وين ع رام الله.. آهات الوداع وأوجاع الغربة والحنين

وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوُ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودّعُهُ

وكم تشفّعَ بي ألا أُفَـارِقهُ
وللضروراتِ حالٌ لا تُشفّعُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

“من إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية في القدس أحييكم. أسعد الله صباحكم”.. صوت أنثوي دافئ ينبعث من أرشيف الزمن الأردني الفلسطيني، فيما يظهر الملك الحسين بن طلال في مقطع فيديو قديم يفتتح منشأة جديدة برفقة بعض المسؤولين.

مقطعا الصوت والفيديو يؤرخان لتدشين العمل في مبنى الإذاعة الأردنية في منطقة أم الحيران في العاصمة الأردنية عمان عام 1959.

لكن الإذاعة الأردنية انطلقت قبل ذلك التاريخ، إذ كانت تبث برامجها من رام الله منذ عام 1948، ولاحقا تغير اسمها وحملت عنوان الإذاعة الأردنية في القدس.

في تلك الفترة كانت رام الله والقدس تخضعان للسيادة الأردنية، وكان الشعب الفلسطيني يترقب حربا عربية جديدة لاقتلاع الدولة اليهودية التي قامت على أرض عربية مغتصبة غداة نكبة 1948.

وفي جو مشحون بالفقد والغربة والوجع والحنين والأمل في ذات الوقت، ولدت أغنية “وين ع رام الله”، فكانت من أبرز الأعمال الموسيقية للإذاعة الأردنية عام 1959.

وضمن سلسلة “حكاية أغنية” تسرد الجزيرة الوثائقية قصة “وين ع رام الله”، وكيف تحولت إلى عنوان لمحنتي الغربة والهوية لفلسطينيي الداخل والخارج.

تحكي الفنانة سلوى العاص المنحدرة من جنين بالضفة الغربية أن مدير الإذاعة يومها الشاعر الراحل عبد المنعم الرفاعي خاطب والدها قائلا “صوت بنتك جميل، وعرض توظيفي في الإذاعة براتب 13 دينارا”.

كان ذلك في إطار فكرة إنشاء ركن للهواة في الإذاعة، وتذْكر سلوى أنها بدأت تجربتها مع الغناء عندما كانت في عامها الـ13 أو الـ14 عاما.

لاحقا، أراد رجال الثقافة والدولة إنتاج عمل موسيقي خاص بالإذاعة، فكُلف بكتابته أديب بادية الأردن الشيخ رشيد زيد الكيلاني.

رحيل من الشرق إلى الغرب

استعذب الكيلاني كلمات فلسطينية تراثية تحكي حوارا بين أب يتحسر على رحيل ولده ويسأله عن الجهة التي يقصد، فيرد أنه ذاهب يبتغي رزق الله:

وين ع باب الله وين ع باب الله
ولفي يا مسافر وين ع باب الله

ما تخاف من الله ما تخاف من الله
تاركني ورايح وين ع باب الله

الملك الحسين بن طلال يفتتح الإذاعة الأردنية في رام الله سنة 1959

ولأن رام الله كانت حينها مصيف الفلسطينيين والأردنيين، اختار الكيلاني أن يجعلها مقصد المسافر وأن يضخ شحنة عاطفية جديدة في الكلمات لتكون بطلتها أنثى تتألم لفراق حبيبها، فكتب:

وين ع رام الله وين ع رام الله
إنت يا مسافر وين ع رام الله

ما تخاف من الله ما تخاف من الله
خذيت قليبي ما تخاف من الله

بكاء وحنين.. في “جنين”

وقد لحن الكلمات جميل العاص، وبدأ البحث عن مطرب لأداء الأغنية فوقع الاختيار على سلوى وأجادت في غنائها بصوتها الطفولي الجميل.

ويقول أستاذ الموسيقى العربية بجامعة اليرموك الدكتور محمد غوانمة “ما إن بُثت على الأثير حتى تلقفها الجمهور العربي بترحاب كبير”.

وتذكر سلوى العاص أنها غنت الكلمات ذات مرة لطالبات مدرسة جنين الثانوية “فبكين كلهن”. ولاحقا تجاوز صدى الكلمات عمّان ورام الله وباتت ثيمة للوجع الفلسطيني المشتت في بقاع الأرض.

وإلى جانب سلوى العاص أدى كلمات هذه الأغنية العديد من المطربين في فلسطين ومصر والأردن ولبنان.

الدبكة الفلسطينية.. عنوان الجاليات

وفي ولاية نيوجرسي الأمريكية أعاد الفنان الفلسطيني محمد كبها تصوير الأغنية لتوطيد صلة الجالية الفلسطينية بوطنها وعروبتها، وقال “كلمات تتغنى بصفد والخليل ومدن فلسطينية أخرى”.

وفي مقطع فيديو ترقص فتيات فلسطينيات يرتدين الأزياء التقليدية، ويرقصن على إيقاع:

وين ع رام الله وين ع رام الله
إنت يا مسافر وين ع رام الله

ما تخاف من الله ما تخاف من الله
سرقت قليبي ما تخاف من الله

وفي حديثه بالوثائقي يقول كبها “الفلسطينيون تلمهم الأعراس والدبكات، وعندما تسمع أغنية وين ع رام الله تشعر بأنك في فلسطين”.

وفي الداخل الفلسطيني والوطن العربي وفي أمريكا واليابان، نُظمت العديد من التظاهرات الثقافية والتراثية تحت عنوان “وين ع رام الله”.

ويقول مدير فرقة “سرية رام الله” خالد عليان “الأغنية أدخلت عليها تعديلات في التصميم والرقص، ولكن روح لحنها لم تتغير ولم يملّها الناس، كونها مشحونة بمعاني الحنين والغربة وهي أغنية خالدة”.


إعلان