“حادث النصف متر”.. فيلمان عربيان يتسابقان في ميدان رواية واحدة
يبقى “حادث النصف متر” فريدا في تاريخ السينما العربية. حادث جاء على شكل رواية، كتبها الأديب الروائي والكاتب الصحافي المصري صبري موسى، فاستلهمها فيلمان عربيان؛ أحدهما سوري والآخر مصري، في زمن متقارب جدا، يكاد لا يفصل بينهما أكثر من سنة.
كان الفيلم الأول من إخراج السوري سمير ذكرى في العام 1981، والفيلم الثاني من إخراج المصري أشرف فهمي في العام 1983، وشكلا تجربتين شديدتي الاختلاف، يمكن لهما معا أن يشكلا درسا نموذجيا حقيقيا في الاقتباس والاستلهام وأفلمة الرواية، وتحويلها من وسيط أدبي إلى وسيط سينمائي، وقد مثل الفيلمان مدرستين سينمائيتين مختلفتين جوهريا.
سمير ذكرى.. شاب يركب الصعب ويصنع التفرد
نشير إلى تفرد “حادث النصف متر” في تاريخ السينما العربية، ونحن نميّز بين فكرة قيام فيلمين سينمائيين بالعمل على أفلمة رواية ما، في زمنين متقاربين جدا -إن لم نقل متداخلين، وهو كذلك فعلا-، وهذا ما لم يحدث في تاريخ السينما العربية من قبل “حادث النصف متر” أو من بعدها على ما نعلم؛ وبين فكرة إعادة أفلمة رواية ما، بعد زمن طويل على إنتاج فيلم آخر عنها، كما حدث في فيلم “اللص والكلاب” من إخراج كمال الشيخ (1962)، و”ليل وخونة” من إخراج أشرف فهمي (1990)، وهما فيلمان مأخوذان عن رواية “اللص والكلاب” للأديب نجيب محفوظ.
أو كذلك قيام فيلمين مصريين باستلهام عمل أجنبي، خلال وقت متقارب، كما حدث في فيلم “الراعي والنساء” من إخراج علي بدرخان (1991)، و”رغبة متوحشة” من إخراج خيري بشارة (1992)، وهما مأخوذان عن مسرحية “جريمة في جزيرة الماعز” للإيطالي “أوغو بتي”.
التفرد في “حادث النصف متر”، هو أننا كنا أمام مخرج سوري شاب يعتزم تحقيق أول فيلم روائي طويل له، بإنتاج من “المؤسسة العامة للسينما في سورية”، فيذهب قراره في النهاية إلى رواية مصرية، متجاوزا المُنجز الأدبي القصصي والروائي السوري، وقد بات هذا المُنجز عند مطلع ثمانينيات القرن العشرين على قدر من الغنى والأهمية، فيغضّ المخرج الطرف عنه كله بعناوينه وأعلامه، ذاهبا إلى نصّ يستلهمه مُدركا المُهمات الصعبة التي تنتظره، ليس على صعيد أفلمة هذه الرواية فقط، أو جعل شخصياتها وأحداثها سوريّة خالصة، في حين أنها رواية مصرية خالصة على مستوى الشخصيات وتواريخها النفسية والاجتماعية وأحداثها وأمكنتها وأزمنتها؛ بل كذلك في ما كان يعتزم الذهاب إليه بهذه الرواية، من رؤية سينمائية وفكرية يسعى إليها، ستثير الدهشة من نباهة الالتقاطة فيها.
مقهى القصر.. صدفة الرواية المصرية تغير دفة السفينة
كان المخرج سمير ذكرى السينمائي قد عاد من دراسة السينما في “المعهد العالي للدراسات السينمائية في موسكو” (الفغيغ) الشهير، وأنجز فيلمه الوثائقي الأول “عنها” (1979)، وهو أحد أبرز وأهمّ الأفلام الوثائقية عن المرأة السورية، ثم بدأ التحضير لتحقيق فيلمه الروائي الطويل الأول.
