سينما الترسو.. أفلام تصنع متعة الطبقة السفلى من المجتمع المصري
الدرجة الثالثة في مصر هي مأوى المهمشين، الأغلبية التي تنام على رفوف النسيان، أن تكون على الهامش في مصر يعني أنك ستدخل سينما الترسو، وتشجع ناديك من مدرجات الدرجة الثالثة، وتسافر إلى بلدك أو عملك بقطارات الدرجة الثالثة أيضا.
الدرجة الثالثة في مصر هي درجة المهمشين الذين يعيشون بجوار الدرجة الثالثة وعلى مقاعدها، ويُصنفون على أنهم درجة ثالثة، يرتدون ملابس درجة ثالثة، ويسكنون مناطق عشوائية ويدخلون سينما ترسو، ويمارسون حياة ضاقت بهم حتى ضاقوا بها.
“احترس من النشالين”.. صالة الطبقة السفلى من رواد السينما
عُرف مصطلح “الترسو” في مصر مع بداية إنشاء دور السينما، فقد قُسِّمت إلى أقسام ثلاثة: الشرفة والصالة والترسو.
وقد وُضع هذا التقسيم الثلاثي وفق معايير اقتصادية واجتماعية وثقافية، فكان دخول الشرفة والصالة مقتصرا على أبناء الطبقات العليا والمتوسطة، وهم في الغالب من خريجي الجامعات والطلاب من أصحاب الثقافة المرتفعة نسبيا، أما الترسو فقد خُصِّص لمحدودي الدخل والبسطاء من الحرفيين والعمال.
كان لقاعة الترسو مدخل خاص بها، وغالبا ما كانت تُوضع عليه لوحة كبيرة كتب عليها “احترس من النشالين”. وكان من الضروري أن يوجد بين جمهور الترسو “فتوة” (بلطجي) أو أكثر توكل إليهم إدارة السينما مهمة السيطرة على جمهور الترسو، وضبط سلوكياتهم العشوائية التي كانت نتاجا لثقافتهم المحدودة أو لأميتهم الكاملة.
“سينما أونطة هاتوا فلوسنا”.. همجية الجمهور القادم من القاع
كان لجمهور “الترسو” سلوكيات مشينة، لعل أبرزها التصفير والصراخ، عند الاعتراض على سوء حال الفيلم أو وسيلة عرضه، مرددين مقولة صارت مثلا يضرب هي “سينما أونطة هاتوا فلوسنا”.
ومن سلوكياتهم المشينة أيضا التصفيق بصخب حين يمر على شاشة السينما مشهد ساخن، ودائما ما تصحب هذا التصفيق تعليقات مبتذلة تخدش حياء عامة المشاهدين، وقد تمنعهم من متابعة الفيلم والاستمتاع به. ومن هنا أصبح مصطلح “جمهور الترسو” يتوافق ويرتبط مع مصطلح آخر هو “ثقافة الترسو” التي تُكرس للصخب والفوضى والعشوائية وعدم احترام مشاعر ورغبات الآخرين.
في دور السينما ذات المدخل المتواضع، يحتشد جمهورٌ من نوع خاص، وهم يطالعون ملصقات تعلوها الجملة المميزة “للكبار فقط”.
سينما “الزيتون”.. معقل جماهير الترسو التاريخي
في زمن مضى كانت أشهر سينمات الترسو في مصر هي سينما “الزيتون” بمنطقة الزيتون، وسينما “الكورسال الجديدة” ببولاق أبو العلا، وسينما “شارع عبد العزيز” في ميدان العتبة، وسينما “ميدان الجيزة”، وهناك سينما “ريكس” في الإسكندرية، ويلاحظ أنها كلها تقع في مناطق شعبية يتجمع فيها الباعة الجائلون الذين عادة ما يريدون أن يرفهوا عن أنفسهم بدخول السينما، فيلجؤون إليها.
