نيل الفراعنة.. حبل الوريد الذي تهدد إثيوبيا بقطعه

خاص-الوثائقية

“إذا نقصت مياه مصر من النيل قطرة واحدة فدماؤنا هي البديل، إن من يتصور أن مصر وشعب مصر يمكن أن ينشغل بتحدياته وما يواجهه بعد الثورة من مشاكل أو تحديات اقتصادية أو غيرها عن حماية حدودنا ومياهنا وأرضنا هو واهم. إننا لا تقر عيوننا ولا يرتاح لنا بال أبدا لو أن قطرة ماء واحدة مست. هو ليس ماء، بل وريد الحياة وشريانها”[1].

الحديث هنا للرئيس المصري الراحل محمد مرسي أمام تجمع جماهيري ضخم دعا إليه عام 2012 المئات من الشخصيات العامة ورموز الأحزاب السياسية وممثلين للأزهر الشريف والكنائس المصرية وخبراء المياه وأعضاء النقابات المهنية.

كان أول رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية من طرف المصريين بعد ثورة يناير 2011 حريصا على أن يكون الرد على القرار الإثيوبي الأحادي لبناء سد النهضة بحجم المكانة والأهمية التي يعنيها النيل للمصريين، وسعى إلى جعل هذا التهديد فرصة في الوقت نفسه، لاستعادة اللحمة الوطنية الداخلية.

يتعلّق الأمر بشريان حياة مصر بحضارتها ودولتها ومجتمعها، ففي خريف العام 2012 تناقلت الصحف الدولية ما تضمنته إحدى تسريبات موقع “وكيليكس” الشهير من خطة مصرية سودانية محتملة، لتفجير سدّ النهضة الإثيوبية في حال إنشائه بدون اتفاق مسبق، فالنيل ليس مجرد مياه تتدفق، بل هو بالنسبة لمصر على وجه الخصوص، يعني الحياة والوجود، وبدونه لا غذاء ولا شعب ولا دولة في مصر، أو كما قال المؤرخ اليوناني “هيرودوت” (500 ق. م): “مصر هبة النيل”[2].

 

لغز المنبع.. رحلات الفراعنة إلى أعالي النيل

كانت مياه النيل مصدر توترات متكررة في العقود الماضية، وتعود آخر محاولات فتح هذا الملف إلى العام 1999، حين حاولت الدول المشكلة لحوض النيل إطلاق مفاوضات جماعية من أجل وضع قواعد قانونية جديدة لاقتسام مياه النهر، إلا أنها آلت إلى الفشل بسبب رفض كل من مصر والسودان المساس بحقوقهما التاريخية والوضع القائم في هذا المجال، وتعتبر مصر أكثر الحريصين على بقاء هذا الوضع، لكونها تختلف عن بقية دول حوض النيل بجغرافيتها الجافة الخالية من أي أنهار أخرى، والمفتقرة للأمطار، على عكس باقي دول الحوض[3].

لقد سعت مصر منذ فجر التاريخ إلى الحصول على أكبر حصة من مياه النيل، كما عملت جاهدة على ضبط واستثمار هذه المياه، وتسجل المصادر التاريخية أن الفراعنة قاموا في عهود مبكرة بحملات نحو أعالي نهر النيل من أجل استكشاف أسرار منابعه وتأمينها والتأكد من سلامة مسار تدفق مياه النهر إلى مصر[4].

ورثت مصر في العهد الإسلامي هذا الاهتمام الكبير بمياه النيل ومصادرها، فكان السلاطين يحرصون على استقصاء كل ما يتعلق بمجرى النيل وأحوال جنوب مصر والنوبة، وكان نهر النيل عنصرا محددا أساسيا للعلاقة مع الحبشة التي تسيطر على قسم هام من منابع النيل.

