محركات التحليق.. ثمرة ألف عام من تمرد الإنسان على الجاذبية

يمان الشريف

استطاع الروائي الفرنسي الشهير “جول فيرن”، أحد رواد أدب الخيال العلمي، أن يتطرق إلى ما لم يتطرق إليه أحد من قبله بوضع آلية ومسارا يتيحان للبشرية سبيلا نحو الفضاء في الثنائية الروائية “من الأرض إلى القمر” و”حول القمر”، وتدور أحداثهما حول تاجر يعمل في مجال صناعة الأسلحة في ولاية “فلوريدا” ويدعى “إمبي باربيكان”.

ومع نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، يسعى التاجر “باربيكان” إلى بناء مدفع ضخم قادر على إرساء قذيفة على سطح القمر، ليكون أولّ كائن بشري يحقق هذا الإنجاز.

 

لقد ادّعى الكاتب أنّ هذا السلاح بُني وفق حسابات رياضية نتج عنها مدفعية ضخمة يصل طولها إلى 270 مترا وفوهة بنصف قطر يبلغ 2.7 مترا، مصنوعة من الحديد الصلب (Cast Iron).

وعُرف هذا السلاح منذ ذلك الحين باسم “بندقية الفضاء” أو بندقية “فيرن” نسبة إلى المؤلف، ومهما كانت فعالية السلاح على أرض الواقع، فإنّ الحبكة التشويقية التي تطرقت إليها الرواية مهدت لمهندسي الفضاء المغامرة في سبيل صناعة ما هو قادر حقا على التحليق إلى الفضاء، وربّما الصعود إلى القمر كما تروي أحداث القصة.

“كاي كنج”.. صواريخ الصين تضرب الغازي المغولي

لن تستطيع القذيفة المدفعية بالتأكيد الهروب من جاذبية الأرض إلى الفضاء الخارجي، فضلا عن الوصول إلى القمر، غير أن مفهوم عمل صواريخ الفضاء اليوم ينحدر من ذات الفكرة، فكرة القذيفة المدفعية، لكن بدلا من أن يكون انفجارا واحدا، تكون هناك عدة عمليات متتالية من الانفجار أو الاحتراق -إن صح التعبير- في جوف محركات الصواريخ لتمنحها الزخم الكافي لمواصلة التحليق.

ويعود تاريخ أول صاروخ بدائي إلى حقبة حكم سلالة “سونغ” الصينية التي حكمت منذ نهاية الألفية الأولى وحتى عام 1279. فكانوا أول من ابتكر خليط البارود الذي ظهر في بادئ الأمر لغرض العلاج على أيدي رجال الدين التابعين لديانة “الطاوية” الصينية. ثمّ لاحقا تبنّت الأسر الحاكمة استخدام البارود في المجال الحربي لقدرته التفجيرية.

 

ويتكون البارود من خليط بسيط من الكبريت والكربون اللذين يعملان عمل الوقود، ونترات البوتاسيوم “الملح الصخري” التي تعمل عمل المادة المؤكسِدة وتساهم وتساعد على الاحتراق بكثافة وشدة.

ولم يمض وقت طويل حينما اكتشف أحدهم بأنّ وضع البارود داخل ساق نبات البامبو وربطه بالسهم ثمّ إطلاقه، سيمنح زخما إضافيا للسهم وقدرة على التحليق لمسافات أطول. وشهد عام 1232 أول استخدام حقيقي للصواريخ بنموذجها المعاصر في معركة “كاي كنج” بين الصينيين والغزاة المغول.

أُطلِق على هذه الصواريخ “سهام النار الصينية” (Chinese Fire Arrows)، وكانت تشبه في ظاهرها الصواريخ الحالية، إذ كانت قضبانا خشبية طويلة ملتصقة بأنبوب أصغر حجما ومغلقة من جهة ومفتوحة من الجهة الأخرى ومعبأة بالبارود، وعند إشعال البارود، ينطلق السهم الناري بفضل قوة الطرد الناتجة من الاحتراق، واصطلاحا عند مهندسي الفضاء اليوم، يُطلق على هذا النوع من الصواريخ بصاروخ ذات الوقود الصلب (Solid Propellant).1

تجزئة الإطلاق.. ثورة الصواريخ الألمانية في العصور الوسطى

بعد معركة “كاي كنج” انتشر البارود على نطاق واسع، مع المزيد من التعديلات على نماذج مختلفة للصواريخ بعدة ممالك ودول، وذلك بفضل انتشار المغول ونشرهم تلك العلوم في أقصى القارات.