أغلقت “سينما الجيزة” و”سينما شارع عبد العزيز”، بينما طوَّرت “سينما الزيتون” في القاهرة نفسها، وباتت سينما نظيفة فاخرة تشبه باقي سينمات العاصمة، وظلت “الكورسال الجديدة” الشهيرة بسينما “علي بابا” في بولاق أبو العلا، تحمل لقب سينما الترسو الأخيرة في مصر. إلى أن هدمت في منتصف مايو 2017، بداعي تطوير منطقة مثلث ماسبيرو، ومد خطوط مترو الأنفاق إلى مناطق جديدة.
دور عرض الترسو.. اختلاف المناظر والأفلام المعروضة
سينمات الترسو أو الدرجة الثالثة هي من أهم معالم القاهرة القديمة، وخاصة المناطق العشوائية أو شديدة الشعبية، تتدافع عليها وجوه معروفة لوّحتها أشعة الشمس، من عمال وطلبة هاربين من مدارسهم و”صنايعية” ومراهقين وكومبارس.
منظر سينما الترسو يختلف كثيرا عن مناظر دور عرض الدرجة الأولى أو الثانية التي انتشرت في المولات والفنادق، بعيدا عن دور العرض متوسطة السعر المنتشرة في وسط القاهرة بشارع عماد الدين، والتي تستمد بريقها من الزمن القديم.
أفلام سينمات الترسو تختلف كثيرا عن أفلام دور العرض العادية، فأغلب هذه السينمات تقدم 4 أفلام في الحفلة الأولى، وغالبا ما تكون ثلاث ساعات، وذلك بعد القص في الأفلام والتركيز على مشاهد الإثارة والعنف.
“حمام الملاطيلي”.. سيد أفلام الإثارة التي تجذب جماهير الترسو
أشهر الأفلام التي دُرِج على عرضها بشكل دائم في سينمات الدرجة الثالثة فيلم “حمام الملاطيلي” (1973) وهو فيلم أخرجه صلاح أبو سيف، ولعب بطولتَه الفنانان المعتزلان شمس البارودي ومحمد العربي مع يوسف شعبان، وهو ممنوع من العرض تليفزيونيا.
وهناك أيضا فيلم “سيدة الأقمار السوداء” (1971)، وهو من إخراج سمير خوري، وقامت ببطولته ناهد يسري وحسين فهمي وعادل أدهم، و”المذنبون” (1975)، وهو من إخراج سعيد مرزوق، وبطولة سهير رمزي وحسين فهمي وعادل أدهم، وفيلم “امرأة ورجل” (1971)، وهو من إخراج حسام الدين مصطفى، وبطولة رشدي أباظة وناهد شريف.
بالإضافة إلى أفلام المرحلة التي هاجرت فيها السينما المصرية إلى لبنان، وحدث الخليط، لينتج لنا مجموعة من الأفلام تكشف أكثر مما تخفي.

قصص الخيانة والعنف.. مزيج سينمائي مختلط من أرجاء العالم
يحب جمهور الترسو أيضا الأفلام الهندية والتركية التي تدور في أغلبها حول قصص الخيانة الزوجية، ومغامرات الحب على شاطئ البحر، لكن لا يخلو الخليط إلى جوار هذا من فيلم إثارة وعنف، وهو عادة ما يكون فيلما هنديا لبطل قديم مثل “أميتاب باتشان”، أو فيلما أمريكيا لـ”فان دام” أو “سيلفستر ستالوني” أو “أرنولد شوارزنيغر” أو “جاكي شان”.
ولا يُفضل رواد هذا النوع من السينمات أفلام الخيال العلمي، ومن الممكن أيضا إضافة فيلم رابع لأحد المضحكين الجدد، بعد سحبه من الأسواق، وبعد أن أصبح منتشرا على أسطوانات DVD.
تنقل الملصقات لقطات مشحونة بالمتعة والإثارة لجذب الجمهور، والعناوين المكتوبة عليها لا تخلو أحيانا من الأخطاء، حتى أن عناوين الأفلام والكتابات على الملصقات الإعلانية لا تخلو من الأخطاء الإملائية.
