مصطفى الأزموري.. العبد المغربي الذي اكتشف ولاية فلوريدا

يونس مسكين

يعرف العالم كله أن رجلا اسمه كريستوفر كولومبوس هو أول من وطئت قدمه القارة الأمريكية، أو العالم الجديد، في نهاية القرن الخامس عشر للميلاد، لكن قليل منهم يعرف أن رجلا آخر ببشرة سوداء اللون واسم عربي هو أول من دخل مناطق شاسعة من جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، وما يعرف حاليا بولاية فلوريدا.

يسود اعتقاد راسخ يخالطه قدر من القبول والتسليم، بأن التاريخ يكتبه المنتصرون، ولا أحد ينازع في كون ما وقع بين الضفتين الغربية والشرقية للمحيط الأطلسي على مدى قرون، يغلب عليه الصوت الواحد والرواية الواحدة، وهي تلك التي أراد لها الرجل الأوروبي الأبيض والمسيحي أن تصبح “الحقيقة”.

لكن هذا الوضع بات يتغير تدريجيا، حيث شهدت العاصمة الأمريكية واشنطن مستهل العام 2021 تنظيم الدورة السادسة من “يوم المغرب”، وهو تقليد سنوي يخلد للوجود المغربي في أمريكا وتاريخ العلاقات بين الدولتين، كما نصب له تمثال من البرونز بارتفاع مترين في تكساس الأمريكية.

ففي هذه السنة أعلن عن شخصية مميزة أخرجت من الظل، ويتعلق الأمر بمغربي تصفه المصادر التاريخية الرسمية في أمريكا بأنه أول أفريقي وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويلقبه البعض بمصطفى الزموري، وتسميه المصادر الأمريكية “ستيفن زموري”، ويناديه آخرون بـ”استيبانيكو” أو “استيبان”، وهو في نهاية الأمر أول مغربي ومغاربي وأفريقي يصل إلى أمريكا.[1]

أصبح اسمه الزموري يتردد على لسان كبار المسؤولين الأمريكيين والمغاربة، في سياق الخطب والرسائل الدبلوماسية التي تسعى إلى تمتين العلاقات بين البلدين وتأكيد عراقتها، باعتبار المغرب أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الامريكية كدولة مستقلة في العالم.[2]

بل إن السفارة الأمريكية في الرباط، اختارت الزموري ليكون محورا للاحتفالية الرسمية الكبيرة التي قررت تنظيمها طيلة العام 2021، بمناسبة مرور 200 عام من الصداقة المغربية الأمريكية، باعتباره أول مغربي يطأ الأراضي الأمريكية، بل ومكتشف جزء كبير منها بعد اكتشاف كريستوف كولومبوس للقارة الأمريكية بسنوات قليلة.[3]

 

احتلال أزمور.. رحلة ابن بطوطة المستعبد

هناك من يعتبر أن الزموري استكمل تجربة الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة، فقد اتجه ابن بطوطة شرقا واشتهر برحلته الى الصين، بينما اتجه الزموري بعد نحو 200 عام إلى أقصى الغرب، مستكملا بذلك رحلة ابن بطوطة حول العالم، لكن الفرق يكمن في أن ابن بطوطة انطلق في رحلته بكامل إرادته، واستهل بالحج قبل أن ينطلق نحو أقاصي آسيا، بينما دخل الزموري رحلته الاستكشافية مكرها ومختطفا.[4]

فقد كان الزموري ضمن مجموعة من الرجال قام مستعمرون برتغاليون ببيعهم في أوروبا بعد أن احتلوا بعض السواحل المغربية في القرن الـ16، ليصبح واحدا من أفراد بعثة استكشافية وصلت الى السواحل الأمريكية، وهناك لعب دورا كبيرا في استكشاف الأرض الأمريكية بعد انصهاره في المجتمع المحلي للهنود الحمر.