وكان من المحطات المهمة كذلك إرسال الألماني “يوهان شيمدلاب” في القرن السادس عشر صاروخا بعمليتي إطلاق متتاليتين. لقد استحدث “شيمدلاب” حينها مفهوما جديدا في آلية عمل الصواريخ، ويعد أحد الركائز الأساسية اليوم في عملية إرسال الصواريخ، وهو عملية تجزئة الإطلاق (Staging) في أثناء الرحلة على عدة مراحل ليساعد الصاروخ على التخلص من حمل إضافي وتخفيف العبء عند انقضاء كل مرحلة.

 

فعلى سبيل المثال، يحتوي الأيقونة الذهبية صاروخ “ساترون 5” (Saturn V) على 3 أجزاء أو مراحل لكي يصل إلى السرعة المطلوبة في نهاية الأمر.

كما أنّ المؤرخ الفرنسي “جان فرويسارت” في عام 1410 ذكر في أحد نصوصه فكرة إطلاق الصواريخ النارية من داخل أنابيب ضخمة ليحافظ الصاروخ على مساره بعد الإقلاع، وكل ذلك يؤدي بشكل أو بآخر إلى مضمون الشكل الهندسي الذي استقر عليه المهندسون اليوم في تصميم المحركات التي تقود الصواريخ.2

آلية الدفع.. وسيلة الآلات والكائنات الحية إلى التحليق

يُشار إلى علم الصواريخ (Rocket Science) بالعلوم التعجيزية للعقل البشري، ومن جهة فالأمر لا يبدو دقيقا هنا، فعلى سبيل المثال، ما يُستخدم اليوم في تحرير جسم أي مركبة فضائية من جاذبية الأرض يعتمد بشكل أساسي على قوانين وُضِعت قبل خمسة قرون، هي قوانين نيوتن للحركة.

ومن جهة أخرى، تكمن الصعوبة في تسخير التشعبات في إنشاء منظومة متكاملة لعدة محاور تتوافق مع بعضها، لنجاح عملية إطلاق الصاروخ، ومن تلك المحاور تصميم “آلية الدفع” المسؤولة عن تحريك الصاروخ وضبط حركته وسرعته، وهي تمثل حجر الزاوية لكل مشروع هندسي فضائي.

فكرة الصواريخ تقوم على مبدأ قانون نيوتن الثالث “لكل فعل ردة فعل”

 

وآلية الدفع أو الدَسر (Propulsion) لا ينحصر وجودها فقط في الآلات وإنما توجد على نطاق واسع في المخلوقات الحيّة، مثل قدرة النحل على التحليق بواسطة الأجنحة “آلية دفع”، أو الزعانف التي تمكن الأسماك على السباحة وغيرها من الأمثلة.

وفي عالم الهندسة، وفي مجال هندسة الفضاء والطيران على وجه الخصوص، تختلف “أنظمة الدفع” (Propulsion Systems) وفق ما تتطلبه المركبة، فأنظمة الدفع في الطائرات تختلف عن نظيرتها تلك التي في الصواريخ الفضائية وهكذا، إلا أن جميعها تنتمي إلى عائلة أنظمة الدفع النفاث (Jet Propulsion).

أنظمة محركات الدفع النفاث.. قانون نيوتن الثالث

يُنظر إلى لفظ “جيت” (Jet) -أي نَفّاث- على أنه أحد الألفاظ الشائعة المستخدمة على نطاق واسع في المجال التقني والهندسي، ويعني تيار الموائع السريع المتدفق بشدة عبر فتحة ضيّقة، وأنظمة الدفع التي تعتمد على هذه الخاصية يُطلق عليها أنظمة الدفع النفّاث.

