“بانكسي”.. الفنان الجدليّ عبر عشرات العدسات

في نهاية الفيلم التسجيلي “مَخْرَج عبر محل الهدايا” (عُرض في عام 2010)، وَعَدَ فنان الجرافيتي البريطاني الشهير “بانكسي”، والذي أخرج الفيلم، مشاهديه بأنه لن يتعاون في المستقبل مع أي مُخرج لتسجيل حياته أو يومياته. هناك قصة خلف ذلك الوعد، فـ “بانكسي” الذي قرّر أن يقوم بإخراج فيلماً عن “تييري جوتا” (فرنسي يعيش في الولايات المتحدة كان منكباً لسنوات على تسجيل عمليات تنفيذ أعمال الجرافيتي الغير شرعية حول العالم عبر كاميرات فيديو)،أصيب بخيبة كبيرة من صاحب الشخصية الغريبة الأطوار، والذي كان يطارده لسنوات من أجل أفلمة مُحترَف الفنان البريطاني الشديد السريّة (لا يعرف الجمهور لليوم الاسم الحقيقي لـ “بانكسي” أو شكله). أثار تييري جوتا بغرابته ثم اتجاهه للاشتغال بالعمل الفنيّ والجرافيتي تحديداً فضول بانكسي، إلى الحد الذي رغب بتقديم حكايته في فيلم تسجيلي، كان الأول للفنان البريطاني. لكن النجاح الكبير للفرنسي تييري جوتا في عالم الفن حَرَّكَ مجموعة من المشاعر المتناقضة لدى “بانكسي”، بعضها يَصُبّ في جوهر التساؤلات عن تعريفات فن الجرافيتي نفسه، وقوة الدعاية في ترويج منتجات بغض النظر عن مستواها، وهو الأمر الذي يبدو أنه أزعج فنان الجرافيتي البريطاني، إلى الحَدّ الذي دفعه لقطع وعداً على نفسه بعدم التعاون سينمائياً مرة أخرى مع مخرجين، خوفاً من العواقب.

 

من جهته، يستهلّ الفيلم التسجيلي “بانكسي دز نيويورك” (أخرجه الأمريكي كريس مكربل وأنتجته قناة “HBO” الأمريكية هذا العام)، بملاحظة أن الفيلم لم يتعاون مع “بانكسي”. ليس من المعروف إذا كان لهذه الملاحظة علاقة بموقف الفنان البريطاني من السينما التسجيلية، كنتيجة لفيلم “مَخْرَج عبر محل الهدايا”، أم أنها ضرورية لفهم الظاهرة التي يُمثّلها “بانكسي” منذ سنوات طويلة عند جمهور كبير، كفنان يعمل في الخفاء ويدير بذكاء مؤسسته الفنيّة. في كل الأحوال يتشابه الفيلمان برغبتهما في حفظ مناخات التجارب الفنيّة الخاصة لـ “بانكسي”، وقبل أن يصيبها الخراب والتلف، أو تمتد لها وُحوش المال والطمع، وكما يتبين ذلك جلياً في فيلم ” بانكسي دز نيويورك “.

يسجل الفيلم يوميات من أكتوبر عام 2013، الشهر الذي اختاره الفنان البريطاني بانكسي للانتقال والعمل في مدينة نيويورك، والخطة إنجاز عمل فنيّ يومياً طوال ذلك الشهر. يعتمد الفيلم بالدرجة الأساس على الأفلام التي صوّرها هواة بكاميرات متنوعة ومُختلفة الجودة، والمتوفّر كثير منها على شبكة الإنترنت. يُعيد المخرج ترتيب أيام شهر أكتوبر من عام 2013  زمنياً، بالعلاقة لأعمال الفنان البريطاني، مُركزّاً على الضجة التي أثارها وجود “بانكسي” في المدينة، مهد حركات الجرافيتي في العالم. كما يجمع الفيلم مشاهد للأعمال الفنية التي تركها الفنان البريطاني على جدران وأبواب محلات في المدينة، وقبل أن تُزال أو يتم تقطيع الجدارن التي رُسمّت عليها، من أجل بيعها في المستقبل بمبالغ، نعرف اليوم، بأنها صارت تقترب من مئات الآلاف من الدولارات. يبرز الفيلم أيضاً أعداء “بانكسي” من فنانين الجرافيتي، والذين يعتقدون أن الفنان البريطاني تخلّى عن ثوابت فنّ التمّرد، و”باع” روحه لرأس المال!