شريان الحياة.. سيادة منذ آلاف السنين على المحك

في بداية فبراير/شباط 2020، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، تقريرا مطولا عنونته بـ”مصر سيطرت على مدى آلاف السنين على النيل، لكن سد النهضة الإثيوبية يهدد هذه السيطرة”[5].

تستهل الصحيفة الأمريكية تقريرها بمشهد فلاح مصري يشتكي ضعف صبيب المياه وقلة المنتوج الفلاحي مقارنة بالوضع السابق، وهو ما قالت إنه قد يستفحل أكثر مع إنجاز سد النهضة الإثيوبي الواقع على بعد 2000 ميل إلى الجنوب في عمق الأراضي الإثيوبية.

ويتعلّق الأمر حسب “نيويورك تايمز”، بسد ضخم تناهز تكلفته 4 مليارات ونصف مليار دولار، وسيكون الأكبر في أفريقيا، بخزان بحجم مدينة لندن البريطانية، وهو ما حوّله إلى مصدر قلق في مصر وإثيوبيا، لما يثيره من المشاعر الوطنية والمخاوف لدى الشعبين[6].

يعيش قرابة 95% من المصريين على ضفاف نهر النيل أو في منطقة “الدلتا” التي ينتهي إليها في مصبه، ويوفر هذا النهر تقريبا كامل حاجيات مصر من المياه، وهو ما يفسّر مخاوف المصريين من لحظة شروع إثيوبيا في ملء الخزان الضخم لسد النهضة الذي يحتمل أن ينعكس سلبا على صبيب المياه في مصر.

حديث الصحيفة عن سيطرة مصر على مدى آلاف السنين على مياه النيل، تفسّره بكون الفراعنة كانوا يعشقون تماسيح هذا النهر، كما استعملوه وسيلة لنقل الحجارة الضخمة التي استعملوها في بناء أهراماتهم الشهيرة.

 

الحلم الإثيوبي.. شبح العطش يخيم على مصر

في تقرير لموقع قناة “سي إن إن” الأمريكية، قالت إن حوض النيل يمتد على 11 دولة إفريقية، لكن مصر التي تعتبر واحدة من أقدم حضارات العالم، سيطرت منذ آلاف السنين على حصة الأسد من مياه وخيرات هذا النهر الكبير، “وهو ما قد يكون بصدد التغيير حاليا” كما يقول التقرير في إشارة إلى مشروع السد الإثيوبي[7].

أهمية المنبع الإثيوبي لنهر النيل تكمن في كونه مهد النيل الأزرق الذي يوفّر لوحده قرابة 85% من إمدادات النيل المصري من المياه، والسد الإثيوبي الآخذ في التشييد، والواقع بالقرب من الحدود مع السودان، سيحوز القسم الأكبر من المياه، لتوليد قرابة 6 آلاف غيغا وات من الكهرباء. مشروع يكاد يمثل عتبة حتمية لخروج إثيوبيا من الفقر، من خلال توليد الطاقة وري الأراضي الفلاحية الخصبة.

لكن قيمة مياه النيل لا تقل أهمية عند المصريين، بل تفوق حجم الحلم الإثيوبي بالنهوض والخروج من الفقر، ففي تقرير منظمة الزراعة التابعة للأمم المتحدة “فاو”، فإن حصة المواطن المصري من المياه في سنة 2014 كانت في حدود 637 متر مربع، مقابل أكثر من 9500 في حصة المواطن الأمريكي في السنة نفسها، ومع استمرار التزايد الديمغرافي في مصر، واتجاهها نحو بلوغ مستوى 120 مليون نسمة في العام 2030، فإن حصة المواطن المصري من المياه ستنزل تحت عتبة الـ500 متر مكعب، أي أنه سيدخل دائرة الخطر[8].

