مزارعون بلا أرض.. شركات تستحوذ على الأرض وتشرد أهلها

في الوقت الذي يعمل فيه المزارعون في الأرض ليخرجوا من ثرواتها وخيراتها ما يؤمّن لهم رغد العيش الكريم، تقوم الكثير من الدول بمصادرة الأراضي الزراعية من المواطنين وبيعها لكبار المستثمرين العالميين في مجال الصناعات الغذائية.

ويعتبر ترحيل المزارعين الصغار من الأراضي ذات التربة الجيدة التي توفر محاصيل إنتاجية كبيرة، وإعطائها لمستثمرين أجانب، أمرا عاديا في كثير من الدول الآسيوية والأفريقية.

وفي فيلم بعنوان “مزارعون بلا أرض” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية تحدث عن الاعتداءات والتجاوزات الإنسانية التي يتعرض لها أصحاب الأراضي الزراعية في دول مختلفة من أنحاء العالم من قبل الشركات العاملة في مجال الصناعات الغذائية، والتي أصبحت تمثل نوعا من الاحتلال الجديد الذي يهدف إلى الاستيلاء على الثروة الزراعية.

ذريعة الأمن الغذائي

في بداية القرن العشرين، سُجلت حالات من الوفيات في مناطق مختلفة بسبب المجاعة ونقص الطعام، وحينها اتجهت الدول الكبرى والاتحاد الأوروبي لدعم الشركات العاملة في مجال الصناعات الغذائية.

وبعد ارتفاع المواد الأساسية في سنة 2007، زاد الاهتمام بالاستثمار في الزراعة للتغلب على التحديات التي من المحتمل أن تواجه العالم في المراحل القادمة.

وبلغت المعونات المقدمة للأنظمة الزراعية في دول بريكس (الدول الأسرع نموا اقتصاديا في العالم) ومنظمة التعاون والتنمية في المجال الاقتصادي في الوقت الحالي ما يقارب 430 مليار دولار.

في دولة كمبوديا الاستحواذ على الأراضي الزراعية وتشريد أصحابها حالة معتادة

ويرى جون غيلز مستشار الاستثمارات الزراعية أن عدد سكان العالم سينمو بسرعة خلال السنوات القليلة المقبلة، وتشير التقديرات إلى أن عدد سكان العالم سيصل إلى 10 مليارات نسمة على مدى العقود الثلاثة القادمة، والعمل على تأمين الغذاء للبشر سيخلق تحديا كبيرا.

لكن الجهود التي تبذلها الشركات الكبرى لم تساهم في رحمة الفقراء والتخفيف من غلاء أسعار الغذاء، وإنما كانت لعنة وسببا في تشريد الضعفاء وتركهم يواجهون جشع رجال الأعمال وإهمال الحكومات.

كمبوديا.. طرد المزارعين

الاستحواذ على الأراضي الزراعية وتشريد أصحابها حالة معتادة في دولة كمبوديا، رغم محاولات التوعية بين الناس التي يقوم بها الرهبان وكثير من الناشطين.

ويستخدم الساسة وكبار المسؤولين شتى أنواع العنف لتهجير المواطنين عن أراضيهم الزراعية، لتبقى لأصحاب النفوذ والثراء.

وقد قامت شركة السكّر التي يملكها عضو الحزب السياسي الحاكم في كمبوديا السيناتور لي يونك بطرد 1000 عائلة كانت تسكن في الحقول الزراعية، وأحرقت منازلهم وتركتهم دون تعويض.

وبعدما أجّرت الحكومةُ الأرض للسيناتور، وفّرت له وحدات عسكرية لطرد المواطنين الذين سكنوا الأرض منذ أمد بعيد وعاشوا من زراعة الأرز في حقولها.

وقبل سنة 2008 لم يكن لشركة السكر أي وجود في الأراضي الكمبودية، لكن السيناتور لي يونك بعد صفقته مع الحكومة أصبح لديه مساحات زراعية تزيد على 80 ألف هكتار. وتُعفى صادرات هذه الشركة إلى الاتحاد الأوروبي من الرسوم الجمركية وجميع أنواع الضرائب.

الحكومة الكمبودية أعطت 65% من الأراضي الزراعية للمستثمرين الأجانب
الحكومة الكمبودية أعطت 65% من الأراضي الزراعية للمستثمرين الأجانب

وفي حديثه بالوثائقي قال المزارع وعضو البرلمان الأوروبي مارتن هوسلينغ إن المفوضية العليا للاتحاد الأوروبي تلقت في سنة 2012 قرارا وافق عليه البرلمان يقضي بإجراء تحقيق في كمبوديا عن التجاوزات التي تنتهك حقوق الإنسان من قبل شركات السكر، ولكن القرار لم يطبق لأن الحكومة الكمبودية قالت إن الاعتداء على أراضي المواطنين قد توقف.