وينقل الأستاذ الباحث مصطفى واعراب الذي يعد أول من ألف باللغة العربية عن شخصية “استبانكو”، عن مؤرخة أمريكية قولها إن الزموري يحتمل أن يكون ابنا لامرأة منحدرة من أفريقيا جنوب الصحراء، وهو ما يفسّر لون بشرته الأسود.[5]

وتعود الحكاية في الأصل إلى ما قبل احتلال بلدة أزمور من طرف البرتغاليين، وتحديدا سنة 1513، حين كلف الملك إيمانويل الأول حفيده بقيادة الحملة من خلال أسطول ضخم نحو الساحل المغربي. وتجمع المصادر على أن الزموري اختطف تزامنا مع وصول هذه الحملة إلى سواحل المدينة، حيث كان العنف البرتغالي مفرطا بغاية ترهيب السكان ودفعهم إلى إخلائها دون مقاومة.[6]

 

رحلة الصيد الصباحي الأخيرة.. بداية القصة

بدأت القصة ذات صباح حين خرج مصطفى الزموري في رحلة صيد فلم يعد، ولم يكن هذا الاختفاء الذي وقع قبل نحو 5 قرون حدثا يسترعي الانتباه في المدينة التي كانت تعاني من قحط شديد ضرب المدينة مستهل القرن الـ16، إلى جانب جور الاحتلال البرتغالي الساعي إلى بسط كامل سيطرته على البلدة الساحلية.

كان جل من في المدينة وقت الاحتلال البرتغالي منشغلا بتجييش الفرسان والمقاتلين لصد الاحتلال، وهو ما كان يجعل الخروج في رحلات الصيد البحري مغامرة حقيقية يحتمل أن تتحول إلى اختطاف وبيع في سوق النخاسة العالمي.[7]

في مقابل رواية الاختطاف هذه هناك رواية أخرى يحتمل أن تكون وراء قصة مصطفى الزموري، وهي تقوم على احتمال بيعه من طرف أسرته، فقد كان ذلك سلوكا دارجا بسبب الفقر والقحط الشديدين، وكانت عملية البيع تطال آلاف الأشخاص وقتها، وينقلون من أزمور إلى أوروبا على يد البرتغاليين.

مصطفى الزموري يصل مدينة هاويكو عاصمة سيبولا، في ولاية نيو مكسيكو في أقصى الغرب الأمريكي حيث الهنود الحمر

 

“ابن الشمس”.. مدينة لم يبلغها المستكشفون

وتعتبر قصة الزموري جزءا من الدراما الإنسانية الملحمية التي كان لها أثر في تغيير ملامح العالم، حيث تحوّل هذا الشخص إلى أسطورة حقيقية رغم أنف المستكشفين الإسبان الذين اقتادوه نحو السواحل الامريكية كعبد مملوك، فقد وصل هذا المختطف المغربي حينها إلى مدينة لم يبلغها أي أجنبي قبله، هي مدينة هاويكو عاصمة سيبولا، في ولاية نيو مكسيكو في أقصى الغرب الأمريكي، وهي مدينة أصبحت الآن من المدن المفقودة بعدما هجرها البشر منذ أكثر من ثلاثة قرون.[8]

ولن ندرك أهمية الاختفاء الذي طال مصطفى الزموري إلا بعد أربعة قرون، حين شرع المؤرخون في تقليب صفحات حملات الاستكشاف الأوروبية، وتبين أن مصطفى الزموري كان من بين أربعة ناجين مما يعرف برحلة الموت التي هلك فيها قرابة 600 شخص.

لم تكتشف آثار مدينة هاويكو إلا عام 1917 على يد فريق من علماء الآثار الأمريكيين، ويسود اعتقاد علمي راسخ أن الزموري حين وصل إلى ذلك المكان، وجده عبارة عن معبد لإحدى قبائل الهنود الحمر، وهي تحديدا قبيلة “الزوني”.