وإذا كان وجود مصر يرتبط تاريخيا وحاضرا ومستقبلا بنهر النيل، فإن من سوء حظ المصريين أن هذين النبعين المغذيين لهذا النهر لا يوجدان داخل الأراضي المصرية، فما يعرف بالنيل الأبيض، ينبع من بحيرة فيكتوريا كبرى البحيرات الإفريقية، وتوجد في منطقة تتوسط بين تنزانيا وكينيا وأوغندا، أما النيل الأزرق وهو النبع الثاني للنهر، فيوجد ببحيرة “تانا” في المرتفعات الإثيوبية، ويلتقي النيلان في منطقة تقع قرب العاصمة السودانية الخرطوم، ومن هناك يشق طريقه نحو الشمال ليعبر الأراضي المصرية نحو البحر الأبيض المتوسط[9].

وتقول التوقعات العلمية إن مشروع السد الإثيوبي يهدد بتصحّر قسم كبير من الأراضي القابلة للزراعة في مصر، ويتحدثون تحديدا عن مساحة تتراوح بين مليونين وأربعة ملايين هكتار زراعي ستتحول إلى صحراء قاحلة، من أصل ما بين 8 إلى 10 ملايين هكتار المتوفرة حاليا بمصر، وهذا التصحّر يعني خسارة اقتصادية كبيرة لمصر، من حيث إنتاجها الغذائي وفرص العمل والمزيد من الهجرة نحو الحواضر[10].

 

ورقة الضغط السياسي.. صراع الفراعنة والحبشة

يضم تاريخ مصر وإثيوبيا مسارا طويلا من العلاقات والصراعات التي يدور جلّها حول أحد أمرين: الدين والنيل. وتعتبر أول دولة قائمة الأركان في بلاد الحبشة، هي تلك التي أسستها إمارة “أكسوم”، ويختلف تحديد تاريخ تأسيسها بين الفترة السابقة للميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، لكن هذه المملكة التي تعرف باسم الحبشة آلت إلى الأفول في القرن الثامن للميلاد.

وقد تأسست العلاقات المصرية الإثيوبية بشكل فعلي مع اعتناق الملك الأكسومي “إيزانا” للمسيحية خلال القرن الرابع للميلاد، حيث أصبحت الكنيسة الإثيوبية تحت الوصاية المباشرة لنظيرتها المصرية منذ ذلك الحين وإلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي[11].

بعد الفتح الإسلامي لمصر في العام 640 للميلاد، أصبحت إثيوبيا في وضعية دفاعية تجاه مصدر إلهامها الروحي السابق، فالكنيسة الأرثوذوكسية المصرية باتت خاضعة لدولة إسلامية، مما جعل الدولة الإثيوبية قليلة الثقة في مرجعها الروحي بالإسكندرية، وهو ما حوّل منابع النيل الأزرق الحبشية سلاحا طالما لوّح به ملوك إثيوبيا القدامى ضد مصر.

أول من كتب عن احتمال إقدام الحبشة على تغيير مسار نهر النيل لحرمان مصر منه كان العالم القبطي “جرجيس المكين بن العميد” الذي عاش في القرن الـ13 الميلادي، كما أصبحت فكرة تحويل مسار النيل الأزرق نحو البحر الأحمر، تلهم المفكرين والمنظرين الأوربيين في القرون اللاحقة، كسلاح فعال محتمل ضد مصر[12].

ظلت العلاقة بين مصر والحبشة تدور حول مياه النيل، فقد كانت الحبشة تقدر من جانبها أهمية هذا الإشراف الذي يتعلق بمصالح حيوية بالنسبة لمصر، وكانت تتخذ هذا الإشراف على منابع النيل في أحيان كثيرة وسيلة للضغط السياسي، وتتذرع به لتحقيق بعض مصالحها ومطالبها المعلقة على إرادة مصر.

أما مصر فكانت تستخدم سلطاتها الروحية لضمان مصالحها في مياه النيل، حيث تسيطر على بيت المقدس وما به من أماكنة مقدسة في النصرانية، وبالتالي تسيطر على منبع روحاني للملايين من المسيحيين في الحبشة، إلى جانب احتضانها مركز البطريركية المرقسية التي تتبعها الحبشة من الوجهة الدينية[13].

