ما بقي لنا.. أبناء المخيمات يُحيون رسائل غسان كنفاني
ثمة طريق تصل بين عين الحلوة وحيفا، هذا ما ستلمسه حقا عند مشاهدتك لهذه المادة الوثائقية الشائقة التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، فهي تمثيل لحالة الإبداع الأدبي والثقافي الفلسطيني بمحطتين فريدتين.
المحطة الأولى، وهي شخصية الكاتب والأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، بكل ما جسدته رواياته وقصصه القصيرة ورسائله من روح النضال والتحدي، والأمل والإيمان بالعودة. لقد كانت كلماته، وبقدر ما تحمل من المعاناة والألم وشيء من اليأس تظهر على ملامح شخصياته في بعض الأحيان، إلا أنها كانت ترسم طريق العودة واضحا بين مخيمات اللجوء ومدن وبلدات فلسطين.
وفي المحطة الثانية ترى مجموعة من الفنانين التشكيليين المعاصرين، من أبناء مخيمات اللجوء الفلسطينية، وهم يجسدون بأدواتهم الفنية المختلفة مجموعةً من رسائل غسان كنفاني، يبثون فيها روحا جديدة، يُنطِقون كلماته بلغة معاصرة تجاوزت حدود الحروف والأصوات إلى فضاءات الصورةِ والضوء والموسيقى. استدعوا من خلالها شخوص رسائله لتعيش بيننا وتطلعنا على أسرار جديدة استودعها عندهم غسان قبل سبعين عاما أو يزيد.
من جاد إلى غسان
“جاد أبي خليل” هو كاتب النص، كتبه على شكل رسالة إلى غسان، يحاكي فيها رسائله التي كان يكتبها إلى لميس وفايز ومصطفى وأحمد وكل فلسطيني قرأ رسائل غسان وأحس أنه يخاطبه هو بعينه.
حاول جاد أن يقول لغسان إنه على مسافة 45 عاماً من محاولة الغدر البائسة والفاشلة والمضحكة إلى حد البكاء لإسكات صوتك وإطفاء وهج كلماتك، إلا أنها لا تزال تتعالى على الموت، وتصرخ في وجوه الغادرين والمتخاذلين على السواء، وترفع قفّاز التحدي، وتؤشر باتجاه فلسطين.
اختار الكاتب أربع رسائل كان فنانون معاصرون قد أعادوا صياغتها بأدواتهم الخاصة -كما سيأتي لاحقاً- ثم اختار رسالةً أو رسالتين أُخريين تستطيع أن تشاهد أحداثهما وكلماتهما على حدٍّ سواء في تعابير وجوه أطفالٍ بعمر الزهور في روضاتٍ تابعةٍ لمؤسسة غسان التربوية.
شخوص شاهدة
على غير تسلسلٍ حسب الظهور، ولا على الترتيب الهجائي، ولا على نسق الأهمية ومساحة الظهور، جاءت شخصيات الفيلم كما يلي:
“شريف بيبي” وهو الراوي، يسرد نصوصا من رسائل غسان، ويرى نفسه كأحد المخاطَبين بهذه الرسائل.
“سميرة صلاح” وهي شاهدةٌ على شخصية غسان الإنسان، تسجل انطباعاتها عن أول لقاء جمعها به، فتقول إنه على الرغم من سيل الأسئلة الجادة التي فاجأها بها، إلا إنها كانت تترجم لشخصيةٍ مستفزةٍ وفكاهيةٍ في الوقت ذاته.
“رشا صلاح” شاهدةٌ على مؤسسات غسان التربوية والثقافية، عاشتها طفلةً صغيرةً، ثم عاشتها مرةً أُخرى بشخوص أولادها وهي أم، تقول عن استمرارية العطاء واستنساخ التجربة في هذه المؤسسات، إنها تنتابها أحياناً حالةٌ من الارتباك المحبَّب فيما إذا كانت قد عاشت تجربةً ما بشخصها أم أنها رأتها في عيون أولادها. وما زالت تدندن بأنشودة “غسان علمنا.. حب القضية”، وتعلمها لأولادها.
“آني كنفاني” زوجة غسان، وشاهدةٌ عليه كاتبا، تقول إنه يستوحي شخصياته من أناسٍ حقيقيين التقاهم. وهو عندما يخاطب لميس ابنة أخيه، أو مصطفى وفايز وأحمد، فهو يخاطب كل طفل وطفلة فلسطينية، بل كل شابٍ وشيخٍ وعجوز.
“داليا خميسي” مصورة فوتوغرافية، سجَّلت بكاميرتها أحداث رسالة “ورقة من غزة”.
“عبد الرحمن قطناني” فنان تشكيلي، جمع في صندوقه الخشبي العتيق ما تناثر من مفردات رسالة “موت سرير رقم 12”.
“علاء ميناوي” مصمم إضاءة، سلَّط دائرة الضوء على تلك الساحات المعتمة في قرية “شعْب”، وهي مسرح أحداث رسالةٍ بعنوان “العروس”.
“رائد غنيم”، مغني “راب” وكاتب كلمات، رسم بأدائه والموسيقى الحزينة المصاحبة ما يشبه طقوس عزاءٍ لرسالة “في جنازتي”.
الرسالة الأولى.. ورقة من غزة
الصورة بألف كلمة، فكيف إذا كانت بعينٍ مهنيةٍ ثاقبة، اختارت بعناية فائقة زاوية النظر وكمية الضوء، ومساحة الطيف، وكثافة اللون لتعطيك صورةً نابضة بالحياة، ناطقة بكلمات الرسالة كأنها تقرؤها.