وفي كمبوديا أيضا، تستقبل المعابد الدينية مئات من البوذيين المطرودين من أراضيهم التي تم تأجيرها لشركات ومستثمرين أجانب من فيتنام.

ويقول الخمير الحمر (وهو الحزب السياسي الذي حكم كمبوديا منذ عام 1975 إلى عام 1979) الذين تم طردهم من كمبوديا، إن أرضهم تم تأجيرها لشركة فيتنامية حصلت على 2000 هكتار كانوا يعيشون فيها منذ أمد بعيد.

وقد عرض الفيلم لقطات توثق قمع رجال الأمن للمتظاهرين الكمبوديين الذين هُجِّروا من مساكنهم وأصبحوا لاجئين بدور المعابد، بحثا عمن يؤمن لهم قوت يومهم.

وحسب الإحصاءات، فإن الحكومة الكمبودية أعطت 65% من الأراضي الزراعية للمستثمرين الأجانب، دون مراعاة لواقع المواطنين الفقراء الذين لا وسيلة لهم في الرزق غير الحقول الزراعية التقليدية.

رومانيا.. هيمنة رؤوس المال

وفي رومانيا ومنذ سنة 1990 اشترى المستثمرون الأجانب 700 ألف هكتار من الأراضي الزراعية هناك. ويقول أصحاب الشركات المستثمرة إنهم حصلوا على الأراضي عبر الطرق القانونية، وإن أغلب من يبيعهم من كبار السن والفقراء الذين ليست لديهم قدرة على الزراعة أو الاستغلال.

وفي برنامجه الهادف إلى زيادة الأمن الغذائي، يدعم الاتحاد الأوروبي الأعمال الزراعية الكبيرة، لكن ذلك الدعم لا يستفيد منه صغار المزارعين، وإنما أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، لأن الإعانات تستهدف المساحات المزروعة ولا تقدم الدعم لأصحاب الأرض.

ويقول المستثمرون الصغار إن مزارعهم أوشكت على الانقراض بسبب هيمنة أصحاب رؤوس الأموال، وغياب الدعم الموجه لأصحاب المشاريع ذات الإنتاج المحدود.

الحكومة الإثيوبية أعطت المستثمرين الزراعيين الأجانب فرصة استئجار 3 ملايين و600 ألف هكتار من الأرض
الحكومة الإثيوبية أعطت المستثمرين الزراعيين الأجانب فرصة استئجار 3 ملايين و600 ألف هكتار من الأرض

ويرى بعض المراقبين أن السياسات التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي في دعم المزارعين مجافية للمنطق والواقع، وتعمل على تدمير كيانات صغيرة لصالح أخرى كبيرة وقوية.

ويسود في رومانيا التي يوجد بها أكثر من خمسة ملايين مزارع، الانزعاج والقلق بين المواطنين بسبب امتلاك المستثمرين الدانماركيين والنمساويين لآلاف الهكتارات من الأرض المستصلحة.

إثيوبيا.. احتلال الأرض قانونيا

وتعتبر القارة الأفريقية الأرض العذراء التي لم يتم استغلالها رغم مساحاتها الشاسعة وحقولها الكبيرة، وتشكل في نظر المستثمرين أرض الفرص والثراء.

ويرى المزارع جان برينز أن إثيوبيا تصنف جنة على الأرض، حيث المناخ المثالي ووفرة المياه والتربة الخصبة.

وقد عملت الحكومة الإثيوبية على تقديم الأراضي للمستثمرين بغية الاستفادة من حركة أموالهم والتغلب على المجاعة التي تهدد البلاد.

ورغم أن الحكومة أعطت المستثمرين الزراعيين الأجانب فرصة استئجار 3 ملايين و600 ألف هكتار من الأرض، فإن المجاعة ما زالت تخيم بين السكان.

ومن أجل العمل على جودة المنتج الذي سيصدر خارج البلاد، يقوم أصحاب المزارع ببناء بيوت بلاستيكية لتوفير الحرارة المطلوبة في إنتاج الخضار والفواكه. ويشتكي العمال من صعوبة العمل داخل تلك الحقول المغطاة التي ترتفع فيها درجات الحرارة.

