من الشام إلى الحجاز.. كيف كانت رحلة الحج الشامية عبر العصور؟

وقفت الحاجة أم عمر أمام قبر زوجها الذي توفي عام 2006 تسكب الماء على قبره، تتذكر المرض الذي رافقه مدة 15 سنة، فقد أصابه مرض القلب قبل أن يرحل عن الدنيا، وفي كل زيارة للقبر تظن أنه ما زال في غرفته، فتجد صعوبة في تقبل فكرة أنّه الآن في عداد الأموات، فتتلو سورتي الفاتحة ويس ثم تغادر.

منعتها بعض القيود من أن تخرج إلى الحياة، لكن في لحظة من الزمن انفكت تلك القيود، وتكسرت كل الأغلال التي أحاطت بمشاعرها، وبدأت أم عمر تتحدث عن ابنة عمها التي ستذهب إلى أداء مناسك الحج برفقة ولدها، ثم ما لبثت هي أيضاً تفكر في الذهاب إلى الحج برفقة ولدها الوحيد الذي ترى فيه مَحرما مناسبا لها في رحلتها إلى بيت الله الحرام.

لم يمض وقت طويل حتى بدأت الاستعداد للذهاب إلى الحج، وتجهيز الوثائق الرسمية المطلوبة، وقبل أن يحصلا على إذن السفر الرسمي، بادر العديد من الأصدقاء إلى تقديم المساعدة، أما مدير ولدها في العمل فخاطبه قائلا “اذهب إلى رب العالمين ولا تقلق بشأن العمل”.

نتعرف في الفيلم الوثائقي الذي تبثه قناة الجزيرة “الرحلة إلى الحج.. سوريا” الحاجة أم عمر وابنها، وكيف كانت رحلتهما إلى الحج.

دون أدنى توقّع حصل عمر على إذن الحج في العام نفسه، ولأنه لم يمتلك المعلومات الوافية عن أداء فريضة الحج لجأ إلى الكتب ينهل منها لمعرفة أحكام الحج، ثم انضم إلى مجموعة من الحجاج كي يتعلم أكثر وأكثر عن ركن الإسلام الخامس.

حلقة تعليم الحجاج

اجتمع عمر ووالدته مع فوج من الحجيج في المسجد ليتعلما مناسك الحج، بدأ أمين فوج الحجاج عبد الهادي المصري بالتحدث عن أركان الحج وواجباته والفرق بينهما وأهمية الوقوف بعرفة وكيفية ارتداء ملابس الإحرام، وبيّن الفرق بين من يحج لوحده أو مع أسرته.

أما الشيخ “بشار شخاشيرو” فقد مثل الدرس عمليا مع وجود مجسم للكعبة المشرفة، وقسَّم المصري الحجاج إلى مجموعات ليتعاونوا على أداء مناسك الحج مجتمعين أو فرادى.

تسلل إلى وجدان عمر مشاعر غريبة وأحاسيس لم يشعر بها من قبل، وكأن شيئا مجهولا يطرق بابه بقوة، ولكن اشتياقه لزيارة الكعبة أذهب عنه الحزن، بدأ بالتفكير بوالدته التي تخشى عليه من أي أذى مهما صغر أو كبر، فهو وحيد العائلة، ولكن ذلك الحرص الشديد لم يمنع الأم من إدراك أن من واجبه أن يكون مَحرما لها في الحج، فتذكرت سيدنا إبراهيم عليه السلام وحادثة ذبح ولده إسماعيل، فأدخلت تلك الذكرى إلى قلبها البرد والسلام.

طريق الحج.. قطعة عذاب

عُرف طريق الحج من الشام إلى الحجاز منذ آلاف السنين، وكان الحجيج يتعرضون لمهالك السفر المتعددة، فبعضهم كان يضيع في الطريق، وغيره كان يحول المرض بينه وبين عودته إلى الشام لسنوات، ومع كل تلك الأحداث الخطيرة المحيطة بسفر الحاج فإن أحداً لم يمتنع عن القيام بأداء هذه الفريضة.

