“فأرة بانكسي” تدافع عن فن الشارع

تنطوي بعض الأفلام الوثائقية على مغريات عديدة تدفع المتلقي لمشاهدتها، والاستمتاع بموضوعها وخطابها البصري في آنٍ معًا، فالمُخرج المبدع يوازن بين الاثنين ولا يرجِّح كفّة على أخرى، وهذا هو سرّ نجاح الكثير من الأفلام الأوروبية والأمريكية على وجه التحديد.
فيلم “إنقاذ بانكسي” (Saving Banksy) لكولِن أم داي لا يخرج عن إطار هذه الأفلام النوعية التي تُقنِع المُشاهد سواء بالأدلة الدامغة أو بالأفكار المنطقية التي لا تُجانِب الصواب. وأكثر من ذلك فإن قصة الفيلم فيها الكثير من التشويق والإثارة لأنها قائمة بالأساس على شخص مشهور ومجهول، فكيف اجتمعت الشهرة مع فنان لا نعرف عنه سوى بعض المعلومات الضئيلة التي لا تشفي الغليل.
بانكسي.. فنان الشارع المُستفز
ولكي نضع القارئ في الصورة لا بدّ من القول بأن بانكسي أو روبرت بانكسي -كما يعتقد البعض- هو من مواليد بريستول عام 1974، وأنه رسّام غرافيتي ظهرت أولى رسوماته على جدران بريستول عام 2003، وأثارت حينها الكثير من التساؤلات بسبب الموضوعات الاستفزازية التي يتناولها في أعماله الغرافيتية التي تتضمن رسائل سياسية واجتماعية وتحريضية، كما تمثل في بعض الأحيان شكلاً من أشكال الدعاية المُستفِزة التي تنتشر بسرعة فائقة مثل انتشار النار في الهشيم.
كما يَعرف عنه متابعوه أنه مُخرج سينمائي أنجز بعض الأفلام الوثائقية مثل “الخروج من محل الهدايا” و”حِيل العروض الترويجية”. ومن الجدير بالذكر أن الفنان الغرافيتي البريطاني “بِن آين” (Ben Eine) الذي اشترك في هذا الفيلم هو الشخص الوحيد الذي يعرفه منذ سنوات بعيدة، وقد ذهب معه إلى فلسطين عام 2005 لمدة أسبوعين ثم عادا إلى المملكة المتحدة من دون أن يُفصح عن هوية صديقه المتواري عن الأنظار، ويبدو أن لعبة الاختباء قد راقت له أو لأنها جزء مهم من اشتراطات الرسم الغرافيتي الذي يحاسب عليه القانون، وذلك لأن صاحبه يُخرّب الممتلكات الخاصة والعامة، وأن الفنانين الذين اشتركوا في هذا الفيلم قد تعرّضوا للسجن نحو مئة مرة.
يعتمد هذا الفيلم الوثائقي في تقنيته على الحوارات السردية لتسعة فنانين غرافيتيين يلقبون أنفسهم بفناني الشوارع، ولا يجدون حرجا في ذلك لأنّ المكان الطبيعي لأعمالهم الفنية هي الشوارع والساحات العامة وجدران المنازل والأبنية الأهلية والحكومية، وكل ما تقع عليه أعين المشاهدين من مختلف الأعمار. وهناك أيضا شخصيتان رئيسيتان تتكئ عليهما ثيمة الفيلم، وهما برايان غريف جامع التحف الفنية الذي يخشى من طمس رسومات بانكسي من قبل الجهات المختصة التي تمنع تخريب الجدران وتلويثها، وستيفان كيسلر تاجر الأعمال الفنية والمتخصص بعرض رسومات بانكسي وبيعها في المزادات الراقية، فقد بيعت لوحة “الشرطيان” على سبيل المثال لا الحصر بمبلغ 575 ألف دولار، بينما تجاوزت بعض رسوماته الأخرى سقف المليون دولار.
فأرة بانكسي.. محاولات للإنقاذ
كثيرة هي رسومات بانكسي المستفِزة بدءا من “الموناليزا التي تحمل الآر بي جي”، مرورًا بالطفلة الفلسطينية التي تفتش جنديا إسرائيليا عكس الواقع المعتاد، وانتهاء بسلسلة الفئران التي أصبحت ماركة مسجلة باسمه، غير أن هناك فأرة مميزة ترتدي بيرية مزدانة بنجمة “تشي غيفارا” هي التي تعتمد عليها القصة السينمائية لفيلم “إنقاذ بانكسي”، والذي يعني من بين ما يعنيه مضمون الفيلم “إنقاذ فأرة بانكسي” التي تشير من طرف غير خفي إلى إنقاذ رسومات بانكسي من الطمس والتخريب، أو الإزالة الكلية من قِبل بلديات المدن التي يحلّ بها هذا الفنان الغرافيتي كضيف مُنتهك للقانون ومتجاوز على الممتلكات الخاصة والعامة.