اختارت داليا خميسي أن تقتنص بكاميرتها صوراً لفتياتٍ في مثل عمر الطفلة التي بترت ساقها جراء العدوان الصهيوني الغاشم على غزة، يوم كان غسان يكتب إلى صديقه مصطفى يغريه بأن يسافر إلى أرض الأحلام؛ أمريكا.
يومها كان مصطفى يؤمل طفلة قريبة له بأنه سيهديها عند عودته بنطالا أحمر جميلاً، ولكنه غيَّر جميع خططه للسفر، واختار أن يبقى في غزة، حيث يحاول هو وكل أهل غزة أن يستعيدوا الساق المبتورة لطفلته التي كان قد وعدها بالبنطال الأحمر.
لكن داليا اختارت الأطفال بساقين كاملتين غير مبتورتين، وألبستهن جميعاً البناطيل الحمراء، ورسمت على وجوههن ابتسامة عريضة استوعبت المسافة بين آذانهن، حتى تقول لغسان “أبشر، فقد رجع الحق لأصحابه، وها هي فتاتك قد فرحت بالبنطال الذي وعدتها به”.
الرسالة الثانية.. موت سرير رقم 12
لو أن محمد علي أكبر سمعهم وهم يقولون “مات سرير رقم 12” لمات بكمده مرة ثانية، وهو يسمعهم وقد استبدلوا اسمه الذي عاش عمره كله يحاول إفهام كل المخلوقات أن اسمه الكامل هو “محمد علي أكبر”، وليس فقط محمد علي، فمحمد علي شخص آخر غيره، مات محمد علي أكبر ولم يترك إلا صندوقاً عتيقاً حوى بعض الفواتير وسندات القبض، وصورةً شخصيةً قديمةً له.
كان يحاول أن يقول لحبيبته التي أراد أن يخطبها “لماذا لم تقولي اسمي الكامل لأمك؟ أنا محمد علي أكبر، تاجر الماء، ولست محمد علي، اللص الذي رفضني أبوك لِظنهِ أنني هو؟”.
اختار عبد الرحمن قطناني، الفنان التشكيلي الذي يشتغل بالقطع المعدنية مادة لأعماله، أن يترك لحبيبته آثارا تدوم فترةً أطول من تلك التي يعمِّرها الورق. فحاك لها من الأسلاك الشائكة التي تفصله عن وطنه فستاناً لعرسها، وزيَّنه بقطع قماش مطرزةٍ بالفلكلور والألوان الفلسطينية، وقطع لها من ألواح “الزينكو” -التي يحاولون بها عبثاً أن يستروا عورات اللجوء والشتات- دمية ترقص لها حتى يحين موعد زفافها. إنه ببساطه يصنع من يوميات معاناتنا وعجزنا غداً مشرقاً بالفرح وواعداً بالأمل ويختزنه في صندوقٍ عتيق.
الرسالة الثالثة.. العروس
إنه لَإبداعٌ حقاً، أن يكون لديك بقعة ضوء وموسيقى يتردد صداها كأحداث الزمان وأشياء أخرى بسيطة، ثم تُسَطِّر بهذه العناصر المحدودة ملحمةً أدبيةً خالدةً تحاكي بها تلك الرسالة التي بعث بها غسان إلى صديقه رياض، يطلب فيها مساعدته في البحث عن رجلٍ طويلٍ جداً، صلبٍ جداً، يرتدي بدلة خاكيةً عتيقة، ويبدو للوهلة الأولى كأنه مجنون، تنتثر حوله هالة من الضياء كأنها غبارٌ من نور، ويبحث عن العروس التي ضيَّعها في شعْب.
قد لا توفي الكلمات المشهد حقه، ولكن “علاء ميناوي” استطاع أن يسخِّر الضوء والموسيقى الساحرة في صناعة الحدث، وأن يُجَلِّيَ في ذهنية المُشاهد ما يميط اللثام عن لغز اختفاء العروس التي وجدوا طرحتها الطويلة جداً تتعلق ببناية عالية قد تهدمت بفعل القصف، وعند أسفل البناية وجدوا المرتينة التشيكية الفضية اللون، ومُعَلَّقةً بالقرب من مكان البدلة الخاكية العتيقة، كأنها تقول إن صاحبها الرجل الطويل جداً، الصلب جداً، قد عاد إلى حيفا، أو هكذا سمعته يقول.
الرسالة الرابعة.. في جنازتي
يعترف مغني الراب “رائد غنيم” أن نص غسان ليس نصه ولكنه يشبهه، وجد روابط مشتركة، واستخدم موسيقى روحيةً صوفيةً، أو قل إنها غجريةٌ من صنع الجنّ، وصاغ كلماتٍ تحكي عذابا واعترافات عاجزٍ لمعشوقته، قد تكون معشوقته “لينا” وقد تكون دمشق، وقد تكون بلدته في فلسطين، قد يكون قال كلاماً، أو ناجاها بمثل ما تقول القلوب لبعضها، أو باح لها بهمسٍ من عينيه الذابلتين، المهم أنه استجمع شجاعته ليعترف بعجزه، حينها واجهته هي بأنها قد وجدت بديلاً. قد لا يكون هذا منها جحوداً بقدر ما هو بحثٌ عن الخيار الأصلح. فإن خيار التحدي لا يصلح مع العاجزين.
أخيرا
ستبقى جذوة الصراع مشتعلة ما دامت أدوات الصراع متجددة، وإن التهاون في الطلب ينتج عنه التباطؤ في الأداء، ولْيحرص مرضى الدم الفاسد أن يستبدلوه بعبوات مسبقة التعبئة قادمةٍ بالبواخر من أعالي البحار، فإنه يخشى عليهم ساعتها أن يصبحوا قراصنة أو مصاصي دماء، وأن يروا الحق باطلا والأمانة صفقة تجارية، فإن الجينات المورِّثة تنتقل عبر الدم وإن العِرْق دسّاس.