“لجوء بين قارات ثلاث”.. انتصار عائلة سورية في مواجهة النظم الدولية

كثيرة هي القصص المؤثرة التي خلفتها الحرب في سوريا، وكانت نهاية بعضها حزينة بينما انتهت أخرى نهايات سعيدة، أما القصة التي نحن بصدد الحديث عنها فقد تكون فريدة من نوعها.

يروي فيلم “لجوء بين ثلاث قارات” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية قصة عائلة سورية عالقة في ثلاثة بلدان مختلفة بعد أن فرقتها الحرب، فالأم رنا الأغا فرت في إحدى القوارب إلى أوروبا ومنها نُقلت إلى الدانمارك، والأب مخلص الفارس يعيش في كندا، أما طفلاهما نضال (17 عاما) وجاد (11 عاما) فهما يعيشان في تركيا، إنه لجوء ثلاثي الأبعاد دفع الوالدة لبذل مجهودات كبيرة ومحاولات حثيثة لإعادة لم شمل العائلة.

تُظهر بداية الفيلم وصول رنا -التي تعمل طبيبة- على متن أحد القوارب المطاطية إلى أوروبا وهي تبكي وتقول إنها تريد العيش بأمن وأمان بعيدا عن الحرب والقتل والدمار، وتأمل بأن يعاد لم شمل عائلتها مجددا، مؤكدة أنها المرة الأولى التي تبتعد فيها عن ولديها.

رنا الأغا.. اندماج في المجتمع الدانماركي

بعد عام من وصولها تحاول الطبيبة رنا الاندماج في المجتمع الدانماركي وتعلم اللغة، وفي الوقت نفسه تواصل مساعيها لإحضار ولديها اللذين يعيشان لوحدهما في تركيا بعد نجاحهما في الهروب من جحيم الحرب.

الاتصال المرئي هو الوسيلة الوحيدة التي تتواصل بها رنا مع ولديها، فمرة تحتفل بعيد ميلاد جاد وتغني له بهذه المناسبة، وتارة تتحدث مع نضال وتوصيه بأخيه الصغير وتتبادل معهما الأحاديث.

بعد تفرق العائلة، يعيش نضال وجاد وحيدين في تركيا بعيدا عن والدتهما في الدانمارك ووالدهما في كندا

نضال وجاد.. عائلة من القاصرين في بلاد الأناضول

يعمل نضال -الذي عاش مع أخيه في شقة لوحدهما بمدينة مرسين التركية- بوصية والدته بالاعتناء بأخيه جاد، فقد أصبح في مقام الأب والأم بالنسبة له، فهو يغسل له ملابسه ويحضّر له الطعام ويوصله للمدرسة، ويحاول الشقيقان مواصلة حياتهما بشكل طبيعي في انتظار تحسن الظروف.

يروي جاد لزملائه في المدرسة كيف سافر والده أولا إلى كندا، ثم ركبت الأم قاربا مطاطيا للجوء إلى أوروبا، أما هو فقد رفض مرافقتها لأنه كان خائفا.

والد الطفلين مخلص يعمل في كندا في مطعم بعد أن كان طبيب المنتخب السوري

مخلص عامل المطعم.. غربة طبيب المنتخب في أوتاوا

في العاصمة الكندية أوتاوا يعيش الأب مخلص وحيدا ويتواصل مع رنا أيضا عبر الاتصال المرئي، وعادة ما يدور الحديث حول أوراق الهجرة واللجوء وكيفية لم الشمل.

ويحاول مخلص دائما مساعدة ولديه وإرسال الأموال إليهما ليعيشا بكرامة في تركيا، ويعوض غيابه بالاتصال المرئي، ويسمع منهما مشاكلهما والمصاعب التي تواجههما في غياب الأم والأب.

يعمل مخلص -الذي كان طبيب المنتخب السوري لكرة القدم- في مطعم بأوتاوا وينتظر حصوله على الإقامة الدائمة لأسباب إنسانية بعد رفض طلبه للجوء.

