مزامير الرّيف السوداني.. حين تصير الجغرافيا سُلّما موسيقيا

كانت هذه أمنيته الأغلى “أن يكوّن فرقة موسيقية بآلات موسيقية محليَة وأساليب محلية تمثل القوميَة السودانيَة”، أراد أن يجمع شتات شعبه الذي فرّقته الكثير من المشاكل الحياتيّة على شيء ما فكانت الموسيقى.

في هذا الفيلم الوثائقي الذي عرضته الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “مزامير الريف”، نتعرف على جهود الباحث في الموسيقى السودانية عاصم الطيب القرشي في توظيف الموسيقى السودانية بآلاتها ووسائلها المختلفة لخلق نموذج لأغنية أو أغنيات سودانية قومية.

لم يكتف عاصم الطيب القرشي بالأماني، بل راح يسعى لتحقيقها حين بدأ رحلته في الولايات السودانية لتكوين فرقته الموسيقية التي يؤلف فيها بين الآلات والأساليب الشعبية.

بدأ رحلته من موطنه الأصلي في النيل الأزرق ومن مدينة الروصيرص تحديدا مسقط رأسه والتي تقع في جنوب شرق النيل الأزرق حيث وُلد في كوخ صغير قبل أكثر من خمسين عاما.

يقول عاصم “أتيتُ إلى الدنيا كموسيقي سوداني لأحكي عن مدينتي الروصيرص، المربوطة بالخُضرة والغابة والخريف والمطر وكل أنواع الأصوات الطبيعية، المدينة المتعددة الثقافات التي تحوي أكثر من أربعين قبيلة سودانية تتكلم بلهجات مختلفة وتعزف على آلات مختلفة”.

عندما كان صغيرا اشترت له أمه أول آلة موسيقية “الصُفّارة”، كانت مصنوعة من الصفيح، مثل ما يعرف الآن “التنويسل الإيرلنديّة”، يقول “تعلمتها وتعلمت بها وتعلمت منها معنى النّفَس”، واكتشف فيما بعد أن في الرصيص كمية من الصّفافير مثل “البولونغرو” و “الباجندو”.

قال إنه اهتم بنوع خاص اسمه “الوازا” التي تتكون من عشر قطع تقريبا وكل قطعة منها تصدر صوتا واحدا، يتابع: وهذا له معنى كبير في الوحدة وأن اليد الواحدة لا تصفق.

في الأستوديو في الخرطوم التقى عاصم مع عدد من عازفي آلة الوازا وتدربوا على الأغنية النهائيّة التي ستجمع الأشتات والآلات الشعبية والعالمية التي سيعزفون بها.

بداية الرحلة

قبل ذلك، بدأ عاصم الطيب رحلته من مدينته الروصيرص متجها شمالا إلى البطانة البادية الصحراوية التي يعمل أهلها في رعي الإبل ويُسمون “الأبّالة” وهم دائمو الترحال، وحيث يكون الترحال يكون الحنين للأهل والبيئة، وخير ما يعبر عن الحنين ويترجمه هو صوت الناي الحزين الذي يعرف هناك “بالزمارة”.

يؤكد هذا عزف الفنان الشعبي خلف الله جبارة الله من قبيلة البطاحين في منطقة البطانة، عندما يعزف بالناي أغنية “البهم لاقي” بمعية عاصم الطيب على الكمنجة.

هناك أسماء كثيرة لآلة الطنبور
هناك أسماء كثيرة لآلة الطنبور فهي في الشرق “الباسنكوب”، و في الغرب “أم بربري”

هذا اللحن له علاقة بنمط غنائي موسيقي سوداني يسمى “الدوبيت”، وهو عباره عن نظم موالي لأربعة أبيات من الشعر يحكي فيها الرعاة قصصهم وتواريخهم وأحلامهم، ويجد المتابع للفيلم هذا النمط من الغناء حين يشدو الفنان الشعبي أحمد محمد بصوته المفعم بالإحساس:

رفيقا وجدت سماح
سماحا لا ذهب لا حنّة لا أرياح
سماحا خصك به الواحد المصباح
سماحا سيدو من خانة السماح مرتاح

إيقاع النحاس

يواصل عاصم رحلته متتبعا الآلات والإيقاعات الشعبية المختلفة، ويؤكد أن إيقاع النحاس -وهي آلة تشبه الطبل أو الدرمز- أشهر الإيقاعات السودانية، واشتهرت به قبائل كثيرة من السودان لكن أكثرها ارتبطا به قبيلة الجموعية في وسط الخرطوم، حيث يعلّمونها للصغار والكبار والرجال والنساء، فهم يعتبرون النحاس عزة القبيلة ولغة التواصل فيها وتنقل به الأخبار من منطقة إلى أخرى.