ففي أبريل عام 2010 سافر بانكسي إلى سان فرانسيسكو ورسم العديد من أعماله الفنية على جدران المنازل والبنايات العامة من دون أن يأخذ موافقة أصحابها، باستثناء محل واحد لبيع المعجنات، وحينما اكتشفت البلدية أنذرت أصحاب البيوت والمحلات بضرورة إزالة هذه الرسوم خلال ثلاثين يومًا، وإلاّ فإنها سوف تأخذ الأمر على عاتقها وتقوم بطمسها أو إزالتها كليًا. وحينما يكتشف برايان غريف جامع اللوحات المعروف في المدينة ذاتها يقرر التفاوض مع صاحبة المنزل على رفع “الفأرة” مقابل تعويضات مجزية، وبعد عمليات شدّ وجذب بين الطرفين توافق السيدة على العرض المقدم لها ويتم رفع العمل الغرافيتي للفأرة من قِبل نجارين متخصصين لم يُلحقوا ضررًا بالعمل الفني الذي رُزِم على هيئة ألواح منتظمة القياسات وضعها برايان في خزانة ملابسه الشخصية خوفًا عليها من التلف، ثم بدأ يبحث عن متحف رسمي يتقبّل هذا العمل مجانًا، وذهب بالفعل إلى متحف الفن الحديث في سان فرانسيسكو والتقى بأمين المُتحف جون زاروبيل، لكن هذا الأخير رفض هذا العرض السخي لأن العمل الفني غير موقّع من قبل صاحبه، وليس هناك أي وثيقة تُثبت عائديته الفعلية لبانكسي، وبالتالي فإن القائمين على المتحف لا يمكنهم استقبال هذا العمل الغرافيتي على الرغم من أهميته الفنية وقيمته المادية والشخص المجهول “المشهور” الذي يقف خلفه، ويضاعف من رغبة جمهوره ومحبّيه في معرفة هذه الشخصية المتوارية عن الأنظار منذ 15 سنة، والمتنكرة باسم “بانكسي”.
لم يدب اليأس إلى قلب برايان فقد اتصل به تاجر اللوحات الملياردير الأميركي المعروف ستيفان كيسلر، وطلب منه أن يأتي بفأرة بانكسي الشهيرة كي تجد طريقها إلى المعرض الذي نظمه لعدد من أعمال بانكسي المشهورة، فوافق برايان لأن همّه الوحيد هو إنقاذ هذا العمل من الضياع والحفاظ عليه في أحد المتاحف الرسمية كي يكون في متناول محبي الفن الغرافيتي. وبما أن كيسلر يفكر بعقلية التاجر فقد اقترح عليه أن يشتري العمل بنصف مليون دولار لكن برايان رفض هذا العرض فأغضب كيسلر؛ الشخص الطفيلي الذي يعتاش على جهود بانكسي وأعماله الغرافيتية التي باع العديد منها بمئات الآلاف من الدولارات.
وبعد جهود مضنية استمرت لأكثر من سنتين يتوصل برايان غريف إلى حل مقنع لهذه المشكلة التي أرّقته، حيث أخذ “الفأرة” إلى مستودع يضمن الحفاظ عليها من التلف مقابل 40 ألف دولار، ويضمن عرضها في أماكن عامة بشكل مجاني تمامًا كما يريد بانكسي نفسه، وذلك لأنه رسمها في مكان عام وأراد لها أن تكون في متناول الجميع دون أن يدفعوا ثمنًا لمشاهدتها كما يفعل الناس في المتاحف الرسمية.