وقد كان اختيار “المؤسسة العامة للسينما في سورية”، التابعة لوزارة الثقافة، وقع على رواية “بقايا صور” للأديب السوري حنا مينه، أحد أهمّ الأدباء السوريين والعرب، لتحويلها إلى فيلم روائي طويل. وشرع سمير ذكرى فعلا في كتابة السيناريو، والاستعداد لإخراج الفيلم، كعادة ما كان من أسلوب في عمل “المؤسسة” من ناحية الاتفاق المُسبق مع المخرج على تفاصيل فيلمه الروائي الطويل، من حيث القصة والسيناريو والحوار، والإجراءات الإنتاجية الكاملة التي تتولاها المؤسسة.

المُصادفة ونصيحة الأصدقاء جعلتا سمير ذكرى يقرأ رواية “حادث النصف متر”، من تأليف صبري موسى. وقد وقع ذلك في العام 1979، عندما كان في حلب، والتقى بصديقيه الكاتب محمد كامل الخطيب والروائي نيروز مالك. هناك وخلال جلسة في مقهى القصر الشهير في حلب، أرشداه إلى هذه الرواية المصرية. وعندما قرأها وجد فيها ضالته ومُلهمته، بحسب ما يقول لنا في حديث خاص معه، فقرّر الاعتذار عن إخراج “بقايا صور”، وأخذ يستعد للعمل على رواية “حادث النصف متر” موضوعا لفيلمه المُنتظر.
توأما الرواية.. بداية تصوير الفيلمين في سوريا ومصر
في تشابك العامين 1979-1980، عكف سمير ذكرى على كتابة السيناريو الذي أراد أن يبنيه متكئا على رواية “حادث النصف متر”، وقبل ذلك التقى بكاتب الرواية صبري موسى الذي كان حينها مراسلا لمجلة “روز اليوسف” في العراق. وفي طريقه من بغداد إلى القاهرة حضر إلى دمشق، لتوقيع العقد مع “المؤسسة العامة للسينما في سورية”، وأخبره المخرج بتصوّره ورؤيته عن الكيفية التي سيقوم من خلالها بمعالجة الرواية، خاصة من زاوية جعل نكسة حزيران العام 1967 خلفية تاريخية للأحداث، فلاقى الأمر قبولا لدى صبري، رغم أنه ليس موجودا أصلا في الرواية، لأنها كُتبت قبل النكسة.

بدأ تصوير الفيلم السوري في أحياء مدينة دمشق، بإدارة مخرج سوري شاب في أول أفلامه الروائية الطويلة، وبطولة مجموعة من الممثلين غالبيتهم من الشباب أيضا، وممن يظهرون على الشاشة الكبيرة للمرة الأولى، أو في بطولة أولى، أمثال عبد الفتاح المزين وجيانا عيد، وخلال ذلك الوقت، وغالبا بعد عودة الروائي صبري موسى من بغداد ودمشق إلى القاهرة، بدأ المخرج المصري أشرف فهمي العمل على أفلمة رواية “حادث النصف متر”، ببطولة النجمين محمود ياسين ونيللي، إضافة إلى سعيد صالح ومجدي وهبة وصلاح نظمي، وكان الفيلم جاهزا في العام 1983.
حينها، أي على بوابة العام 1981، كان المخرج أشرف فهمي قد نهض بقامته السينمائية، مؤسّسا لسجله الفيلمي وحضوره المتميز، واضعا اسمه في النسق الأول لكبار المخرجين السينمائيين العرب، في تنويعات من التعامل مع نصوص أدبية لكبار من طراز نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس، وصبري موسى، وسيناريوهات لأمثال رأفت الميهي، وبشير الديك، ومصطفى محرم، وعبد الحي أديب، ورفيق الصبّان، وأدار عددا من أبرز وأهم نجوم السينما المصرية والعربية.