ويعتبر الزموري بذلك أول مستكشف دخل ولاية نيو مكسيكو، وهو بالتالي أول أجنبي عبر ولاية أريزونا في طريقه من المكسيك إلى سيبولا، وقد دخل هذه المنطقة محمولا فوق أكتاف عبيد محليين، حيث اعتبره السكان المحليون واحدا من “أبناء الشمس” الذين ألقت بهم الأقدار إليهم لحمايتهم من المرض والخوف، بينما اعتبره البعض الآخر إشارة شر وخطر.[9]

المستعمرون الإسبان يدمرون حضارة الأستيك من أجل إقامة بنيان لهم فوق أنقاضه

 

رجل الأقدار.. صفقة ترمي الزموري في يد النبيل الإسباني

لا يوجد في مدينة أزمور المغربية أي أثر ملموس حول أصل مصطفى أو مكان ميلاده، وإن كان باحثون محليون مثل الأستاذ الجامعي شعيل حليفي، يعتقدون أن حياته كانت حافلة بالمصادفات لدرجة أنهم يلقبونه رجل الأقدار.[10]

لكن سجلات التاريخ تروي أن المستكشف البرتغالي الشهير فيرديناند ماجلان قد أصيب بجروح أثناء مشاركته في معركة احتلال المدينة، قبل أن يقتل لاحقا على يد أحد زعماء القبائل المحلية في الفلبين سنة 1521، وهي السنة نفسها التي أسر فيها مصطفى الزموري.

فعندما عادت السفينة الإسبانية دون قائدها ماجلان، كان الزموري قد وصل إلى سواحل البرتغال أسيرا، ومنها نقل إلى إسبانيا ضمن جموع العبيد المستقدمين حديثا من أفريقيا، وفي الطريق بين لشبونة البرتغالية وإشبيليا الإسبانية، بيع مصطفى الزموري لنبيل إسباني اسمه أندريس دورانتيس، وكان يوصف بكونه طيبا ورؤوفا، فلم يعرّض الزموري للتحقير بل اتخذه وصيفا وصديقا له.[11]

كان هناك تنسيق واتفاق مكتوب بين البرتغال وإسبانيا، ويقضي بتقاسم مناطق النفوذ في المغرب واقتسام الغنائم والثروات التي يجري الاستحواذ عليها، بما في ذلك الأسرى الذين يتحولون إلى عبيد. والغالب أن البشرة السوداء للأزموري كان لها دور في إدخاله عنوة إلى سوق النخاسة على غرار الآلاف ممن كانوا يجلبون من أفريقيا جنوب الصحراء لبيعهم في أسواق النخاسة الأوروبية.[12]

ومن غير المستبعد أن الزموري كان مرغما على أن يعتنق المسيحية، اتقاء لشر حملات استهداف الموريسكيين التي تلت سقوط آخر معقل إسلامي في الأندلس، وهو مدينة غرناطة التي سقطت قبل نحو ثلاثة عقود من مجيء الزموري.[13]

وبرفقة سيده النبيل الإسباني زار مصطفى الزموري كثيرا من المدن والمناطق الإسبانية، ومنها مدينة إشبيليا التي كانت محطة مفصلية في حياته، فقد كانت أوروبا تعاني من القحط والمجاعة، وهو ما كان يدفع نحو تكثيف رحلات الاستكشاف والبحث عن الثروات.

كريستوفر كولومبوس يعود إلى البلاط الملكي ليعرض أمامهم الكنوز والعبيد ويطلب منهم حملة عسكرية في سبيل ذلك

 

رحلة استكشافية نحو مجاهل فلوريدا.. أطماع التاج الإسباني

في العام 1526 أقنع جندي متمرس على الرحلات البحرية الدولة الإسبانية بإمكانية ضم أراضي فلوريدا الشاسعة في أمريكا اللاتينية إلى حكم التاج الإسباني، وشاء القدر أن يكون اسم مصطفى الزموري ضمن قائمة المشاركين في هذه الرحلة، وذلك بعد حصول أندريس دورانتيس على إذن خاص من الملك باصطحاب وصيفه، لكون السفر نحو “العالم الجديد” كان محظورا على الموريسكيين، خشية من أن يعيقوا نشر الديانة المسيحية هناك.