ملصقات الأفلام.. رسومات رخيصة على جدران متهالكة
حين تقترب من إحدى دور العرض السينمائي التي تمثل جمهور الدرجة الثالثة، فإنك مع أول نظرة عن كثب ستجد معالم الألوان المائية السيئة المرسومة على الورق الأبيض الرخيص تظهر، إنه ملصق الأفلام الثلاثة أو الأربعة مرسوم يدويا بنفس شكل الملصق الأصلي، ولكنك لن تتمكن من معرفة نجوم الفيلم، إما لأن الرسام الذي رسم الملصق لم يبذل جهدا كبيرا في ذلك، وإما لأنه لم يهتم أساسا لفعل ذلك، ربما لأنك -إذا كنت من رواد دور العرض هذه- سوف تدخل في كل الحالات، سواء عرفت أسماء النجوم أم لم تعرف.
هنا يحاول الرسام أن يصل إلى ملامح وجه النجم الهندي “أميتاب باتشان”، وهو يؤدي إحدى حركات رياضة الكونغ فو، وخلفه سيارة تنفجر، وشخص يعدو، وكتب أعلاه اسم من نوعية “الصراع الرهيب” أو “انتقام الجبابرة” أو “المأساة”.
وبجواره ملصق إعلاني آخر لفيلم تركي قديم، يظهر فيه جزء كبير من جسد ممثلة تركية شقراء الملامح، بجوار سرير على خلفية حمراء، وعنوان يجب أن تكون فيه كلمة امرأة أو العري أو الرغبة أو الجسد، وهناك ملصق ثالث لفيلم قديم لعادل إمام أو شمس البارودي أو إيناس الدغيدي، وأسفل هذا كله سوف تجد صفا طويلا من البشر، يتزاحمون على شباك التذاكر في هذه السينما المتهالكة.

“سينما مش ولا بد”.. طابور من رجال المناطق الشعبية
سينمات الترسو لا تدخلها النساء، وهي قاصرة على الرجال، فهي باختصار “سينما مش ولا بد”. وأمام بواباتها الحديدية المهترئة تلمح الواقفين في الطابور من رواد السينما، وهي ملامح قد تقلق غير المعتاد على تلك الفئة من أبناء المناطق الشعبية والعشوائيات.
كانت “الكورسال الجديدة” التي أنشأها مجموعة من الأجانب في أربعينيات القرن العشرين، من أوائل دور السينما التي تأسست في مصر، وكان ثمن التذكرة وقتها قرشين ونصفا، وتعد من أكبر دور العرض في مصر من حيث المساحة، إذ كانت تتسع لنحو 700 فرد.
قبل هدمها كانت تعرض عدة أفلام لم تحقق إيرادات تُذكر، رغم أن معظمها أفلام “مناظر” مثل فيلم “بنات وموتوسيكلات” و”عايشين اللحظة” و”نمس بوند”.. والعرض مستمر.
“افرد الكرسي وصلي على النبي”
تتخبط وسط الظلام الدامس يقودك موظف عادة ما يكون قصير القامة ذا كرش ضخم، وطوال رحلة العبور هذه لن يتوقف الرجل عن إلقاء التعليمات: “خُشّ يمين”، “ارفع رجليك”، “افرد الكرسي وصلي على النبي”، “امسك إيدين أخوك”، والمدهش أنه لا يحمل معه عادة إلا مصباحا مرتعش الضوء توشك بطاريته على النفاد.
يبدو حتميا أن تصطدم بالأقدام والأرجل، وتسمع من ألفاظ الجمهور ما لا يقل سوءا عن ألفاظ جمهور الصالة، لأن حائطا قصيرا يفصل بين الجمهورين، أما الشاشة فقد تتراقص عليها خيالات باهتة تجعلها أقرب إلى اللوحات التجريدية. الحقيقة أن شريط الصوت يصدر حشرجة، بينما تكون الصورة غائبة تقريبا.