رؤية الفيلمين.. مدارس مختلفة تجمعها روح التمرد
لتكتمل عناصر هذا “الحادث” السينمائي الفريد، لن نجد أنفسنا فقط مع فيلمين (سوري ومصري) خرجا من رحم رواية واحدة، وكان لكل منهما أن يأخذ طريقه وطريقته ورؤيته تجاهها، وبحثه عن مكانته في تاريخ سينما بلده وفي تاريخ السينما العربية، بل أيضا سنقف أمام تجربتين سينمائيتين مختلفتين تماما، في كيفية استلهام الرواية وصياغتها بصريا.
الأولى يقودها سمير ذكرى، وهو مخرج سوري في أول أفلامه الروائية الطويلة، ويحلم بأن يضع بصمته في سجلّ السينما (لأول مرة)، حالما بأن يحقّق مشروعه السينمائي والفكري في آن واحد، مقترحا ذاته وتجربته، بوصفه مخرجا سيبقى مشاكسا في أفلامه التالية، مثيرا أسئلة مُحرجة للسلطات، يهزّ اليقينيات الراسخة الثابتة، سعيا نحو التنوير الذي يبدو همّه الأساس.
وأما الثانية فهي بتوقيع أشرف فهمي، وهو مخرج سينمائي مصري معروف متمرّس وخبير، مخرج عُرف بأنه مشاكس ومتمرد، وصاحب عدد من الأفلام النافرة التي أثارت جدلا، بسبب موضوعاتها ومضامينها، بالإضافة لمقاربتها الخطوط الحمر، ومحاولتها كسر المحرمات شكلا ومضمونا.
نكسة حزيران.. آفاق الهزيمة تعصف بالواقع السوري
في العودة لمشاهدة فيلم “حادث النصف متر” للمخرج سمير ذكرى، تكتشف اليوم (سنة 2016) على رأس 35 سنة من إنتاجه، أن تشريحه للواقع السوري ومن ثمّ العربي ما زال طازجا وحارا، كأنما الفيلم أُنتج بالأمس القريب، أو ربما اليوم.
هذا فيلم سينمائي سوري ريادي حقيقي، يقوم باستشراف المستقبل، من خلال قراءة الماضي القريب، والحاضر الراهن (حينها)، على رغم أن أحداثه تدور في مدينة دمشق، على بوابة النكسة الحزيرانية 1967 (نكبة يونيو)، وذاك القلق الذي يعصف بالفئات الوسطى، وبالمثقفين وأنصاف المثقفين وتحوّلاتهم، إلى درجة أنهم يأتون من قهر اجتماعي واقتصادي ونفسي وكبت وحرمان، ليتحوّلوا عن ما قليل إلى أدوات سلطوية بائسة، في استكمال لدورة القهر والاستبداد واستيلاد الهزيمة من رحمهما.

“حادث النصف متر” فيلم يكشف مبكرا حالة الفوات والتهافت في الواقع السوري في شكل صاعق، وينذر بمآلات مرعبة، سوف تتكشف عن ما قريب وتتجسّد. ومن المؤسف أن الأفلام السينمائية لا تُؤخذ في عالمنا العربي على محمل الجدّ، ولا بعين الاعتبار، لا ننتبه لتحذيراتها، ولا نستمع لصرخاتها، ولا نأبه بقرعها نواقيس الخطر.
صبري موسى.. حين يكتب الروائي سيناريو الفيلم
في التوقف أمام فيلم “حادث النصف متر” للمخرج أشرف فهمي، لا بد أن نتوقف أمام فكرة أن يتولى الروائي نفسه كتابة السيناريو والحوار عن نصّه الأدبي، وإلى أي درجة يمكنه التقاط الفارق فيما بين النص الأدبي والنص السينمائي، وما الذي يمكن أن يأخذه معه في رحلته من النص الأول إلى الثاني، وما الذي ينبغي أن يتخلى عنه تماما؟
أسئلة من هذا الطراز لا تهدف التشويش بمقدار الاستيضاح، فإذا كان بعض المخرجين يتعاملون مع الفيلم الذي بين أيديهم بطريقة حرفية مهنية؛ أي أن يكون غاية مراده تنفيذ السيناريو، وفق ما هو مكتوب، وبالشكل الأفضل، فإن الأمر يزداد تعقيدا حين يكون كاتب السيناريو هو نفسه صاحب القصة أو الرواية.