يقول “نايل بابكر” وهو حفيد ناظر الجموعية: يُضرب النحاس بعدة طرق لإعلام الناس بأمر مهم، فهناك دَقة للحزن للإخبار عن وفاة شيخ قبيلة أو عزيز، ودقة أخرى مختلفة للفرح والانتصار والبشارة، ودقة لنداء قبائل الجموعية لاجتماع شيوخ القبيلة في دار العمدة لأمر هام.

ولكل قبيلة عُمدة، ولكل عُمدة نحاس ودَقّة معينة تدق كل قبيلة نحاسها لينتشر الخبر من قبيلة إلى أخرى، وهكذا على التوالي حتى ينتشر الخبر بين جميع القبائل.

الطنبور أيقونة قومية

يلتقي عاصم القرشي في الأستوديو بالفنان عبد الناصر وهو عازف على آلة الطنبور؛ الآلة القومية التي تجمع كل السودانيين، ليتابع تسجيل الأغنية النهائية.

يقول عبد الناصر إن خصوصية آلة الطنبور تأتي من كونها من سبعة أوتار، وهذا يعني حرية أكثر لعزف كل المقامات الموجودة في كل المناطق السودانية.

يتابع عاصم الطيب رحلته إلى الشمال ليتتبع آلة الطنبور في منطقة حلفا والمحس والشايقية.

هناك أسماء كثيرة لآلة الطنبور، فهي في الشرق “الباسنكوب”، و في الغرب “أم بربري”، والجينغر وآغوزو كلها تجسد معنى السلّم الخماسي الذي يعتمد على خمسة أصوات، ويعتبر الكِسر أقدم اسم موجود في الشمال النوبي.

والقبيلة الوحيدة التي تستخدمه هي قبيلة المحس وهي فرع من القبائل النوبيّة، وكمثال على هذا الإيقاع يعرض الفيلم أغنية لشباب نوبيين يغنون ومعهم آلة الطنبور وبمعية عاصم على الكمنجة :

نحن لا نشتري الماء نشرب من النيل
نحن لو متضايقين لا نظهر للناس
كلنا نعمل ونأكل من عرق الجبين

ثم يتابع عاصم رحلته إلى حلفا حيث يلتقي بالقبائل النوبية ويحاور أيوب إسماعيل الباحث في التراث النوبي، يقول أيوب “الذي يعيش في المنطقة النوبية تمتلئ حياته بالموسيقى الطبيعية، فيصحو فيها الفلاح مثلا على أصوات الطيور تزقزق، والرياح تصدر أصواتا على هامات الأشجار والنخيل، وأصوات الحيوانات الأخرى، فتختلط كلها مع بعضها لتشكل سمفونية موسيقية”.

في حلفا دوزنة مختلفة للطنبور عن الشرق والغرب صنفت فيها أوتار الطنبور من أسفل إلى أعلى بأسمائها: مغرد، مسكين، أوسط، حنيّن، مجاوب.

وبعكس الاتجاه يتحرك عاصم الطيب من “كوش” النوبية إلى مَروي ليجد ولأول مرة أن الرّبابة تحمل اسم الطنبور، وليجد أيضا أن الإيقاع في مَروي شكله مختلف وحساباته مختلفة وكأنه إيقاع أعرج، والغريب أن النيل في تلك المنطقة له تعرجات غريبة ومختلفة؛ تُرى هل من علاقة بين النيل وتعرجاته والإيقاع وعرجه؟

الغناء هناك مرتبط بالحنين والانحناء، كما يوضح الفنان الشعبي كباشي جعفر ذلك حين يذكر أسماء الأوتار بالطنبور وهي الحُنيّنة وأخت الحُنيّنة والعجوز وأم العجوز وأخيرا الطرشاء.

