مغنيات الراي.. حضور خجول وسط نبذ مجتمعي
تغني الشابة دليلة أغنية تبدو مؤثرة لدرجة أن عيناها تدمع، صوتها معدل إلكترونيا مثل ذلك المسموع في الأغاني الهندية أو موسيقى المهرجانات المصرية، تغني عن الحب والخيبات والهجران، على خلفية من الموسيقى الحديثة مثل الأورغ الذي يحاكي أصوات الآلات الحقيقية. تعد الشابة دليلة مغنية راي.
عُرف الراي منذ نشأته بالغناء الثائر المتميز المعبر عن الهموم الشعبية في الجزائر. لكن أستاذ الثقافة الشعبية مصطفى رمضاني يرى أن الراي معبر عن الهموم الذاتية سواء الفردية أو الجماعية، ومن أصعب الهموم التي يختبرها الإنسان هي العلاقات بين الرجال والنساء، الحب نفسه.
يتعامل الراي مع الحب كهمّ شعبي مثله مثل الظلم والغربة لكن صوته اختلف، فالآلات المستخدمة تغيرت ولم يعد المطربون يطربون بنفس الشكل بل تُعدل أصواتهم حاسوبيا. فكيف تغير الراي كنوع موسيقي الآن، وما دور النساء في ذلك المشهد؟
الراي.. شيوخ الأغنية البدوية
تدافع الشابة دليلة عن الراي الحديث، وكأنها ترد على اتهام غير مباشر بقولها “الراي تاعنا حلو، جميل وزاهي وأجواؤه جميلة”. وكأنها تريد أن تثبت للأكبر سنا “الشيوخ” أنه لا جدوى من انتقاد الراي الحديث ومواضيعه وموسيقاه، لأن الشباب يحبونه ويتفاعلون معه. وإذا كان انتشار الراي الذي يتفق الجميع على جودته وتأثيره كان على يد الشباب مثل خالد ومامي فإن بداياته لم تكن كذلك.
الراي تعني “الرأي” وهو نوع موسيقي بزغ في العشرينيات بين الشرق المغربي والغرب الجزائري وتعود أصوله إلى شيوخ الأغنية البدوية.
تطورت الأغاني البدوية إلى الراي في الغرب الجزائري وخصوصا وهران، ويعتبر أول مغني راي هو “أحمد زرقي” بينما أخذ “بو طيبة الصغير” الراي لمناطق مختلفة ومتجددة من الإيقاع والألحان.
في بداياته كان المهم في ذلك النوع الموسيقي هو الكلمة ذاتها وبيت الشعر. وكان المصدر هو الشعر الملحون وهو نوع من الأشعار يتكون من أبيات كل منها يعبر عن حالة معينة لكنها تتجمع داخل لحن واحد بواسطة الراي.
أما الموسيقى نفسها فكانت تُلعب في البداية بالقصبة (الناي) بشكل أساسي ثم دخلت عليها آلات موسيقية متعددة حتى أصبحت أقرب للإلكترونية الآن.
ويمتاز الراي بمرونته أيضا سواء في الموضوعات التي يتناولها أو في نوعية الموسيقى التي يستعيرها ويذيبها في نسيجه.
الشيخة ريميتي.. أمّ الراي
نجد أن طبيعة الراي تتبدى في الثورة والتمرد، وهي مفاهيم متعلقة بالرجال في الذهن الجمعي، لكن الراي لم يقتصر أبدا على الشيوخ والشباب بل إن جوهره وروحه نسائية رغم سمته المفعم بالطاقة والعنف.
في الثلاثينيات لم تجرؤ امرأة جزائرية أن تغني عن الجنس أو الكحول أو الاستهلاكية أو الفقر أو الظلم، لكن الشيخة ريميتي غنت عن ذلك كله وأكثر وأحبها الناس رغم كل التحفظات.
غنت ريميتي في الأعراس والمهرجانات والجلسات الحميمة، لكن لم تحبها السلطة بالطبع، فمنعت بث أغانيها وتم التضييق عليها حتى هاجرت لفرنسا.