في ثلاث قارات، يتم التواصل بين أفراد العائلة عبر المكالمات المرئية

كندا والدانمارك.. معارك لم الشمل على جبهات مختلفة

لم يبق لمخلص في غربته ووحدته سوى صوره عندما كان في سوريا وصور ولديه عندما كانا طفلين وصور شبابه مع زوجته، يطالع تلك الصور كلما اشتاق إليهم، ويريها للعاملين معه في المطعم.

من جهتها، لا تكلّ رنا أو تمل من محاولاتها الحثيثة لجمع عائلتها، وتحكي قصتها لكل من يبدي استعدادا لمساعدتها.

تقول رنا: أنا هنا منذ سنة ونصف، وكنت أظن أنني خلال 6 أشهر أستطيع أن أجتمع مع ولديّ، ولكن هذا لم يحدث، ووالدهما يعيش في كندا ولم ينجح في الحصول على إقامة دائمة، ولذا لا يستطيع جمع شمل العائلة، ولهذا لا نستطيع الذهاب إلى أي مكان، نحن عالقون، إنهما طفلان يعيشان لوحدهما، وأنا بعيدة عنهما.

جاد الصغير  في تركيا يلعب وحيدا لأنه لم يتعرف على أصدقاء يلعب معهم

“ألعب وحيدا فليس لدي أصدقاء”.. كوابيس الأطفال في غياب الأم

بينما يسعى الوالدان بكل ما أوتيا من قوة لجمع شمل العائلة، كان نضال وجاد يعانيان من الوحدة التي بدأت تؤثر عليهما نفسيا.

يقول جاد: عندما أكون نائما أرى كوابيس كثيرة، عندما كانت والدتي في المنزل معي لم أحلم يوما بكوابيس، ألعب وحيدا فليس لدي أصدقاء، أنا وأخي لا نبتعد كثيرا عن المنزل، مشتاق كثيرا لوالدتي، وأطلب من المحامي التسريع في أوراقي أنا وأخي حتى أجتمع مجددا بوالدتي، نضال يقترب من عامه الـ18، وهذا يعني تعقيدات كثيرة على طلب الهجرة.

الملف الكبير الذي قدمه مخلص إلى الحكومة الكندية للحصول على الإقامة الدائمة ولما يحصل عليها بعد

مكتب الهجرة الكندي.. رحلة البحث عن الإقامة الدائمة

في كندا يعرض مُخلص ملفا من مئات الصفحات قدمه إلى الحكومة الكندية للحصول على الإقامة الدائمة، ويقول إن موظف الهجرة يحتاج لعام كامل لقراءته.

ويتابع في حوار مع صديق: أنغمس في العمل، وأشغل نفسي بأمور كثيرة، حتى أنسى قضيتي وأزماتي، كثيرون لا يعلمون أنني في كندا وزوجتي في الدانمارك وولداي في تركيا، يظنون أن عائلتي لا تزال في تركيا، أشعر بالخجل لأن عائلتي تفرقت بهذا الشكل ولأنني بعيدا عنهم، الأمر الآخر أن معظم أصدقائي يظنون أنني أعمل في مستشفى، وأنا أشعر بالخجل لأنني أعمل في مطعم، لأنها ليست وظيفتي.

ويعرض مُخلص على صديقه صورا من عيادته ومنزله اللذين دُمرا كليا في حلب، ويسأل لماذا استهدفتنا الحرب ونحن لم نؤذ أحدا في العالم.

الأم رنا تحصل على جواز سفر دانماركي بعد أقل من سنة من إقامتها هناك

وثيقة السفر الدانماركية.. غيمة أفراح وعاصفة أتراح

وسط الأخبار السيئة القادمة من كندا وتركيا، تلقت رنا -التي باتت تتكلم اللغة الدانماركية بشكل جيد- أخيرا نبأ سعيدا يتمثل بحصولها على وظيفة في أحد المستشفيات حتى قبل اعتماد شهادتها من طرف السلطات.