كانت جزيرة إسبانيولا -وهي جمهورية الدومينيكان حاليا- أول محطة في طريق هذه الرحلة البحرية، وهي التي شكلت أولى محطات رحلة كريستوفر كولومبوس الاستكشافية، حيث اعتقدها في البداية إحدى جزر الصين. كانت الرحلة تضم خمس سفن، وكان المزاج العام الغالب عليها هو التذمر والسخط العارم، بسبب قلة ورداءة الطعام، مما أدى إلى فرار جزء كبير من الجنود المرافقين للرحلة، وهو ما حاول قائد الرحلة تعويضه بالبحث عن جنود جدد في الجزر الكوبية.

قادت العواصف القوية والرياح العاتية سفن الرحلة نحو سواحل تامبا بخليج فلوريدا، بدل وجهتها الأصلية التي كانت بانكو غرب خليج المكسيك، وسرعان ما قام الهنود المحليون بإيهام قائد الرحلة بوجود كميات كبيرة من الذهب في منطقة أبلاتشي البعيدة، لمنعه من احتلال أرضهم.

البعثة الاستكشافية دي نارفاييز تخوض مغامرة خطيرة في حوض المسيسيبي فلا ينجو منها إلا أربعة نفر أحدهم الزموري

 

عاصفة هوجاء في خليج المكسيك.. مغامرة قاتلة

أثناء إحدى رحلات السفن المشكلة للرحلة الاستكشافية داخل خليج المكسيك، سعيا وراء الحصول على كميات كافية من الذهب لتحقيق أهداف المهمة؛ هبّت عاصفة هوجاء، أغرقت ثلاث سفن من أصل خمس، بينما جنح المركب الذي كان يوجد به مصطفى الزموري وفقد أغلب ركابه، لكن القبائل المحلية لإحدى الجزر أسعفت الناجين القلائل ووفرت لهم الدفء والطعام، ولم يصمد في النهاية سوى أربعة من بين نحو 80 ناجيا، وقد عاشوا حوالي ست سنوات في الكهوف على طريقة السكان المحليين.[14]

قرر متزعم البعثة الاستكشافية دي نارفاييز، خوض مغامرة خطيرة في اتجاه قرية أبلاتشي برفقة عدد من العناصر من بينهم الزموري، قبل أن يعود أدراجه ليكتشف اختفاء السفن وباقي أفراد البعثة الذين تركهم خلفه، وباقتراح من الزموري بدأوا في صنع قوارب جديدة لاستئناف الرحلة.

وبعد فترة وصلت البعثة إلى حوض المسيسيبي، وهناك سيقضي نحبه عدد كبير من أعضائها الباقين، وعلى رأسهم دي نارفاييز، ولم يبق في الأخير من تلك المغامرة الخطيرة سوى أربعة أشخاص من بينهم مصطفى الزموري.[15]

عاش الزموري ورفاقه الثلاثة متنقلين بين القبائل، وكان حالهم يتقلب بين الأسر والترهيب وبين الترحيب والتقديس، حيث كانوا يتحولون إلى معالجين روحيين، فكان الزموري يبخ في مرضاه وينفخ في أيديهم ويهمس في آذانهم بلغة لا يفهمونها، فتعدت شهرته الآفاق وأصبح له أتباع ومريدون يتبعونه أينما حل وارتحل.[16]

في سنة 1536 قرر الزموري ورفاقه الثلاثة الاستفادة من مكانتهم الرفيعة التي يتمتعون بها بين قبائل الهنود فدخلوا إلى مكسيكو

 