بدأت الشيخة ريميتي في الغناء كوسيلة للعيش، عانت الفقر فبدأت الغناء في الأعراس لأنه يتسنى لها أن تأكل هناك.
لفظة شيخة هي لقب مغنيات الراي القدامى ويتبعها اسم مستعار في الغالب لتجنب النبذ لكونها أنثى.
ترى ريميتي أن الراي موسيقى للتمرد، تنظر للأمام وتسبق عصرها، لكن بعد هجرتها لفرنسا صعد الراي وتحولت الشيخات والشيوخ للشباب والشابات وكله بفضل جرأتها، لكنها اتهمت كل من تأثر بها ونجح بفضلها بأنه جاحد لم يُرجع لها الفضل أو يعترف بتأثيرها، لكنها الآن هي “أم الراي” ولا مجال لنكران ريادتها.
باستثناء الشيخة ريميتي لشهرتها وتأثيرها لا تظهر صور نجمات الراي على شرائط أغنياتهن، بل يستبدلن بصورهن صورا حديثة لموديلات مثيرات أو صور مبتذلة مثل تلك التي تظهر على كروت المعايدة، وفي الحفلات والمهرجانات تظهر الشيخة مغطاة، مخبأة بين العازفين لا يكاد المستمعون يتعرفون عليها، وعندما تتأهب لمغادرة المسرح تكون وسط الرجال ويصعب الوصول لها.
مكانة مغنيات الراي كانت ومازالت مذبذبة للغاية، بين المنع والإباحة والحرية والتحفظ، لكن دائما ما كانت همومهن واحدة ولا يستطيع أحد التعبير عنهن غيرهن.
هموم الشيخات والشابات
أغاني الشيخات تعكس واقعهن، فتعرضهن المستمر للتشنيع والاتهام بالفسق، وهجمات الشرطة على منازلهن، ومآسي الحب والطلاق والخيانة والتحرشات المختلفة، تلك هي مواضيعهن وهمومهن الذاتية التي تربط المجتمعي بالشخصي، فتجد كل أغنية من يتفاعل معها ويشعر أنها مغناة خصيصا له أو لها.
تتعدد التيمات لكن يمكن تقسيمها لعناوين واسعة تمثل حياة الشيخات العاطفية والنفسية ومعاناتهن أو سعادتهن.
من أهم تلك التيمات التعبير عن الألم عن طريق الشكوى أو المرثية، ويتمثل التعبير عن الألم النفسي في وصفه من خلال الألم الجسدي مثل الاحتراق أو التشظي مثلما تتغنى الشيخة ريميتي في أحد الأبيات بما معناه “قلبي يحترق ويتآكل ويُطبخ على الجمرات الحارة”.
ومثل الشيخات تغني الشابات في أوائل تحول الراي، ويعبرن بمصطلحات سابقتهن عن الآلام المختلفة.
فتقول الشابة زهوانية “لقد تحولت للأسود، أنا أذبل واليأس يتملكني”، أو حينما تشكو غدر الحبيب بمنتهى الوضوح والانفتاح “أنا مخلصة له لكنه يخونني أيا كان”.
يتنوع الرثاء إلى ندب الحظ مثلما تغني الشيخة ريميتي “يا إله الكونين أين حظي، لقد ضاع حظي أكلته سمكة في البحر”.
ربما تملك النساء في وقتنا الحالي حرّيات أكثر قليلا من سابقتهن في الجزائر، لكن يصعب مقارنة تأثير الشيخات على المشهد الموسيقي بالشابات الآن.
إذا ذكرت الراي في أي مكان سيُذكر اسم الشاب خالد ومامي وربما فضيلُ لكن يصعب ذكر شابة مغنية على الساحة. والأغرب أنك إذا حاولت البحث عبر المحركات الإلكترونية عن مغنيات الراي من النساء ستفاجئك النتيجة، فمثلما تعرضت الشيخات للتشنيع والغارات البوليسية والاتهام بالفسق، ستجد في عصور الإنترنت والتواصل الاجتماعي أن الشابات يعاملن معاملة دونية مثيرة للغرابة. فتجد نتائج البحث من أمثلة “فضائح مغنيات الراي” ومقاطع فيديو ملفقة ومقحمة.