 

رسالة النجاشي.. تهديد صريح بتحويل مجرى النيل

في مراحل الاضطراب او الاضطهاد، وحين يصيب المصالح النصرانية أو الرعايا النصارى شيء من الظلم أو الغبن، كان ملوك الحبشة يسعون لدى سلاطين مصر لرفع هذا الاضطهاد، أو لنيل بعض المنح كأن تعاد بعض الكنائس التي هدمت أو يطلق سراح المعتقلين أو غير ذلك من المطالب. وكان ملوك الحبشة يجدون دائما في التلميح إلى ماء النيل وإلى منابعه الواقعة تحت إشرافهم أداة لتحقيق مطالبهم، إلى جانب سيطرتهم على مصائر كثير من الرعايا المسلمين في بعض الولايات الحبشية كعامل آخر من عوامل الضغط، يعادل سيطرة السلاطين المصريين على أرواح الرعايا النصارى.

ومن أهم ما تحتفظ به المصادر التاريخي في هذا الصدد، تلك الرسالة التي بعثها نجاشي الحبشة “زرء يعقوب” في منتصف القرن 15 للميلاد إلى السلطان الظاهر جقمق في مصر، ويهدده فيها بمنع مياه النيل عن مصر.

وتقول هذه الرسالة:

“… وليس يخفي عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجرُّ إليكم من بلادنا، ولنا الاستطاعة على أن على أن نمنع الزيادة التي تروي بها بلادكم عن المشي إليكم، لأن لنا بلادا نفتح لها أماكن فوقانية يتصرف فيها إلى أماكن أُخر قبل أن يجيء إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله”[14].

كان سياق هذه الرسالة وجود توتر بين النجاشي والسلطان المصري، بعد محاولة الحبشة التمرد على السلطة الروحية لمصر، وربط الكنيسة المحلية مباشرة بروما، مع ما يعنيه ذلك من تحالف مع القوى الأوروبية، وهو ما يؤكد أهمية ورقة نهر النيل ومياهه في العلاقات التاريخية بين مصر والحبشة.

سد النهضة حاجز في طريق الماء إلى مصر.. فهل تبقى مصر صامتة؟

 

زحف مصري إلى منابع النيل.. تهديد مصالح بريطانيا

استمر إدراك مصر لارتباط وجودها بنهر النيل في العصر الحديث، وتخلت تدريجيا عن التفسيرات الأسطورية لقوة هذا النهر بمحاولة الاحتفاظ بالسيطرة على منابع مياهه، وذلك من خلال بسط السيادة المباشرة على مناطق واسعة من السودان والحبشة، وزاوجت مصر في القرنين الماضيين بين الحملات العسكرية والرحلات الاستكشافية العلمية التي وصلت إلى المنابع الأصلية للنيل في قلب إفريقيا[15].

فقد كانت السودان حلما يراود محمد علي، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف، أولها القضاء على ما تبقى من المماليك الذين هربوا إلى بلاد النوبة، وثانيا كي يبحث عن الذهب والثروات، وثالثا كي يكتشف منابع نهر النيل ويبدأ في السيطرة عليها[16].

تعتبر حملة محمد علي على السودان في بداية القرن الـ19 أشهر الحملات المصرية نحو عمق نهر النيل، حيث شهدت تلك الحملة وصول الجيش المصري إلى ملتقى النهرين الأبيض والأزرق، وقد شهد وقتها تأسيس مدينة الخرطوم، ثم واصل الجيش المصري -بقيادة إسماعيل نجل محمد علي- زحفه نحو منابع النيل الأزرق الواقعة في إثيوبيا حاليا، حيث استولى على سنار، وهي مدينة في وسط السودان[17].