والحيلة الفيزيائية التي تكمن وراء عمل هذه الأنظمة من الممكن استخلاصها من قانون نيوتن الثالث الذي ينص على أنّ لكل فعلٍ ردة فعل مساوية له بالمقدار ومعاكسة بالاتجاه. فالأمر بكل بساطة يعتمد على تلك المادة التي تمنح زخما بالمقدار المطلوب لتحريك الجسم الهندسي. وتنقسم أنظمة الدفع النفاث إلى قسمين في المجمل:

 

القسم الأول: أنظمة “الدفع عبر القناة” (Duct Propulsion)، وتعتمد على استغلال الهواء المحيط وإدخاله عبر الفوهة الأمامية للقناة، ثمّ بآلية معيّنة يجري تنشيط هذا الهواء وزيادة سرعته ثمّ إخراجه من الطرف الآخر عبر فوهة خاصة (Nozzle). وبسبب اعتماد هذه الأنظمة على الهواء، يُطلق عليها مجازا “المحركات المستنشقة للهواء” (Air-Breathing Engines).

القسم الثاني: أنظمة “دفع الصواريخ” (Rocket Propulsion)، وتولّد قوة الدفع عن طريق تفاعل مواد مخزنة بداخل النظام نفسه، ويُطلق على هذه المواد المخزنة الوقود أو “الطاقة الدافعة” (Propellant).

محركات “تربوجيت”.. خطوة الألمان التي سبقت معسكر الحلفاء

للحديث ببعض التفصيل عن أنظمة “الدفع عبر القناة”، فإنها كما أشرنا سابقا تعتمد على الأوكسجين الموجود في الهواء لحرق الوقود المخزّن داخل المركبة، ثمّ إطلاق جميع الموائع بسرعات عالية، وتُعد محركات “تربوجيت” (Turbojet) أبسط النماذج لهذا النمط من أنظمة الدفع.

إن الشكل الهندسي لمحركات “تربوجيت” يعتمد بصورة أساسية على وجود “الترباين” (Turbine) أو العَنَفة، وهو أسطوانة دوّارة تتحرك بشكل دائري حول المحور بفضل مرور المائع سواء كان سائلا أو غازيا.

ويعمل “الترباين” على ضغط الهواء ورفع درجة حرارته إلى مستويات عالية للغاية، ثم يُحقن هذا الهواء المضغوط بالوقود في حجرة الاحتراق (Combustion Chamber) بشكل آلي، ثمّ يخرج العادم من الجزء الخلفي من المحرك بسرعات عالية جدا، فتدفع الطائرة إلى التحليق.

يعتمد سرعة الطائرة على قدرة محركها النفاث ويمكن للطائرة أن تبقى محلقة بمحرك واحد في ظروف استثنائية

 

لقد طرح أول نموذج لهذا المحرك عام 1928 عن طريق المهندس البريطاني “فرانك ويتل” لسلاح الجو الملكي، إلا أنهم كانوا بطيئين في الاستجابة مما منح فرصة للمهندسين الألمان ليتقدموا خطوة على الحلفاء قبيل الحرب العالمية الثانية، فاستطاعوا بناء أول طائرة تعمل بواسطة محرك “تربوجيت” في عام 1939، وهي طائرة “هنكل” (Heinkel HE-178).

“بوينغ 707”.. إرث الحرب العاجز عن إثبات الكفاءة

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، دخلت محركات “تربوجيت” حيز العمل في مجال الطيران المدني، فكانت طائرة “بوينغ 707” هي أول طائرة مدنية تحلق بهذا المحرك في عام 1954.

لكن الأمر لم يدم طويلا على هذا الحال، إذ أنّ محركات “تربوجيت” لا تعمل بكفاءة عند السرعات المنخفضة، أي السرعات التي لا تتجاوز سرعة الصوت، لذا كان ينبغي نشوء نوع جديد من هذه المحركات بإضافة مروحة عند مقدمة “الترباين”، كالمراوح الضخمة التي نشاهدها اليوم في طائرات الركاب عند مقدمة المحركات.

وبهذا التعديل بإضافة المروحة الأمامية إلى محركات “تربوجيت”، نشأ نموذج محركات “تربوفان” (Turbofan) الذي أثبت كفاءته، وبات يهيمن على الطائرات المدنية حول العالم منذ ذلك الحين. والسبب الرئيس والفعّال لوضع المروحة على هذا النحو هو توجيه الهواء نحو المحرّك للاستفادة من أكبر قدر ممكن من الهواء.3

وأما بالنسبة لمحركات “تربوجيت” فإنّ استخدامها لم يتوقف، بل إنها سلكت طريقا مغايرا وأكثر تحديا في عالم السرعات الفائقة، حيث يعمل هذا النمط من المحركات بكفاءة عالية جدا، لكن في حدود الغلاف الجوي فقط، وإذا أردنا أن نبتعد أكثر من ذلك، فإن علينا الآن أن نتجه نحو عالم محركات الصواريخ.