مدن الذهب السبع.. أسطورة الحاكم البرتغالي

كان الزموري ورفاقه يتنقلون بين القبائل في المنطقة الحدودية حاليا بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، واتخذوا من نهر ريو غراندي -الذي يفصل بين الدولتين حاليا- مرشدا لهم نحو الغرب، وتحديدا صحراء صونورا المطلة على المحيط الهادي، بينما كانت طوابير من الهنود تتعقبهم للتبرك منهم. ويعتقد بعض المؤرخين أن المستكشفين الإسبان استعملوا مصطفى كطُعم لاختبار طبع القبائل المحلية، حيث بعثوه إليها ثم راقبوا كيفية تعاملهم معه، حتى يدركوا طبيعة سلوك الأهالي مع الغرباء.

وفي يونيو/حزيران 1536 قرر الزموري ورفاقه الثلاثة الاستفادة من مكانتهم الرفيعة التي باتوا يتمتعون بها بين قبائل الهنود للدخول إلى مكسيكو، وقد تمكنوا بسرعة من اللقاء بالحاكم، وسرعان ما أقنعه الزموري بقدرته على إرشاده نحو مدن الذهب السبع، وهي أسطورة كانت شائعة وقتها، ويعود أصلها إلى فترة الفتح الإسلامي للأندلس، حيث يروى أن حاكما برتغاليا جمع كل ما لديه من ثروات خوفا من وصول الفتح الإسلامي إليه، ونقلها عبر سفن إلى الضفة الأمريكية للمحيط الأطلسي، وهناك بنيت بها المدن السبع، كما تورد الأسطورة.[17]

 

رحلة الموت.. آخر الناجين من البحر يصبحون آلهة

تحول الزموري إلى مرشد أول في حملة استكشافية جديدة قام حاكم المكسيك بتسييرها عام 1539، وهي الحملة التي يطلق عليها اسم رحلة الموت، وخلال الحملة حدث تطور غامض يتمثل في اختيار الزموري توسيع المسافة الفاصلة بينه وبين الراهب المرافق له، وهو ما يستشف منه البعض رغبة في التنصل من الرحلة والانفلات من قبضة الإسبان ووحشيتهم، بينما يرى البعض الآخر أنه كان يسعى إلى الوصول إلى مكان الذهب قبلهم.[18]

ورغم احتمال اعتناق الزموري للمسيحية خلال مكوثه في إسبانيا، فإن كثيرا من المعطيات تدل على أنه لم يتجاوز عتبة التظاهر باعتناق المسيحية، فقد كان يرفض استخدام الصليب في علاج المرضى أثناء مكوثه عند بعض قبائل الهنود التي اعتبرت المستكشفين الأربعة آلهة وأطباء روحانيين، كما كان الزموري على خلاف دائم مع الرهبان المسيحيين.[19]

وبينما يفسّر البعض ابتعاد الزموري عن الراهب ماركوس بنفور الراهب من تمسّك مرافقه المغربي بديانته الإسلامية؛ تحيط هالة كبيرة من الغموض بمصير مصطفى الزموري، بين روايات تقول إنه قتل على يد إحدى قبائل الهنود الحمر، وأخرى تنفي ذلك.[20]

بعد فتح مدينة القسطنطينية منتصف القرن الـ15، وجد الأوروبيون أنفسهم مجبرين على البحث عن طريق بديلة نحو الشرق

فتح القسطنطينية.. بداية البحث الأوروبي عن طريق الشرق

يعتبر مصطفى الزموري شاهدا على قصة استعباد ملايين الأفارقة، حين أمعن الأوروبيون في استغلال القارة الأفريقية وثرواتها، وذلك في معرض بحثهم عن طريق نحو الهند وأسواق التوابل الشرقية.

وتشكل تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي -التي استمرت قرابة 400 عام- أكبر حركات الهجرة القسرية التي شهدها التاريخ، وشكل النزوح الجماعي الكثيف لأبناء القارة الأفريقية إلى مناطق عدة في العالم أمرا لم يكن التاريخ البشري قد شهد مثيلا له من قبل، وما زال إرث تلك الهجرة جليا اليوم في الأعداد الكبيرة من السكان المنحدرين من أصول أفريقية في جل دول القارتين الأمريكيتين.