الحجيج في طريقهم من الشام إلى الحجاز على ظهور الجِمال، حيث كانت يتعرضون لمهالك السفر المتعددة

ويقول الباحث والمؤرخ الدكتور سهيل زكار إنَّ الحج هو المظهر المعلن الوحيد عن استمرار الإسلام، ولذلك حاول الصليبيون قطع طريق الحج، وكان صلاح الدين الأيوبي يحول بين الصليبيين والحجاج بذهابه إلى منطقة تسمى “خربة اللصوص” الواقعة جنوبا، حيث يودع الحجاج ويستقبلهم.

لعبت مدينة دمشق دورا هاما كملتقى للحجاج الشاميين وغيرهم من الذين يأتون من بلاد العجم والروم، وكانت منطقة القصر الأبلق التي بجانب التكية السليمانية وسوق “ساروجة” بجانب جامع الورد وخان الحرمين في باب البريد قرب سوق الحميدية أماكن إقامة الحجاج وتجمعهم.

ويصف الباحث في التراث العربي والإسلامي أحمد المفتي رحلة المشقة التي يلاقيها حجاج الشام قائلا “قافلة الحج كانت تستغرق أربعة أشهر ابتداء من شهر شوال وحتى يعود الحجيج في شهر صفر إلى مدينة دمشق”. كانت الرحلة قطعة من العذاب يترقب الدمشقيون أخبارها من خلال من يَفِد حينما ينتهي موسم الحج.

الحج الشامي.. موسم احتفالات

شكَّلَ التجمع البشري الكبير في ذاك الزمان مناسبة للاحتفال بالعبادة، فكانت مراسم الابتهاج تبدأ من شهر رجب وتنطلق الصّرّة (صناديق الإحسان والأعطيات والهدايا) من إسطنبول حتى تصل إلى مدينة دمشق أوائل رمضان، آخذة الطابع الرسمي بمشاركة الوالي ونقباء الأشراف وجماعات الجند إلى آخره. وأمّا الطابع الشعبي فبمشاركة جموع الشعب في وداع الحجاج.

مراسم الابتهاج كانت تبدأ من شهر رجب على شكل تجمع بشري كبير، وكانت تنطلق الصّرّة من إسطنبول حتى تصل إلى مدينة دمشق أوائل رمضان

يقول الباحث والمؤرخ د. إحسان الهندي كانت هناك ثلاثة أيام للاحتفال، تؤخذ كمية كبيرة من الزيت من قرية “كفر سوسة” لصالح الحجاج كي ينتفعوا بها، وأمَّا قرية المزة فيؤخذ منها ماء الورد للعطر حيث اشتهرت بالبساتين المزهرة العطرة، وأمَّا اللوز فيؤخذ لإطعام الجملين اللذين يحملان المَحمَل من جهة والسنجق من جهة ثانية.

ويتابع المؤرخ الهندي حديثه عن تلك الاحتفالات قائلا “ظاهرة المحمل بدأت منذ أيام شجرة الدر والظاهر بيبرس، والمحمل صندوق خشبي وبرأسه مثلث ويغطى بنوع من القماش، وهذا القماش يطرز بالصرمة التي هي عبارة عن خيوط من الذهب الخالص، وأما السنجق فهو عَلَم يُطرز بأسلوب الصرمة بآيات من القرآن الكريم تخص الحج ويخطها أحد كبار خطاطي الدولة العثمانية على حزام المحمل”.

موسم الأعمال

صنع القادمون من شمال وشرق سوريا في موسم الحج أثناء وجودهم في الملتقى الشامي في مدينة دمشق أنواعا من العلاقات، ومنها العلاقات العلمية، فكثير من الحجاج القادمين من بلاد الروم والعجم كانوا من العلماء، وكانت تتم الفائدة من هذه العلاقات عبر دروس تؤدى في المساجد ينسق لها من قبل المشايخ، ومنها العلاقات الاقتصادية التي تنمو وتزدهر خلال أربعة أشهر عبر تبادل البضائع.