العمل الغرافيتي.. خلود فعلي
لم ينتهِ الفيلم عند هذا الحدّ فقد ارتأى المُخرج كولن أم داي أن يُشرك تسعة فنانين غرافيتيين يُلقبون بـ”فناني الشوارع”. وعلى الرغم من شيوع الغرافيتي في الحضارات القديمة إلاّ أن بروز هذه الرسومات والكتابات السريعة الخاطفة تعود إلى حقبة الستينيات من القرن الماضي، وظلت قائمة حتى الوقت الراهن. ومن بين الغرافيتيين المعروفين اختار المخرج الأسماء التالية: بِن آين ورسك وغلين ماي فريدمان ونيلز شو مولمان ودوز غرين وهيرا وأنتوني لستر وريفوك وبليك لو رات، إضافة إلى مداخلات أخرى لمايك كاف ولاينيا ماغانا وآخرين يعبِّرون عن آرائهم بالغرافيتي، ويرون أن مكانه المناسب هو الشارع الذي اختاره الفنان سلفا، وليس المتحف أو صالة العرض التشكيلي.

ليس غريبًا أن يصطف الفنانون التسعة إلى جانب بانكسي فهو نموذجهم المفضل الذي قرر أن يقدم للمُشاهدين أعماله الفنية أو رسائله السياسية والاجتماعية في هذه الأمكنة العامة، فلا غرابة أن نرى معظم الفنانين تقريبًا يريدون لهذه الرسومات أن تبقى في الأمكنة التي اختارها الفنان نفسه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مضمون الفيلم يعزز احترام القانون في المجتمع الأميركي، كما يشجع عامة الناس على تقدير العمل الفني حتى وإن كان ذا طبيعة غرافيتية، فثمة لمسات إبداعية واضحة في كل عمل توقف عنده المخرج تاركًا المجال للمتحدثين أن يقولوا رأيهم فيه.
لا شك في أن الفيلم يحفِّز على التوثيق وحفظ الأعمال الفنية التي يعتقد البعض أنها مؤقتة ولا تعمِّر طويلاً، ومع ذلك فقد سعى برايان غريف لحفظ هذا العمل الغرافيتي الذي سيكتب له الخلود الفعلي لجهة وجوده المادي أولاً، وحضوره الفني الذي لفت الأنظار في المجتمع الأميركي الذي برهن بالدليل أنه مجتمع يقدِّس الأعمال الفنية ويضعها في صُلب اهتماماته اليومية، لأن لذّة المُشاهدة لا تقلّ أهمية عن لذة الأكل والشرب والقراءة والكتابة الإبداعية بكل أنواعها.
الانتصار للفكرة والخطاب البصري
لا تكفي الإشادة بثيمة الفيلم وبعمق مضامينه الفرعية المتشظية، فالقصة السينمائية مدروسة بأدق التفاصيل، ولعل الكُتّاب الثلاثة هم الذين يستحقون قسمًا كبيرًا من الثناء وهم إيفا بوروس وباول بلويكاربو ومايك تارولي، فقد صنعوا قصة مكتملة الأركان تناقش قضية الغرافيتي من جوانب متعددة، وإن كان التركيز مُنصبًا على إنقاذ فأرة بانكسي التي رسمها الفنان في بضع دقائق لا غير، وذلك كي لا يُضبَط متلبسًا بالجرم المشهود وغادر المكان متسللاً مثلما جاء إليه. غير أن هذا العمل الذي أُنجز في غفلة من أعين الرقباء قد بلغ سعره نصف مليون دولار، ولو كان بحوزة شخص آخر غير برايان غريف لما تردد لحظة واحدة في بيعه كما يفعل ستيفان كيسلر المتطاول دائمًا على أعمال بانكسي، وكأنّ هذا الأخير يرسمها له شخصيًا كي يقتات على مردوداتها المادية الكبيرة.

صُوِّر الفيلم بحرفية عالية شدّت المتلقين على مدار الفيلم، ولعلنا لا نستغرب ذلك حينما نكتشف أن المُخرج نفسه كولِن أم داي قد عمل مصورًا ومديرًا للتصوير في العديد من الأفلام أبرزها آر بود دواير، وبموازاة جماليات التصوير يستمتع المُشاهد بالصوت والموسيقى المُعبِّرة التي كانت تصعِّد درامية الأحداث، وتمنح الآراء المبثوثة قيمة ثقافية مضافة.
وخلاصة القول إنه فيلم نوعي بامتياز ينتصر للفكرة والخطاب البصري، ويمجِّد توثيق الأعمال الفنية وصيانتها حتى وإن كانت قصيرة الأجل مثل الغرافيتي الذي ينطوي على رسائل حساسة تلامس قلوب المُشاهدين، ولا تغادر ذاكرتهم الجمعية بسهولة.