وأثناء وجود الجيش في سنار انتشر المرض بين الجنود، فاضطر إسماعيل إلى طلب المدد من أبيه، فأرسل إليه إمدادات بقيادة إبراهيم باشا، واتفق الأخوان على تقسيم العمل بينهما، فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه على النيل الأزرق، بينما اتجه إبراهيم لكشف منابع النيل الأبيض.

في منتصف العام 1822 أرسل محمد على جيشا ثالثا بقيادة صهره “محمد بك الدفتردار” لغزو منطقة “كردفان” السودانية، وانتقم من ملك شندي الذي كان قد حرق إسماعيل وبعض صحبه أثناء عودتهم الى مصر. وأخذت الفتوحات المصرية تمتد في عمق السودان، مما أثار مخاوف بريطانيا من وصولها إلى الحبشة، فسارع قنصل إنجلترا العام في مصر لمقابلة محمد علي، وأفضى إليه بأن إنجلترا لا ترحب بعمل كهذا، فقال له محمد علي إن الحبشة وإن كانت مملوءة ذهبا ومجوهرات وكان فتحها أمرا محققا، فإنه يؤثر العدول عن ذلك حتى لا تسوء علاقته ببريطانيا[18].

حروب تاريخية دارت بين مصر وإثيوبيا كان محورها على الدوام نهر النيل

 

احتلال إثيوبيا.. هزيمة الجيش المصري

بعد حملة محمد علي تعتبر حملة الخديوي إسماعيل على الحبشة في سبعينيات القرن الـ19 الأشهر من بين المواجهات المصرية الإثيوبية في العصر الحديث، وتسبب في هذه الحرب خلاف بين الخديوي إسماعيل والنجاشي “تيودروس”، حول منطقة “سنهيت” السودانية، فقد كان الخديوي إسماعيل ينوي مد خط سككي يربط السودان بالبحر الأحمر ويمرّ بهده المنطقة التي اعتبرها النجاشي تابعة لإثيوبيا[19].

في العام 1867 انفجر الخلاف من جديد، لكن هذه المرة بين الحبشة والإنجليز، حيث اعتقل النجاشي “تيودروس” قنصل إنجلترا وبعض التجار الإنجليز، وعندما اشتد الخلاف أرسل الخديوي إسماعيل إلى النجاشي يطلب إليه حسم النزاع وإطلاق سراح المعتقلين، وحذره من عاقبة إصراره على اعتقالهم، وبأنه في حالة نشوب حرب بين الإنجليز وبينه فإنه لن يمنع الإنجليز من اجتياز الأراضي المصرية لمهاجمته.

أصر النجاشي على الرفض، فأرسلت إنجلترا حملة عسكرية بقيادة اللورد “نابييه”، وأمر الخديوي عبد القادر باشا الطوبجي بمعاونة الجيش الإنجليزي في نزوله إلى البر، وبأن يكون الأسطول المصري تحت أمره، وقد احتل الإنجليز مدينة مجدلا شمال أديس أبابا، وانتهت الحرب بفوزهم وقتل النجاشي “تيودروس”، وعاد الإنجليز إلى بلادهم، وآل بعد ذلك عرش الحبشة إلى الملك “يوحنا”[20].

حاول الخديوي إسماعيل بعد ذلك مد نفوذه جنوبا داخل الأراضي الإثيوبية، وعينه على منابع النيل الأزرق، وخصّص لذلك حملات عسكرية متعددة، آخرها تلك التي خاضت معركة كبيرة في قورع يوم 7 مارس/آذار سنة 1876، وانتهت بهزيمة الجيش المصري، وأُسر من المصريين نحو 250، وكان ضمن الأسرى المصريين محمد رفعت بك رئيس القلم التركي بديوان الجهادية، فسعى في عقد الصلح مع الملك يوحنا، على أن ينسحب الجنود المصريون من أرض الحبشة ويرد الملك يوحنا الأسرى إلى مصر، ويفتح طريق التجارة بين مصوع والحبشة، وقد نجحت مساعيه وعقد الصلح، وبقيت منطقة “سنهيت” من أملاك مصر[21].