 العمال الإثيوبيون يتلقون في المزارع الأجنبية التي تقع على أرضهم رواتب زهيدة تصل لـ24 يورو في الشهر
العمال الإثيوبيون يتلقون في المزارع الأجنبية التي تقع على أرضهم رواتب زهيدة تصل لـ24 يورو في الشهر

ويتلقى العمال الإثيوبيون في المزارع الأجنبية التي تقع على أرضهم رواتب زهيدة تصل لـ24 يورو في الشهر، ويُمنعون من أخذ أي شيء، وخوفا من سرقة القليل يتم تفتيشهم وقت المغادرة من المزرعة.

وتعتبر دول الخليج السوق الحيوي بالنسبة للمستثمرين الزراعيين في إثيوبيا، لأن ثمارها تنافس الفواكه والخضار الأوروبية.

وقد ساعد انتظام النقل الجوي في الحركة التجارية من إثيوبيا نحو دبي في توفير المحاصيل الطازجة لدى أرقى الفنادق في دولة الإمارات.

سيراليون.. تلويث البيئة

وتعتبر شركة كارغيل المنتجة لزيت النخيل بأنها أكبر شركة في الصناعات الغذائية على المستوى العالمي، ويقول العاملون فيها إنهم زرعوا كثيرا من الأراضي ذات الغابات المطرية، وهو أمر يؤدي إلى انعكاسات بيئية خطيرة، لأن تحويل المزارع إلى غابات يزيد من ذبول التربة الذي يتسبب في إطلاق ثاني أكسيد الكربون إلى الجو.

وفي سيراليون تقوم شركة “أداكس” بشراء الأرض من زعماء القبائل والمجالس المحلية، ويقع المواطنون ضحية للتآمر بين المستثمرين والسياسيين. وقد حصلت الشركة على قرض يبلغ 250 مليون يورو من هيئات مانحة من ضمنها البنك النمساوي للتنمية.

وتقوم أداكس بزراعة المواد التي تنتج الوقود الأخضر لتوفيره للمركبات في أوروبا من أجل المحافظة على البيئة. ويثير إنتاج الوقود الأخضر إشكالية كبيرة، حيث يتم استغلال الأرض التي يحتاجها الفقراء لتأمين الغذاء في إنتاج وقود للسيارات والمركبات.

70% من المحاصيل الزراعية يتم إنتاجها بواسطة المزارعين العاديين
70% من المحاصيل الزراعية يتم إنتاجها بواسطة المزارعين العاديين

وقد تسببت مشاريع أداكس الزراعية التي تحتاج لكثير من الري إلى شح في المياه الصالحة للشرب في كثير من قرى سيراليون، وأصبح السكان يعانون بسبب المياه الملوثة بالكيميائيات المستخدمة في تحسين الزراعة.

وبسبب حقولها الزراعية الملوثة، تسببت مشاريع السكر في نفوق الكثير من الأبقار والحيوانات الماشية الأخرى.

ويقول أحد المسؤولين في شركة أداكس إن شركات الزراعة العالمية ليست سوى نسخة جديدة من الاستعمار، ففي السابق جاءت الجيوش وفرضت سيطرتها، وفي الوقت الراهن جاءت الشركات بأموالها وبسطت نفوذها وأخذت الخيرات والثروات.

تشريد وفقر

وفيما يعتقد كثير من الناس أن السبيل الوحيد لتحقيق الأمن الغذائي العالمي يكمن في الزراعات الصناعية وتطويرها، فإن الواقع والأرقام يقولان عكس ذلك، لأن 70% من المحاصيل الزراعية يتم إنتاجها بواسطة المزارعين العاديين.

وفي شمال إثيوبيا، عمل الخبراء الزراعيون على تطوير نظام يحمي التربة، عن طريق الاعتماد على السماد العضوي والزراعة البينية بهدف استمرار الإنتاج.

وقد بدأت السلطات الإثيوبية في دعم المزارعين عن طريق استصلاح الأراضي، حتى يتمكن صغار المزارعين من العيش وإعالة أسرهم.

وتشير الإحصاءات إلى أن عدد المزارعين الصغار يبلغ 400 مليون في مختلف أنحاء العالم، وأي خطة للاستغناء عنهم بالاعتماد على الزراعات الصناعية فإن ذلك يعني زيادة سوق العاطلين عن العمل الذي لم يعد يتحمل.

وفي السنوات الأخيرة بيع 200 ألف هكتار للمستثمرين العاملين في الزراعة الصناعية في مختلف أنحاء العالم، ودخل ألوف من الناس في لوائح الفقراء والمشردين.