل ثابت النسبة المحيطية في الدائرة π (باللاتينية: باي).

العلاقة الرياضية التي تحكم النسبة الذهبية فاي والمستطيل الذهبي

ويمكن الاستعانة بعدة مجسمات وأشكال هندسية تظهر بها النسبة الذهبية، “كالمستطيل الذهبي” الذي يحقق طول ضلعه النسبة الذهبية بعد تقسيمه، ويظهر لنا داخل “المستطيل الذهبي” مربعٌ ومستطيل، وإذا قمنا بإزالة الجزء ذي شكل المربع، فإننا سنحصل على “مستطيل ذهبي” آخر يمكن تقسيمه لشكلين، وهكذا على نحو غير متناه، وعند توصيل المستطيلات بمنحنى يمر بها جميعا، فإننا نحصل على شكل “الحلزون الذهبي” الذي يعتمد على النسبة الذهبية كعامل نمو.

ولأنّ الطبيعة حولنا تنجذب نحو الصور الجمالية أكثر، ولأن المنحنيات أكثر جمالية من دونها في الأشكال الهندسية، نجد أن الحلزون الذهبي يتحقق في صور عدة في الكون مثل ظهوره في صدف “نوتيلوس” البحرية أو في بذور زهرة دوّار الشمس أو حتى على مستوى أعظم من ذلك بكثير كما في المجرات الحلزونية الضخمة للغاية.

متتالية فيبوناتشي.. الرقص على أنغم الرياضيات

ظهر في القرن الثالث عشر في المدينة الأثرية بيزا الشهيرة غربي إيطاليا، عالم رياضيات شاب ذاع صيته في أوروبا في فترة كانت القارة العجوز تعاني من تخلف علمي مريع امتد لقرون طويلة، كان يدعى ذلك الرياضياتي “ليوناردو غيلييلمي” (Leonardo Gulielmi)، وقد كان الشخص المسؤول عن اقحام نظام الترقيم العربي إلى الشعوب اللاتينية عن طريق كتابه في الرياضيات “ليبر أباتشي” (Liber Abaci) المنشور عام 1202(5).

متتالية فيبوناتشي الرياضية التي تحقق النسبة الذهبية، وذلك بجمع العدد مع العدد الذي قبله

لقد عُرف ليوناردو بعد وفاته باسم “فيبوناتشي”، وإليه تنسب أشهر متتالية رياضية على الاطلاق، متتالية “فيبوناتشي”، على الرغم من أن علماء الهند قد سبقوه بفترة طويلة بإيجادها أو بالأحرى باكتشافها، لكن ذلك لم يمنعه من أن ينال استحقاقية التسمية.

وقد تبدو المتتالية في غاية البساطة، إذ يساوي فيها الحد مجموع الحدين السابقين، كالآتي: 0, 1, 1, 2, 3, 5, 8, 13, 21…

وعلى نحو ذلك تستمر مضاعفاتها، ويكمن السر خلف هذا النمط الإعجازي في التسلسل هو علاقة متتالية فيبوناتشي بالنسبة الذهبية، إذ إنّ ناتج قسمة أي عنصر في المتتالية على العنصر الذي قبله يقترب شيئا فشيئا نحو تحقيق النسبة الذهبية (≈1.618).

الطبيعة تتكلم بالنسبة الذهبية

وهذه العلاقة لم تقف عند حد العمليات الحسابية فحسب، وإنما نرى الطبيعة حولنا تستجيب لهذه المتتالية السحرية، كما يظهر في أنماط انتشار بتلات زهرة الزنبق وزهرة القزحية (3 بتلات)، وزهرة كولومبين وزهرة العائق (5 بتلات)، وزهرة الحوذان (8 بتلات)، وزهور الأقحوان الخريفية (13 بتلة)، وزهرة أسترا (21 بتلة)، وزهرة ديزي (34 و55 بتلة)(6).

كثيرة هي مظاهر الطبيعة التي تحقق النسبة الذهبية، فهل ينمّ ذلك عن وحدانية الصنع أم أنها مجرد صدفة سعيدة؟

ويظهر كذلك في اصطفاف بذور دوّار الشمس، إذ إنها تتبع متتالية فيبوناتشي في الالتفاف حول المركز، ويعتقد علماء الطبيعة أن الزهور تسعى إلى الوصول إلى أفضل توزيع ممكن لاستغلال المساحة المتوفرة، ويتحقق ذلك فقط حينما تكون الزاوية الفاصلة بين كل بذرة والبذرة التالية زاوية تساوي 137.5 درجة، ويطلق عليها الزاوية الذهبية، وهي مرهونة بطبيعة الحال بالنسبة الذهبية “فاي”.