منطقة القصر الأبلق التي بجانب التكية السليمانية وسوق “ساروجة” كانت أماكن إقامة الحجاج الشاميين وغيرهم من بلاد العجم والروم

كما كشف موسم الحج عن أعمال ارتبطت بها أسماء العائلات التي تمارسها، مثل عائلة “المحايري” حيث تُصنع المحارات، وهي إحدى أنواع الهوادج التي تُحمل على ظهر الجمال ويركبها شخصان لتصبح مثل المحارة، ثم حملت العائلة اسمها. أمّا عائلة “العكام” فهي التي تربط الدواب وتساعد الحجاج على ركوبها والنزول عنها، والتصقت تلك المهنة باسم العائلة.

إلى نور مكة

لم يخف عمر مخاوفه من رحلة الحج منذ صعوده على متن الطائرة وخاصة عندما تذكر أبناءه وعمله وارتباطاته في الشام، ولكن ظلام الليل الحالك الظاهر من نافذة الطائرة أثناء الإقلاع جعل الرحلة أكثر سرعةً كي يصل إلى النور الذي يخرج من فجر مكة عند الوصول.

لتبدأ مشاعر الحنين إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم تُغذى ذاكرته بأيام مضت من تاريخ النبوة والصحابة رضوان الله عليهم فيتمنى العودة لأكثر من ألف عام كي يحظى بصحبة النبي عليه السلام وأصحابه الأبرار.

الحاجة أم عمر تتحدث عن شعورها بالسعادة لحظة دخول مكة

لم تكن رحلة أداء مناسك الحج رحلة سياحية، بل هي أعظم من ذلك، فشعور الحزن الشديد أثناء أداء طواف الوداع لم يفارق وجدان عمر وقد أدرك أن العودة إلى دمشق حلت، وربما لن يعود مجددا إلى تلك البلاد، ولن يحظى بمثل تلك المشاعر في حياته. تمنى لحظة طواف الوداع أن يعود إلى مكة مجددا عشرين مرة ليحظى بتلك السعادة والعبادة التي شعر بها لأول مرة في حياته.

وأمَّا الحاجة أم عمر فلم تُخف شعورها بالسعادة لحظة دخول مكة وترى أنَّ الرسالة نزلت على العالم كافة ولم تقتصر على العرب، فرأت الصيني والصومالي وغيرهما من الجنسيات يدعون الدعاء ذات الدعاء ويذكرون نفس الذكر ابتهالاً لله تعالى، كل تلك الدعوات أدخلتها إلى حياة جديدة تمحى فيها الآثام السابقة، وتحل مكانها الحسنات، مستشعرةً أنَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قام بذات المشاعر في الماضي شريك لها بأداء المناسك فيخفف ذلك عنها مشقة السفر الطويل.

الحج الشامي قبل عقود

أما الحاج أبو سميح الصمادي فهو شاهد على رحلات الحج منذ عام 1958 وحتى عام 1960، تحدث عن تجربته الخاصة في رحلة الحج عن تلك الأيام الخالية ليقول “لم تكن هناك طريق معبدة بين دمشق والسعودية، وبدأت رحلته آنذاك من البادية ثم إلى مدينة اللاذقية والمبيت هناك حتى الصباح قبل التوجه إلى المرفأ مستخدمين الباخرة التي تحتاج 24 ساعة حتى تصل ميناء بور سعيد في مصر، ولحظة وصول الباخرة يستقبل المصريون حجاج الشام بالترحاب وإظهار مشاعر الشوق”.

صالة الحجاج التي كانت مكانا لتجمع الحجيج قبل انطلاق رحالاتهم من سوريا إلى الحجاز

وتحدث أيضا عن استخدامه للحافلات عام 1972 عدة مرات في طريقه إلى الحج، وتحمل تلك الحافلات خمسين راكبا، متذكرا الحادث المأساوي الذي أودى بحياة زوجته، ثم يشير إلى الصعوبات التي واجهها الحجاج في ذاك الزمن كمهاجمة اللصوص في البادية لقوافل الحجاج وما يحدث من نهب وسلب.