مصادر الطاقة.. جهد إنساني يكسر احتكار السماء

كما هو ظاهر من اسم محركات الصواريخ، فأنظمة هذه المحركات لا تعمل إلا لغرض إطلاق الصواريخ، وعلى الرغم من أنها تتوافق مع أنظمة محركات الطائرات باعتبارها جميعها محركات نفاثة، فإن آلية إنتاج الطاقة هنا تختلف بعض الشيء، فلا وجود للهواء خارج الغلاف الجوي، ولا وجود لأي غاز خارجي يساعد على عملية الحرق، وإنما كلّ ما يستخدم من وقود يكون من ضمن نظام المحرك نفسه.

تختلف قدرات الصواريخ باختلاف كمية الوقود المزودة بها هذه الصواريخ ووزنها ومهمتها المنوطة بها

 

ويواجه مهندسو الفضاء بشكل مستمر إشكالية التوفيق بين كتلة الصاروخ الكلّية والوقود اللازم، إذ أنّ إرسال كيلوغرام واحد من المادة إلى المدار القريب من الأرض، يستهلك من الصاروخ طاقة تعادل 30 مليون جول، وكلما اتسع المدار أو وجهة الرحلة الفضائية، تزداد الطاقة اللازمة.4

وعندما تزداد الطاقة اللازمة، يزداد الوقود فتزداد كتلة الصاروخ، ثمّ تزداد الطاقة اللازمة وهكذا إلى أن يتحقق التوافق في نقطة ما. ويمثل الوقود دوما النسبة الأكبر من كتلة الصاروخ، إذ يصل متوسط كتلة الوقود إلى 90% من الكتلة الكلّية.

كما أنّ ثمّة ثلاثة أنواع من مصادر الطاقة في محركات الصواريخ وهي: طاقة كيميائية ونووية وشمسية. وتعد الطاقة الناتجة من التفاعل الكيميائي هي الأكثر استخداما وشيوعا.

ويجري هذا التفاعل بوجود الوقود مثل الكيروسين والهيدروجين السائل بالإضافة إلى مادة مؤكسِدة مثل الأوكسجين السائل وتنتج عن التفاعل حرارة شديدة تتراوح بين 2500 إلى 4100 درجة مئوية، وتصل سرعة نفاذ العادم من المحرك إلى 4300 متر في الثانية.

ونظرا إلى أن درجات حرارة الغاز هذه تتجاوز ضعف درجة انصهار الفولاذ، فإن المهندسين يحرصون دوما على تبريد أو عزل جميع الأسطح المعرضة للغازات الساخنة.5

إنّ العمل الدؤوب الذي انتهجه الإنسان خلال القرن الماضي في هذا المجال لم يفتح له نافذة فقط إلى السماء، بل منحه الأفق كلّه ليحلّق فيه، وبفضل هذه المحركات التي تطورت على مدار عقود لم تعد السماء حكرا على الطيور، ولم يعد الفضاء بعيد المنال.

 

المصادر:

[1] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). جذور علم الصواريخ. تم الاسترداد من: http://abyss.uoregon.edu/~js/space/lectures/lec01.html

[2] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). من القرن الثالث عشر حتى السادس عشر. تم الاسترداد من: https://www.grc.nasa.gov/www/k-12/rocket/BottleRocket/13thru16.htm

[3] كلايبورون، مات (التاريخ غير معروف). الفرق بين محركات التربوجيت والتربوفان. تم الاسترداد من: https://aerocorner.com/blog/turbojet-vs-turbofan/

[4] أليان، رهيت (2011). إطلاق مكوك الفضاء. تم الاسترداد من: https://www.wired.com/2011/07/space-shuttle-launch-equator-vs-mountains/

[5] سوتن، جورج، وبيبلارز، أوسكار (1949). عناصر الدفع الصاروخي. نيو يورك، جون ويلي آند سونز. النسخة السابعة. ص6