وتقول بعض الدراسات إن لحظة التحول وقعت عندما فتح المسلمون مدينة القسطنطينية (إسطنبول) منتصف القرن الـ15 للميلاد، حيث وجد الأوروبيون أنفسهم مجبرين على البحث عن طريق بديلة نحو الشرق، فأطلقوا حملاتهم الاستكشافية والتوسعية عبر العالم، مستعينين بما اكتسبوه من خبرة مسلمي الأندلس في صناعة السفن وركوب البحر، وهو ما يفسر تفوق الإسبان والبرتغاليين في هذه الاستكشافات الأوروبية المبكرة.[21]

معاهدة “تورديسلاس” التي أنهت الخلافات الإسبانية البرتغالية ومنحت البرازيل والغرب الأفريقي للبرتغال

 

غزو الأمريكيتين.. عملية استعباد وإبادة بمباركة الكنيسة

كان اختيار الرقيق يجري عادة عبر عدة معايير منها أن يكون ما بين 15 سنة إلى 35 كحد أقصى، وأن يكون ممتلئ الجسم غير كسيح ولا مشوه، وأن لا يقل طوله عن خمسة أقدام، فتلك هي المعايير المربِحة في الرقيق عند الوصول إلى وجهتهم.[22]

ويؤرخ المختصون بشكل دقيق للحظة انطلاق عملية استعباد الأوروبيين للأفارقة، في العام 1494 للميلاد، حين أصدر البابا ألكسندر السادس معاهدة “تورديسلاس” التي أنهت الخلافات الإسبانية البرتغالية حول الأراضي المكتشفة، حيث منحت المعاهدة أرض البرازيل والغرب الأفريقي للبرتغال، وهو ما شكّل أول جسر أطلسي لنقل العبيد الأفارقة نحو أمريكا الجنوبية بهدف استغلالها اقتصاديا، وشكّلت مباركة الكنيسة الكاثوليكية لهذه الممارسة نافذة دخلت منها باقي الدول الأوروبية معترك التنافس حول الاتجار بالإنسان الإفريقي.[23]

لقد كان مصطفى الزموري طيلة مراحل الرحلة التي قادته إلى أمريكا الشمالية صاحب المهمات الصعبة، وبعد وصول البعثة كان بمثابة السفير والوسيط لدى السكان المحليين، حيث يكون أول من يقدم على التقرب منهم والتواصل معهم، مستفيدا من إتقانه للغة الإسبانية، وقدرته على التواصل مع قبائل الهنود الحمر، إذ يرجح الخبراء أنه تعلم لغة موحدة تسمح بالتواصل مع مختلف القبائل.[24]

وشاهد مصطفى الزموري مقدار الوحشية الذي أبداه الأوروبيون ضد السكان المحليين لأمريكا، بعدما شهد في إسبانيا على محاكم التفتيش والحرب الدموية المفتوحة ضد المورسكيين، فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية -العراب الأول للحملات الاستكشافية- شديدة الحرص على تدمير كل ما يمت بصلة إلى الثقافة المحلية للهنود الحمر، وعند وصول الاستكشافات كان هناك حوالي 120 مليون شخص يعيشون في الأمريكيتين، ولولا عملية الإبادة التي تعرضوا لها، لكان تعداد سكان القارتين حاليا يناهز المليارين.[25]

لم تعرف القصة الحقيقية لمصطفى الزموري إلا من صفحات الكتب الغربية الكثيرة التي ورد فيها ذكره

 