من تلك النتائج أخبار تسخر من مغنية الراي المعاصرة الشابة دليلة بسبب القبض عليها هي وزوجها في تهمة حيازة وتوزيع مواد مخدرة، لكن لا تكتفي تلك الأخبار بالإخبار، بل تذكر ذهابها لتأدية العمرة كنوع من التقريع والسخرية، وتعرّفها بأنها السبب في إدخال مصطلحات خارجة لبيوت العائلات الجزائرية. لكن بعيدا عن تلك الأجواء من الصحافة الفضائحية كيف تتحدث مغنيات الراي المعاصرات عن فنهن وأهدافهن؟
الراي في عيون الشابات
تشرح الشابة دليلة بتأثر معنى أغانيها قائلة “إنها كلمات الأحاسيس، كلمات من القلب، هي حكايات ماضية، والوقت الذي نعيشه اليوم هو زمن الشباب، والأمهات اللاتي فقدن أبناءهن، إن كلمات الراي دائما في تآلف وانسجام، إذا تغنيت بها يجب أن تشعر بها فعلا، إذا لم أحس بالأغنية التي أؤديها لا أغنيها أصلا، جمهوري ينتظر مني أن أغني ما أنا مقتنعة به”.
الشابة دليلة كواحدة من أشهر أصوات الراي النسائية المعاصرة ترى أنه لا يمكن إلا لامرأة أن تعبر عن مشاعر وهموم المرأة، ولهذا فهي مستمرة فيما تفعله، ولكن هذا لا يمنع أن هناك بعض النساء اللاتي استصعبن مواجهة المجتمع بأصواتهن لأنه لا يوجد دعم ومساندة كافيان.
يرى مطرب الأغنية الوهراني “صنهاجي قنديل” أن الراي الجديد غير أخلاقي، وأنه ليس مثل راي القدامى الذي تعوّد عليه وكان يدخل كل بيت دون حرج.
يقول إنه في السابق كان يملك مطربو الراي الحياء ويتمهلون في اختيار كلمات أغنياتهم حيث لا تتضمن ألفاظا خارجة أو تلميحات غير ملائمة، لكن اليوم كل شيء مباح قوله.
لكن فنانة معاصرة مثل الشابة نوال ترى أنه لا عيب في ذلك وأن الراي فن شعبي، كلماته تخرج من الناس إليهم، فحتى إذا وجدت بعض الكلمات غير مقبولة فهي مع الوقت تصبح طبيعية لأن الجميع يستمعون للأغاني.
وتعبر الشابة نوال عن فكرة وجود مغنيات راي معاصرات بأنه شيء طبيعي ولا فرق بين رجل وامرأة في فن مثل الراي، وأنه لا يوجد عوائق حقيقية غير البيولوجية منها إذا كانت المرأة حبلى مثلا فسيصعب عليها إحياء سهرات في أماكن بعيدة وما إلى ذلك.
من الراي إلى الراب
وبعدما خف زخم الراي حديثا أصبح يحاول تجديد نفسه بمساعدة الراب، وهو أسلوب الغناء السريع الذي يرجع للثقافة الأفريقية الأمريكية، يحدث هذا محليا وعالميا ويكتسب أراضي جديدة لكنها معنية بالشباب بشكل كبير.
تظهر النساء في ذلك المشهد ككورال أو راقصات في الفيديوهات المصورة للأغاني، وكأن هناك تراجعا من وقت الشيخة ريميتي والشابة زهوانية وفاضلة. فهل سنشهد صحوة مختلفة تعبر فيها النساء الجزائريات عن أصواتهن بتحرر وصدق وجرأة من جديد دون الاستعانة بمعدلات الصوت أو الاقتصار على الأغاني العاطفية وربما أيضا دون مواجهة الاتهامات أو الأحكام الأخلاقية الرجعية؟