في عهد الخديوي إسماعيل هاجمت القوات المصرية إثيوبيا في محاولة للسيطرة على منبع نهر النيل

 

بقايا الاستعمار.. دعم بريطاني للحقوق المصرية

زاد الحضور الأوروبي المباشر في المنطقة من تعقيد الخلافات حول مياه النيل، فقد خضعت مصر للسيطرة البريطانية بدءا من العام 1882، بينما انتصرت إثيوبيا على إيطاليا التي حاولت استعمارها، وباتت مع نهاية القرن الـ19 البلد الإفريقي الوحيد الذي تصدى للحملة الاستعمارية الأوروبية وهزمها، لكن الحضور الاستعماري الأوروبي في المنطقة وما نتج عنه من ظهور دول لم تكن قائمة من قبل مثل إرتريا ورواندا وأوغندا، أنتج تنافسا إقليميا جديدا حول مصادر المياه.

وبما أن مصر كانت مفتاح السيطرة البريطانية على المنطقة، ومنصة اتصالها الأولى مع مستعمراتها الهندية، ونظرا لما يشكله النيل من أهمية خاصة بالنسبة لمصر، فقد دعمت بريطانيا الحقوق المصرية في هذا النهر.

وبعد مناوشات عسكرية بين القوات البريطانية ونظيرتها الفرنسية حول السيطرة على منابع النيل، انتهى الأمر باتفاق القوتين الأوروبيتين على تولي فرنسا منطقة نهر الكونغو، مقابل تولي بريطانيا منطقة حوض النيل، وكشف هذا الصراع الأوروبي عن جهل كبير بحقيقة حوض النيل، كيث كان الاعتقاد لا يزال سائدا أن أكثر ماء النيل يأتي من بحيرة فكتوريا[22].

إثيوبيا تستعد عسكريا لأية سيناريوهات محتملة من قبل مصر ضد سد النهضة

 

معاهدات التوزيع.. فيتو مصر على حوض النيل

جرت أولى المفاوضات الدولية والإقليمية حول مياه النيل في المرحلة الاستعمارية، حيث كانت بريطانيا تحرص على تأمين أقصى ما يمكن من الواردات المائية لمنطقة دلتا النيل المصرية، وحصلت بريطانيا عام 1902 على التزام من الإمبراطور الإثيوبي “منليك الثاني” باستشارتها قبل القيام ببناء أي منشآت فوق مياه النيل الأزرق وبحيرة “تانا” التي ينبع منها.

وبعد استقلالها سنة 1922، دخلت مصر في مفاوضات مع المستعمرات البريطانية حول حصتها من مياه النيل، وقد توجت بمعاهدة 1929 التي نصت على حصة لمصر من المياه، مع حقها في ممارسة الفيتو ضد أي منشآت تقيمها دول الحوض الأخرى فوق مياهه، وبقيت إثيوبيا خارج هذه الاتفاقية لكون الجهل كان مستمرا بحجم المياه التي تأتي من النيل الأزرق، والتي تشكل في الواقع غالبية الصبيب[23].

وجاءت اتفاقية 1959 بين مصر والسودان التي حددت حصة كل منهما من مياه النهر، بينما لم تكن أغلب الدول الأخرى لحوض النيل قد حصلت على استقلالها، لكن جاء الاحتجاج الأثيوبي من خلال فتح الإمبراطور “هايلي سيلاسي” لمفاوضات فك الارتباط مع الكنيسة المصرية التي أنهت علاقات دامت أكثر من 1600 سنة. انفصال روحي ردّ عليه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بتشجيع المسلمين في كل من إرتيريا والصومال على السعي للحصول على استقلالهم عن إثيوبيا[24].

