الإنشاد من البلقان.. الأغنية في خدمة الدين

بعد الحصول على الاستقلال في نهاية القرن الماضي بدأ المسلمون في إقليم البلقان يستعيدون حرياتهم الدينية التي طالما حرموا منها.
وفي سبيل استعادة الهوية الدينية اتخذوا من الأناشيد آلية للدعوة إلى الله وتعلّم أحكام الإسلام، فكانت توليفة من الغناء والعبادة والتعليم.
وفي رمضان الحالي أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان “الإنشاد من البلقان” لتسليط الضوء على الأغاني الدينية في البوسنة والهرسك وألبانيا ودورها في المحافظة على هوية المسلمين هنالك.
يعود تاريخ الاسلام في إقليم البلقان إلى أكثر من 500 عام حيث شهد ازدهارا أيام فتوحات العثمانيين.
وفي تلك الحقبة اكتست المدائح النبوية والأغاني الإسلامية زخما كبيرا في تلك الحقب. ومع بداية أفول دولتهم أصبح المسلمون في بعض بلدان منطقة جنوب شرق أوروبا تحت احتلال الشيوعيين فعانوا من ويلات الحروب التي ركزت على محو آثار الإسلام.
وبعد إعادة تشكّل المنطقة سنة 1991 بدأ المسلمون يستعيدون ماضيهم الذي لم تكن الأجيال الجديدة تعرف عنه إلا ما رسخته في أذهانهم الأناشيد الدينية التي كانوا يستقونها من تربية الأمهات.
الإنشاد طريق للدعوة
في سراييفو عاصمة البوسنة توجد مدرسة غازي خسرو بيك، وهي إحدى المدارس الدينية العتيقة التي يرجع تاريخها لبداية وجود الإسلام في الدولة.
في هذه المدرسة قسم خاص للإنشاد الديني يفتح أبوابه أمام المنتسبين من مختلف جهات الدولة، ويكوّن القسم فرقا للأغاني الإسلامية، ويتم تأليف كلمات الأغاني بدقة وطريقة منهجية فلا تخرج عن نطاق تعليم الشرائع والشعائر، فنشْر الدين هو الهدف الرئيسي للأنشودة.
وفي حديث للجزيرة الوثائقية، يقول مؤلف الأغاني الدينية جمال الدين لاتتيش “أرغب من خلال الأناشيد الدينية في تعليم الناس وإرشادهم ومحاولة إعادتهم للدين”.
وقد بثت الوثائقية في فيلمها مقاطع من الأناشيد يغنيها الأطفال تحتوي كلماتها على شرح لمعنى التوحيد، وبعض من أساسيات الطهارة في الإسلام.

أما موسيقار الأغاني الإسلامية محمد بيركتار فيقول “الأناشيد بالنسبة لنا كالدواء، لأنها تحتوي على تفسير لنصوص القرآن والحديث. وقد كانت الأغنية الإسلامية تحمل الإسلام في تاريخنا ولا بد من المحافظة عليها”.
وفي مدينة شكودرا بدولة ألبانيا توجد مدرسة حاجي شيخ شامية الخاصة بتعليم الإنشاد الديني. فتحت المدرسة أبوابها أمام العاشقين للفن الأصيل للبلاد الذي كاد أن يختفي بفعل تقلبات الزمان، واستقطبت في بداية تأسيسها 1991 عشرات من الطلاب فقط، أما اليوم فإن طلابها يَرْبون على الألف.
حققت المدرسة نجاحات كبيرة في إحياء ثقافة الإنشاد لدى المجتمع الألباني فخرَّجت فرقا متعددة ومتنوعة شاركت في حمل لواء الدعوة المبسطة عن طريق الأغنية في البلاد وخارجها.
تسمى الفرقة المتخصصة في الأغنية الإسلامية بـ”حور”، وهي عبارة عن مجموعة من الأشخاص اجتمعوا بهدف خدمة الدين وإظهار جماله، وغالبية الفرق مكونة من النساء، ولكن قد تكون من الجنسين من دون حرج.
وفي سراييفو يوجد مسجد المشيخة الإسلامية أحد أكبر المساجد في البلاد وينتسب له أكثر من 400 ألف مسلم. ولمسجد “حور” طقوس خاصة تنعش رحابه بأغان من مديح المصطفى عليه والسلام في أيام الأعياد والمناسبات الدينية.
راحة القلوب
مر المسلمون في شبه جزيرة البلقان بظروف صعبة، ابتداء من الحكم الشيوعي إذ منعهم ممارسة الشعائر، إلى الحروب الدامية التي لقوا فيها صنوفا من القتل والإبادة الجماعية.
ورغم أن الإنشاد الديني كان محظورا فإن أعالي الجبال والاجتماعات المنزلية ساعدت في الحد من تكميم الأفواه، فبقي الغناء يرسخ الإسلام في الأفئدة ووسيلة للصبر على المحنة والنكبة.
تعلّقت أفئدة مسلمي البلقان بالإنشاد فوجدوا في كلماته روح الإسلام التواقة للخير والصلاح والرحمة والتسامح ونقلهم للأجواء الربانية.
تقول المنشدة سلمى كيتشي “عندما أنشد أحس بالراحة وأشعر بالقرب من الله عز وجل، ويختلف شعوري في الإنشاد عن الغناء العادي”.

العلاقة بين الإنشاد والدين علاقة عضوية بالنسبة للبلقانيين، وذلك لأن الكلمات المنشودة إما أن تكون شرحا لبعض الأحكام، أو مدحا للرسول عليه الصلاة والسلام.
وتتميز الأناشيد بتركيزها على حب الخالق وشرح أسمائه الحسنى وأوصافه العلى، والأمل في رحمته التي كتبها على نفسه ووسِعت كل شيء.
ويعتبر المديح النبوي محورا أساسيا عند المسلمين هناك، وتأخذ الأغنية الدينية من موضوعه جزءا كبيرا، ويكثر هذا الضرب من الإنشاد في ذكرى المولد النوبي 12 ربيع الأول، وفاتح أيام السنة الهجرية، وقد تعود البلقانيون على مدائح النبي الكريم في مناسبات الزواج والأفراح العائلية.
من التراث إلى النجومية
ونظرا لعلاقة الإنشاد بالدين واعتباره جزءا من التراث الأصيل تدافعت الأجيال الشابة من المسلمين البلقان نحوه فوظفوا فيه مواهبهم وطوروه حتى استعاد ألقه.
وقد استطاعت المدارس المختصة بتكوين فرق الحور أن تحقق نجاحات خارج الحدود الجغرافية لهذا النمط من الغناء.
وشاركت الفرق البلقانية في مسابقات الأناشيد في تركيا ونالت إعجاب الحضور، وفي مهرجان محمد الفاتح للإنشاد الديني تركت الفرق البوسنية بصمات خالدة على ليال المهرجان بعذوبة الصوت وجمال الكلمة وحسن الأداء.
وقد أصبحت تلك الفرق محل إعجاب من الجاليات البلقانية المقيمة في أميركا ودول أوروبية فتمت دعوتها لإحياء نشاطات الجاليات المهاجرة.
وساهمت الأنشودة الدينية في مد الجسور مع الشعوب الإسلامية، وربط العلاقة الروحية معها، وجسدت الفرق البلقانية ذلك في أناشيدها فغنت للقدس وغزة، وأقامت بعض الأمسيات لجمع التبرعات لإخوانهم في فلسطين.
ورغم نمط الحياة الأوروبي فإن الإنشاد البلقاني لايزال صامدا ومحافظا على خصوصيته كأحد أهم مظاهر الهوية الإسلامية في إقليم الجبال.