 

يكاد بانكسي، الغائب دائماً عن الصورة، أن يكون البطل الوحيد لفيلم “بانكسي دز نيويورك”. فليست هناك، وبسبب بناء العمل التسجيلي الكولاجي الطابع، شخصيات واضحة المعالم للفيلم. سيتكرر حضور بعض الشخصيات، مثل رجل وامرأة (لا نعرف خلفياتهما) ظهروا في مشاهد عدة، وهم يتنقلون في مدينة نيويورك بحثاً عن أعمال “بانكسي”، التي يتركها مثل الكنوز الصغيرة في مواقع متفرقة من المدينة العملاقة. كما ستحضر شخصية صاحب جاليري، من الذين يتعاملون مع أعمال بانكسي التي تُسرق من مواقعها الأصلية لغرض بيعها إلى حفنة من الأغنياء، الذين هم على النقيض تماماً من ثقافة فن الشارع  بروحه المتمردة وتصدّيه للنظم الفكرية والسياسية الحاكمة والتي يمثلها الفنان البريطاني. يعرض الفيلم في هذا الاتجاه، مشاهد مؤلمة لتقطيع جدران في فلسطين، من التي ترك عليها بانكسي أعمالا رافضة للقمع و الحريات. ظاهرة قطع الجدران تلك ستصل إلى نيويورك وغيرها من المدن الغربية الغنية، والهدف واحد، أي البحث عمن  يدفع المبالغ الأعلى لتلك الأعمال.

ستتكرّر الحوادث التي وقعت لأعمال “بانكسي” في الأراضي المحتلة الفلسطينية في مدينة نيويورك الأمريكية. ينقل الفيلم التسجيلي الأخير بعضاً منها، فبمجرد أن يعلن الفنان البريطاني عن عنوان العمل الجديد له في أحد الأمكنة العامة، يتجّه صائدو الكنوز إلى تلك الأمكنة، لتُنهب الأعمال على مرأى الناس التي كانت تقف مُتفرجّة على ما يجري. ولتكون المشاهد القليلة التي صورها هواة للأعمال وقبل سرقتها، الوحيدة التي توثّق وجود تلك الأعمال الفنيّة قبل أن تختفي للأبد. الأمر الذي يمنح هذا الفيلم، والفيلم السابق قيمة توثيقية شديدة الأهمية. ففي فيلم “مَخْرَج عبر محل الهدايا”، والذي يُسجل في جزء منه أعمال “بانكسي”، سنشاهد مثلاً، أعمالاً للفنان البريطاني من التي أزيلت بعد ساعات قليلة فقط على وجودها، كالتجربة الفنيّة الجريئة بوضع دمية تشبه سجناء جوانتانامو في حديقة “ديزني لاند” في الولايات المتحدة، والتي حفظتها كاميرا الفيلم للأبد. وبعد أن أُزيلت الدمية تلك بعد دقائق فقط من وضعها هناك.

 

وصل المخرج الأمريكي الشاب كريس مكربل إلى موضوع “بانكسي” في نيويورك، بعد انقضاء فترة مكوث الفنان في المدينة، وبعد نهاية تجربته فيها واختفاء جميع الأعمال التي تركها الفنان في المدينة الأمريكية. لا نعرف اذا كان “بانكسي” قد وثّق تجاربه في المدينة بنفسه. من جهته يعتمد فيلم المخرج كريس مكربل تماماً على المواد الأرشيفية وتغطيات الإعلام الأمريكي وقتها. هذا الاتجاه في إنجاز الأفلام التسجيلية، أي ارتكازها الكامل على تغطيات الإعلام وأفلام الهواة، بدأ بالتزايد في الأعوام الأخيرة. هو يستفيد من هوس التسجيل عند كثيرين. فمن الصعب أن يمرّ حادث ما في مدينة مزدحمة، دون أن ترتفع عشرات وأحياناً مئات الهواتف النقّالة التسجيلية بكاميراتها. هذه الظاهرة الجديدة تُضيف الكثير للأفلام التي تتصدّى لقضايا جدليّة إشكاليّة، فالكاميرات الخاصة لناس عاديين تشبه شهادات حية، ووجودها يثري المسّار البحثي الإستقصائي للأفلام، وأحياناً رصيدها الجماليّ.

من المُستبعَد أن تتوقف الأعمال التسجيلية التي تتناول “بانكسي”، خاصة إذا لم يتوقف هو نفسه عن إنتاج المزيد من الأعمال الإشكاليّة، والتي خرجت في السنوات ألأخيرة من أَسْر فئة الجرايفتي، وانفتحت على ما يُطلق عليه “الفن المفاهيمي” بكل تنويعاته. “بانكسي” هو أيضاً مثال صارخ على تحوُّل الفنان إلى ضحية لنجاحاته. فكل ما يتركه الفنان البريطاني على جدران بنايات فقيرة وفي أحياء مهجورة يتحول إلى ثروة للبعض، ويختفي في اليوم التالي من تلك الجدران ومن وجه المدينة، أي من “جاليري” الفنان الواسع المُفضّل. وهو الأمر الذي لا شك أنه يؤرق الفنان، الذي لا يرغب أن ينضم إلى مؤسسة الفنّ التقليدية، والأهم من ذلك يريد أن يحافظ على هويته السريّة. من هنا تغدو الأفلام التسجيلية عن “بانكسي” بكل أنواعها وتوجهاتها فرصة رائعة للمعجبين بهذا الفنان الإستثنائي، للتعرُّف على ما ينجزه من أعمال، هي دائماً راهنة ومُقلقة ومُتجددة، تنتصر للإنسان أينما كان، وضد المؤسسات بكل أنواعها.


إعلان