لا يمكن القول إن فيلم “حادث النصف متر” هو مشروع أشرف فهمي السينمائي، ولا هو خلاصة تجربته، ولا هو من النوع السينمائي الأثير والمأثور عن أشرف فهمي. سنجد بالمشاهدة للفيلم أنه يذهب وفق ما كتبه السيناريست (وليس الروائي) صبري موسى، نحو شكل من الدراما النفسية التي شاعت في السينما المصرية منذ أواسط الستينيات، ومطلع السبعينات، وانتشرت على مدى سنوات تسمت بالأزمة، سواء عبر تلك الأفلام المأخوذة عن نصوص أدبية عربية، أو عن نصوص أدبية أو أفلام سينمائية غير عربية.
وربما يمكن النظر لأفلام الدراما النفسية باعتبارها تعبيرا عن مأزق عام يشهده المجتمع على مستويات عدة، سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية، وانعكاس ذلك على التوازن النفسي والروحي للأفراد. فالهذيان والهلوسة والميل إلى تناول الكحول والمخدرات، والاستهتار والانحلال والدعارة والعهر، والتفكك الأسري، والشك والقلق والتوتر.. كلها تجليات من أعراض الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تضرب عميقا، مزعزعةً أركان المجتمع، وملقية بأفراده في مهبّ رياح لا يقدر على فهمها وكيفية التعامل معها إلا العاقلون، ثم تأتي ضربة عسكرية من طراز النكسة الحزيرانية في العام 1967، لتزيد الأمور تعقيدا.
مقارنة الفواكه.. أعمال استثنائية في حقبة سينمائية محورية
يقول صديق سينمائي عريق: “لا تُقارن التفاح إلا بتفاح”. ومع ذلك حاولت هذه السطور المقارنة بين أصناف متعددة من الفاكهة. رواية كتبها روائي وكاتب صحافي وقاص متمرس وخبير، فاشتهرت وذاع صيتها، وعبرت الحدود من القاهرة إلى حلب، وفيلم سينمائي سوري أنجزه مخرج سوري شاب، في أولى محطاته السينمائية مع الفيلم الروائي الطويل، فحقق منعطفا في تاريخ السينما السورية، وفيلم سينمائي مصري لمخرج مصري معروف يتكئ على أكثر من 20 فيلما روائيا طويلا، تتنوع موضوعاتها ما بين الحب والزواج والعلاقات الاجتماعية والمواقف السياسية والقصص البوليسية، وببطولة اثنين من أبرز نجوم مصر في السبعينات؛ محمود ياسين ونيللي.

ليست الجسارة وحدها هي التي تدفع لهذه المحاولة وما تتضمّنه من مقارنة وربما مفاضلة، بل فرادة الظاهرة واستثنائيتها في الحقل الإبداعي العربي عموما، وفي حالتنا الأدبية السينمائية هذه تجسدت بين رواية وفيلمين وُلدا من رحمها خلال أقل من عام، في لحظات يمكن اعتبارها مهمة جدا في تاريخ السينما العربية عموما، والمصرية والسورية خصوصا، مما يمكن أن يفتح نقاشات إلى أبعد من سؤال أيهما أفضل، هذا الفيلم أم ذاك؟ وإلى أي درجة تمكّن هذا الفيلم أو ذاك من التفوق، أو عدم التفوق، على الرواية؟
تصل النقاشات إلى العلاقة بين الأدب والرواية، وقدرة الأدب على تعزيز ولادة أفلام سينمائية متميزة، وقدرة الأفلام السينمائية على تحريض الرواية، والتدقيق في ملابسات هذه العلاقة، لتجاوز مثالبها، والسعي دائما لتطوير هذه العلاقة والارتقاء بها، لنفوز في النهاية برواية وبفيلم يليقان بأحلامنا.