في الأدب والفنون والعمارة

حظيت رواية “شيفرة دافينشي” بزخم إعلامي كبير ونالت من آراء النقاد ما نالته، لأن كاتبها الأمريكي دان براون اعتمد التطرق إلى مسائل جدلية وربطها بأحداث تاريخية كالحديث عن جمعية “سيون” وصلة النبي عيسى عليه السلام بمريم المجدلية وعن لوحة العشاء الأخير، بالإضافة إلى البداية الغامضة للرواية التي تمثلت بمشهد موت أمين متحف اللوفر “جاك سونيير”، الذي قام بكتابة عبارات مشفرة حول جثته قبل وفاته بقلم حبر مائي غير مرئي، وقد أتضح أن سطرا من الطلاسم كان يشير إلى أرقام بدت عشوائية “1-1-2-3-5-8-13-21-34” قبل أن يقوم بطل الرواية بفك شيفرتها وترتيبها وفق متتالية فيبوناشي، لتصبح ذات معنى.

يعتقد محللون بأن سر لوحة الموناليزا التي رسمها ليوناردو دافنشي هي النسبة التي تقسمها ذهبيا طولا وعرضا وتفصيلا

وبالطبع، إن أي عمل فني يحتوي على النسبة الذهبية سيحظى بجاذبية خاصة كما يتحقق ذلك في جل أعمال الفنان الشهير “ليوناردو دافينشي” (Leonardo da Vinci) في عصر النهضة الأوروبية، انطلاقا من أعجوبته الموناليزا، أو في لوحته الرجل الفيتروفي، والتي تبيّن نسب أطوال أعضاء الإنسان المثالية كالكف والذراعين وفقا للنسبة الذهبية.

وقد قام عالم الرياضيات الإيطالي “لوكا باسيولي” (Luca Pacioli) بتأليف كتاب عن خصائص النسبة الذهبية وتطبيقاتها في الهندسة والعمارة، وعن الفن البصري من خلال الرسم المنظوري، ونشره عام 1509، وأطلق عليه “النسبة الإلهية” (باللاتينية: Divina Proporción) مستعينا بقدرات ليناردودا فينشي الفنية في الرسومات التوضيحية.

معابد وآثار.. هندسة القدماء الذهبية

بدا أن النسبة الذهبية كانت تتردد بانتظام وتظهر في المجسمات والهياكل المعمارية الأثرية على الرغم من ضخامتها، كما هو الحال في التحفة الفرعونية الخالدة هرم خوفو في الجيزة، أو جامع عقبة بن نافع -أقدم جامع في مدينة القيروان- الذي باستخدام تقنية تحليل الأبعاد، يكشف لنا أن المصصمين قد اعتمدوا على النسبة الذهبية باستمرار في تصميم جميع أنحاء الجامع.

معبد “البارثينون” في العاصمة التاريخية أثينا، تحتوي واجهته الأمامية على مستطيلات بنسبها الذهبية

وتظهر دراسة مُقدمة من معهد فلوريدا للتكنولوجيا عام 2007، أن معبد “البارثينون” (Parthenon) الواقع أعلى هضبة الأكروبوليس في العاصمة التاريخية أثينا، تحتوي واجهته الأمامية على مستطيلات بنسبها الذهبية، كما أن علماء الآثار قد أشاروا أن ذلك قد يكون بلا قصد أو دون حسابات دقيقة، لكن على أية حال قد يكون الأمر لاعتبارات أخرى مثل استقرار البناء والحس الجمالي(7).

كما أن أكثر المعماريين الحداثيين يصممون غرف المنازل والفيلات وغرف الجلوس بنفس النسبة الذهبية، لما فيها من راحة للنفس، وتوزيع جمالي يفتقر إليه المستطيل العادي أو الشكل المربع لتلك الغرف.

وقد يخفى على الإنسان منذ القدم أسرار ما خلف الطبيعة وتفاصيل رياضية ساحرة، إلا أنه لغاية تحقيق الانسجام والتناغم مع ما حوله، نجده غريزيا يرنو نحو الصور الأكثر تلاؤما، تماما كما يقود الإلهام الإلهي المخلوقات من حوله، فإنه كذلك يُجذب لذات الإلهام.

 

المصادر

[1] والتشوفر، ناتاليا (2010). كم عدد الطرق المختلفة التي يمكن أن كشفها في لعبة الشطرنج؟. تم الاسترداد من: www.popsci.com

[2] ميسنر، جاري (2012). اقتباسات متعلقة بثابت فاي. تم الاسترداد من: www.goldennumber.net

[3] محررو الموقع. النسبة الإلهية. تم الاسترداد من: www.keplersdiscovery.com

[4] ليفيو، ماريو (2002). قصة فاي، أكثر عدد مذهل في العالم. نيويورك: كتب بوردواي. ص6

[5] محررو الموقع (2015). الأرقام العربية في أوروبا. تم الاسترداد من: www.italiamedievale.org

[6] زاتروتشوفا، ميكايلا (2015). ما الرابط بين بتلات الزهور وتسلسل فيبوناتشي؟. تم الاسترداد من: www.vedanadosah.cvtisr.sk

[7] أجارول، رافي (2007). النسبة الذهبية في العلوم كمصدر تسلسل عشوائي وتطبيقاتها وما بعد ذلك. قسم العلوم الرياضية، معهد فلوريدا للتكنولوجيا.