ومع أولى خطواتك إلى داخل القاعة المتهالكة بالسينما، تستقبلك رائحة كريهة، لتكتشف بعد لحظات أنها رائحة دورة المياه المفتوحة بقلب القاعة، بلا حاجز أو مانع.
قد تستغل فترة الاستراحة في البحث عن مقعد واحد سليم بين مقاعد القاعة المحطمة عن بكرة أبيها، وكأن عراكا ما دار هنا بين فريد شوقي وغريمه محمود المليجي، وبعد لحظات أخرى تجد المقاعد السليمة القليلة قد امتلأت بالكهول وعدد من الشباب، بعضهم يلتهم الوقت بالتدخين، والآخر بالنوم، والثالث بمداعبة القطط المنتشرة بالقاعة، حتى تبدأ مراسم الفيلم كما تعلن مكبرات الصوت الأقرب لكونها مصغرات صوت.

روائح الأكل ودورة المياه.. غثيان في قاعة العرض
قد تدخل الشمس إلى القاعة من ثقوب في السقف، وتضيء مقاعدها المحطمة، التي ترتفع منها صيحات التصفيق إذا ما مر منظر يتألق فيه البطل الذي يحقق طموحات الجمهور، الذين يتفاعلون أيضا مع اللقطات الساخنة التي تخصب أحلامهم اليافعة، فمع تصاعد سخونة المشاهد، كان يتعالى الصفير في الصالات، وكثيرا ما كان يقفز عدد من الفتيان إلى الشاشة، لتقبيل صورة البطلة أو مداعبتها.
وقد ترتفع التعليقات والشتائم لتتطاير فوق رؤوس الجالسين، مع صوت باعة الفطائر واللب والمشروبات الغازية: “كشري، حاجة ساقعة، سوداني، تاكل يا كابتن”. ففي وسط عرض الأفلام، قد تصل إلى أنفك رائحة الكشري المختلطة برائحة دورة المياه، لتصيبك بالدوار في سينما الترسو.
فجأة قد ينفجر هرجٌ ومرج، وتختلط الأصوات والصرخات، وتندفع في برهة من الزمن تحت ضغط المندفعين، حتى تجد نفسك عابرا للحائط القصير، وطائرا إلى قلب الصالة.
نجوم الترسو.. أبطال يرضون ذوق الطبقة الثالثة
كان فريد شوقي “ملك الترسو” الذي يقدم أفلام حركة من نوعية “رصيف نمرة 5″ و”جعلوني مجرما” ترضي ذوق هذه الطبقة. ثم جاء زعيم الكوميديا عادل إمام وقدم لفترة طويلة سلسة من الأفلام الخاصة بطبقة الترسو، ليعيد مرة أخرى الصنايعي والسائق والحرفي إلى دور السينما بعد أن هجروها، وبذلك يؤكد عادل إمام ومن جاءوا بعده أن الدرجة الثالثة تتشوق لرؤية سينما درجة ثالثة “بريمو”، لا سينما نخبوية تناسب مهرجانات السينما.
يبحث جمهور هذه السينمات عن بطل يمثله، بطل يشعر أنه منه وملامحه تشبهه، ضعيف مثله، ليس وسيما، لكنه ينتصر على الأقوياء في النهاية، ربما يبرر هذا نجاح عادل إمام، أما نجاح أفلام نادية الجندي وإيناس الدغيدي فلأنهما تقدمان تقريبا التوليفة نفسها، مع الحرص على تقديم أكبر قدر من الجسد لإرضاء رغبة جمهور الترسو.
جمهور الترسو هو الذي صنع في فترة ما أطلق عليه سينما المقاولات، وكان سببا في صعود نجم عدد من النجمات، وسببا في هبوط بعضهم الآخر ولعل أشهر المشاهد التي تمثل جمهور الترسو هو ما ورد في فيلم “المنسي” لعادل إمام، حينما دخل سينما ترسو، وسؤال محمد هنيدي الشهير في الفيلم: الفيلم ده قصة ولا مناظر؟