وبعد تقدم الزمن وتطور الحياة في عام 1987 أتم الحاج الصمادي آخر حجة قام به، ولكن هذه المرة لم يستخدم الباخرة ولا الحافلات ولم يعانِ من هجوم اللصوص أو الحادث، بل استخدم الطائرة التي أوصلته من دمشق إلى المدينة حيث أمضى أسبوعا قبل أن يتوجه إلى مكة.

عودةٌ ميمونة.. زينة وبهجة

اعتاد الشاميون على الاحتفال ثلاثة أيام ابتهاجا بعودة الحجاج، فيُقدم الزوار ما يطلق عليه “النُّقوط” للحجاج، وأمَّا الحجاج فيقدمون الهدايا لضيوفهم مثل ماء زمزم أو ما يحضره الحجيج معهم من مكة والمدينة المنورة.

وقبل الوصول الحجاج إلى منازلهم كانت الزينة تتراءى من بعيد على جدران البيوت ابتهاجا بعودتهم، وبدأ الأصدقاء والجيران ينادون عمر بقولهم “حجّي”، وانطلقت الاستعراضات الشامية أو ما يسمى “بالعراضة”، وهي أن يأتي وفد من كل حي ويلتقيان وجها لوجه ثم يبدي كل وفد للآخر مشاعر الترحاب والتحية بالطريقة الشامية الاحتفالية.

اعتاد الشاميون على الاحتفال ثلاثة أيام ابتهاجا بعودة الحجاج
الشاميون اعتادوا  على الاحتفال ثلاثة أيام ابتهاجا بعودة حجاج بيت الله الحرام

كانت الرحلة ميسَّرة وأجواء الطقس في البلد الحرام معتدلة، وكشفت الأم عن فخرها بولدها واصفةً قوته بأنه ربما رجم حجارة في المشعر الحرام عن كل ركاب الحافلة.

وأبدى عمر إشفاقه على أمه نتيجة تعبها من الرحلة، وأظهرت الحاجّة سرورها وقالت إن أداء مناسك الحج وخاصةً رمي الجمرات أرجعها إلى أيام الصبا حيث القوة والرشاقة.

تبادل الحجاج والزوار الحديث عن رحلة الحج وعن سهولة الأمر مقارنة بالماضي، وأعلنت الحاجة أنها لن تبالغ مجددا في قلقها على ابنها المدلل وأنها متوكلةٌ على الله تعالى فهو خير الحافظين.

كما أبدت سرورها من أمين الفوج الذي كان يدعو ويبتهل ويكرر الفوج من خلفه حتى إن آخرين شاركوا الفوج الشامي في ذات التهليل خلف الشيخ لجمال صوته وخشوعه في الدعاء.

وتحدث عمر عن ارتباكٍ أصابه عندما وصل الحرم، وسبقت رغبته لرؤية الكعبة كل تعاليم أمين الفوج، ففي الأشواط الثلاثة الأولى أثناء الطواف حول الكعبة ينبغي على الحاج أن يكشف كتفه الأيمن، وهذا ما نسيه عمر وتذكر النظر إلى الكعبة المشرفة فقط، فأشار إليه أمين الفوج بإشارة تفيد الكشف عن كتفه الأيمن ولكنه فهم أن المطلوب منه أن يتوجه نحو اليمين فاتجه إلى جهة اليمن حتى وصل آخرها، فقال للشيخ “لم يعد هناك مجالا للذهاب لليمين”، فنظر إليه الشيخ مجددا، عندها أدرك مقصده فكشف عن كتفه الأيمن.

هي رحلة شامية جميلة من دمشق إلى بلاد الشام يسير الراكب فيها إلى عرفات الله فيُتم الحج ويقع الأجر وتكتمل أركان الفريضة.