ولم تتوقف الأخبار السعيدة هنا، بل إنها حصلت أيضا على وثيقة سفر دانماركية تخول لها السفر ورؤية ابنيها في تركيا بعد تقديمها على تأشيرة من السفارة التركية، غير أن هذه الأفراح تحولت لأتراح بعدما رفضت السفارة التركية منحها تأشيرة دخول، ليعود الحزن ويخيم مجددا على العائلة المشردة التي بدأ يتسلل إليها الملل واليأس من لم الشمل والاجتماع مرة أخرى.

فقد بات الانتظار يقض مضاجع العائلة المشتتة بين أصقاع الأرض، فالأب يواصل العمل، والأم مستمرة في مساعيها مع المحامين، والولدان يحاولان التأقلم وعدم الاستسلام والأمل في مستقبل مشرق قريبا.

تحاول رنا السفر إلى تركيا لرؤية ولديها لكنها تتعثر بالتأشيرة التي لم تصدر

منع الصعود إلى الطائرة.. عودة إلى المربع الأول

في خضم الحزن والملل واليأس، جاء اتصال لرنا من محاميها يؤكد أن السلطات الدانماركية وافقت على قدوم نضال وجاد إلى الدانمارك خلال شهر، ليعيشا مع والدتهما، وعندما أخبرتهما، قفز جاد الصغير من الفرحة وبكى نضال من الغبطة.

لتبدأ رحلة نضال وجاد في حزم أمتعتهما تمهيدا للسفر واللقاء الذي طال انتظاره، كما شاهدا فيديوهات تُعلم اللغة الدانماركية بطريقة سريعة وسهلة حتى يكونا جاهزين بعدة كلمات حين يصلان إلى مكان عيشهما الجديد.

وفجأة، حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد مُنع نضال وجاد من الصعود إلى الطائرة وطلبت منهما السلطات التركية العودة لمنزلهما لأن أوراقهما غير مكتملة، وقد نزل الخبر كالصاعقة على رنا ومخلص والولدين وأعاد الأمور إلى المربع الأول.

بعد جهد كبير بذلته الأم، يحصل الولدان على لم شمل في الدانمارك فتجتمع العائلة عدا الأب

دموع اللقاء.. نصف الشتات ونصف التشرد

تعود رنا إلى عملها في المستشفى وتواصل بنفس الوقت مساعيها لحل المشكلة وجلب ولديها إلى الدانمارك، الخطوة الأخيرة كانت توقيع تعهد في السفارة التركية بأنها موافقة على سفر ولديها لوحدهما، ويعود جاد ونضال لحزم حقائبهما من جديد، ولكن هذه المرة نجحا في مغادرة تركيا ووصلا إلى كندا وكانت رنا في انتظارهما بلقاء مؤثر اختلطت فيه دموع العائلة المشتتة بعد أشهر من الانتظار.

وهناك دخل نضال وجاد مدرسة لتعلم اللغة الدانماركية، وأصبحا يتأقلمان خطوة خطوة في المجتمع الدانماركي. وفي مكالمة مصورة تقول رنا لزوجها: أمور الأولاد جيدة، ولكن هي صعوبات البدايات، هذا أمر متوقع، ولكنهما تغيرا علي، فقد أصبحا أنضج من السابق، حتى بت أطرح على نفسي سؤالا: أين أولادي؟

وبعد نجاح رنا في لم شمل ولديها، يبقى مخلص وحيدا يعاني في كندا بعيدا عن عائلته، يشاهد صور وفيديوهات العائلة القديمة بحسرة، فرنا تعيش مع ولديها في الدانمارك منذ عامين ومخلص ينتظر أوراقه في كندا، على أمل أن تتحسن الأوضاع يوما ويلتم شمل عائلة شتتها الحرب ودمرت ماضيها.