مشكلة هذه الاتفاقيات أنها لا تكفل أي حقوق واضحة لإثيوبيا الدولة التي ينبع منها النيل الأزرق، ولا لأي من الدول الثماني الأخرى التي يعبرها النيل الأبيض، ويفسّر الأكاديميون هذا الامتياز الذي حصلت عليه مصر، بما كانت تمثله من أهمية كبرى بالنسبة لبريطانيا، خاصة في مجال زراعة القطن[25].

توتر ما بعد الاستقلال.. محاولة اغتيال مبارك

يعود أول توتّر صريح ومباشر بين مصر وإثيوبيا المستقلتين حول مياه النيل إلى نهاية السبعينيات في عهد الرئيس المصري أنور السادات، حين قرر السادات مد مياه النيل لري 35 ألف فدان في سيناء، لتعتبر إثيوبيا وقتها أن هذا المشروع يهدد مصالحها، وتقدمت بشكوى إلى منظمة الوحدة الأفريقية تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل.

تصاعد التوتر ليصل درجة تهديد الرئيس الإثيوبي “منجستو” بتحويل مجرى نهر النيل، ومن جانبه وجه الرئيس السادات خطابا حاد اللهجة إلى إثيوبيا، وأعلن أن مياه النيل خط أحمر مرتبط بالأمن القومي المصري[26].

أما عصر الرئيس السابق محمد حسنى مبارك، فشهد مرحلة جديدة من العلاقات، خفت فيها حدة توتر الخطاب السياسي بين البلدين، وحلت محلها انفراجة في العلاقات المصرية الإثيوبية في صيغة التعاون والتفاهم في مختلف المجالات، ولم يتوقف هذا المسار إلا بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995.

وبعد أكثر من 15 عاما من الجمود، شهدت العلاقات المصرية الإثيوبية انعطافة جديدة بعد ثورة يناير 2011 التي أطاحت بنظام مبارك، فقد انتهزت إثيوبيا الوضع لتعلن شروعها في بناء سد النهضة، والشروع في التصديق على الاتفاقية الإطارية حول مياه النيل التي وقعتها خمس دول إفريقية، وهي إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا، وتعارضها مصر والسودان، لكونها تنص على التراجع عن الحصص المحددة في المعاهدات السابقة لدولتي المصب، أي 55,5 مليار متر مكعب لمصر، و18,5 مليار متر مكعب للسودان، وهو ما يعتبر إيذانا بإشعال حرب لم تبد مصر في عهد عبد الفتاح السيسي ما يكفي من العزم والتصميم لربح رهانها. فهل تخسر مصر ماء نيلها التاريخي؟

 

المصادر

[1]https://www.youtube.com/watch?v=ewiDfDzKot0

[2]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam

[3]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html

[4]shorturl.at/lpT48

[5]https://www.nytimes.com/interactive/2020/02/09/world/africa/nile-river-dam.html

[6]https://www.nytimes.com/interactive/2020/02/09/world/africa/nile-river-dam.html

[7]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html

[8]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html

[9]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html

[10]https://en.eipss-eg.org/ethiopian-renaissance-dam-its-implications-on-egypt/

[11]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam

[12]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam

[13]shorturl.at/gquP7

[14]أبو العباس أحمد القلقشندي، صبح الأعشى في كتابة الإنشا، در الكتب المصرية، 1922

[15]shorturl.at/nEKTX

[16]shorturl.at/anAT0

[17]http://www.faroukmisr.net/mohamed_alibasha.htm

[18]http://www.faroukmisr.net/mohamed_alibasha.htm

[19]عبد الله حسين، ” السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية”، الجزء الأول

[20]https://www.hindawi.org/books/35837080/20/

[21]https://www.hindawi.org/books/35837080/20/

[22]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam

[23]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam

[24]http://origins.osu.edu/article/who-owns-nile-egypt-sudan-and-ethiopia-s-history-changing-dam

[25]https://edition.cnn.com/2018/10/19/africa/ethiopia-new-dam-threatens-egypts-water/index.html

[26]http://gate.ahram.org.eg/News/1781082.aspx