“ما رواه المغربي”.. مذكرات العربي الأسود

معظم ما كتب عن حياة الزموري جاء في مذكرات خلفها أحد الناجين الذين كانوا برفقته، وهو كابيسا داي فاكا الذي يذكر الزموري باسم “رولاسيون”، ويصفه بكونه العربي الأسود المولود في أزمور، لكن النقاد يشكون في كون دي فاكا بالغ في مدح نفسه وتهميش الآخرين، سعيا إلى إثارة إعجاب التاج الإسباني، وبالتالي قزّم دور مصطفى الزموري.[26]

وأمام البياضات الشاسعة التي يشكو منها البحث التاريخي، خاصة في المراحل الأولى من حياة مصطفى الزموري؛ تطوّعت أديبة أمريكية من أصل مغربي -وهي الروائية ليلى العلمي- لملء تلك الفراغات من خلال روايتها التي تحمل عنوان “ما رواه المغربي”، حيث منحت الزموري اسما عائليا كاملا، فجعلته “مصطفى ابن محمد ابن عبد السلام الزموري”، وصنعت له ماضيا مجيدا حين كان رجلا حرا في مسقط رأسه في مدينة أزمور المغربية، حيث كان والده كاتب عدل مرموقا بينما كان هو تاجرا حصيفا.[27]

مزجت ليلى العلمي بطريقة مسلية بين عالمي مصطفى الزموري المغربي الحر، وبين “استبانيكو” العبد المختطف في أوروبا وأمريكا، وجعلت من البطل شاهدا في العالمين المختلفين على همجية الغازي الأوروبي وتدميره وتصفيته لكل ما هو مغاير لمنظومته الثقافية والحضارية، وجاء الكتاب في شكل 23 حكاية تمثل مجتمعة مذكرات متخيلة لمصطفى الزموري، وتجمع بين وصف ما يجترحه الرجل الأبيض من موبقات فيما وراء البحار، وبين ما فعله قبل ذلك في دياره عندما احتل البرتغاليون مسقط رأسه في المغرب، وغيروا مصيره وأبعدوه عن عائلته.[28]

 

المصادر

[1] https://www.maghrebvoices.com/2017/12/11/الأزموري-القصة-الفريدة-لأول-مغاربي-يصل-أميركا

[2] https://www.yabiladi.com/article-culture-864.html

[3] https://www.medias24.com/mustafa-zemmouri-histoire-du-premier-marocain-a-avoir-foule-le-sol-americain-16413.html

[4] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[5] https://www.youtube.com/watch?v=PaIAU4xE9fY
[6] https://www.youtube.com/watch?v=PaIAU4xE9fY
[7] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[8] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[9] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[10] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[11] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[12] https://www.youtube.com/watch?v=PaIAU4xE9fY
[13] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[14] https://www.youtube.com/watch?v=v83Xg9a2voc
[15] https://www.maghrebvoices.com/2017/12/11/الأزموري-القصة-الفريدة-لأول-مغاربي-يصل-أميركا

[16] https://www.youtube.com/watch?v=v83Xg9a2voc
[17] https://www.youtube.com/watch?v=PaIAU4xE9fY
[18] https://www.youtube.com/watch?v=v83Xg9a2voc
[19] https://www.youtube.com/watch?v=PaIAU4xE9fY
[20] https://www.youtube.com/watch?v=PaIAU4xE9fY
[21] https://medium.com/@richardsingley/origins-of-the-african-slave-trade-4f63d4945e56
[22] /تقارير/الرقيق-الأطلسي-ذكرى-جريمة-سوداء-في-جبي/
[23] https://medium.com/@richardsingley/origins-of-the-african-slave-trade-4f63d4945e56
[24] https://www.youtube.com/watch?v=v83Xg9a2voc
[25] https://www.youtube.com/watch?v=v83Xg9a2voc
[26] https://www.youtube.com/watch?v=POCwDRDqgjA
[27] https://www.aljazeera.net/midan/intellect/literature/2017/10/25/ما-رواه-المغربي-حينما-تفضح-الرواية
[28] https://www.aljazeera.net/midan/intellect/literature/2017/10/25/ما-رواه-المغربي-حينما-تفضح-الرواية