من حنين الشمال إلى عواطف الشرق

يتابع عاصم رحلته شرقا إلى منطقة كسلا، ويلتقي هناك مع الطاهر الأمين وهو فنان من قبيلة البني عامر وهي فرع من قبائل البجه من شرق السودان.

يقول الطاهر الأمين “إن الطنبور أو الباسنكوب كما يسمى في الشرق أوتاره مختلفة ومقاماته مختلفة مثل مقام الشمبر والتورباي والبيساي ولكل مقام ظَرفُه النفسي والاجتماعي”.

أغاني النوبة بشكل عام، كلها مربوطة بإظهار القوة
أغاني النوبة بشكل عام، كلها مربوطة بإظهار القوة

ويذكر الطاهر الأمين أسماء أوتار الباسنكوب من أعلى إلى أسفل، الوتر الأول يسمى “داردار” والوتر الثاني “شمبر” والوتر الثالث “بيساي” والرابع “دوارباي”. وتعتبر الأوتار الثلاثة شمبر وداردار والبيساي أهم الأوتار، وتنظم عليها معظم أنغام البيجه في شرق السودان.

يتابع الطاهر الأمين الحديث عن الأوتار ويقول إن الشمبر هو الوتر الذي يستعمل ليعزف عليه لحن الغربة والحنين، والبيساي كان قديما لمناسبات الأفراح والأتراح وفي ملاحم الحرب والتجهيز لها، وعندما يُدقّ هذا الوتر يتجهز الناس لشيء عظيم.

الأداءات الحلقية

كانت هذه الأداءات تستخدم في الغناء السوداني القديم وتعرف بالحمبوي والطنبرة والغناء. والحمبوي هو جزء من الغناء، وهو عبارة عن تصفيق باليدين قريبا من الفم وإخراج صوت من الفم ويسمى بـ”ريثم” خاص يتناسب مع الموسيقى المصاحبة.

إلى الغرب حيث يتابع عاصم الطيب رحلته إلى منطقة كردفان، ويزور قبيلة الحَمَر غرب الأُبيِّض، ويتعرف على نمط جديد من الحمبوي، يقول عنه إنه عبارة عن تناغم أو سؤال وجواب بين الأصوات الذكورية والأنثوية، ويعرض الفيلم مقطعا للحمبوي هناك.

الشمبر هو الوتر الذي يستعمل ليعزف عليه لحن الغربة والحنين

ويتابع الحديث عن الطنبرة، ويقول إنه أول ما تعرف على هذا النمط من الغناء كان في مسقط رأسه النيل الأزرق، ويختلف شكله من مكان إلى آخر حسب البيئة، ويُعرف بالطنْبارة، وهذا النمط له معان كثيرة جدا في مناطق السودان. ويعرض الفيلم هنا مقطعا من غناء الطنبرة يؤديه مجموعه من النساء والرجال:

أحلفكم بالله تنادولي حنان
التي تلبس ثوبها بانتظام
حنان نَسيمكم الغالي
لا يتزوجها رجل غير ذي قيمة

تنتقل الكاميرا إلى الأستوديو حيث المنتج الموسيقي مازن حامد الذي يقول: كنا حريصين جدا باختيار أغان مسموعة لدى الجميع حتى عند غير السودانيين مثل أغنية “جدودنا زمان”، و”سوداني”، لنعرض عبر هاتين الأغنيتين التنوع الثقافي وهذا عبر أمرين، الأول التنوع الإيقاعي والثاني تنوع الآلات.

التنوع الإيقاعي مثل استعمال إيقاع التعايشة والتمتم والسّيرَة والرومو، وتنوع الآلات مثل استخدام الطنبور والعود والكمان والنقّارة والنحاسات وأداء الحمبوي.

يتابع: ونقوم بتوزيع هذه المقطوعات المعروفة بالإيقاعات والآلات المختلفة، لترسم لوحة جميلة تمثل مختلف ثقافات السودان.

وهنا يعرض الفيلم بروفات تدريبية للفرقة وهم يغنون أغنية “جدودنا زمان” وأغنية “سوداني” بالطريقة السابقة الذكر.

يشرح الباحث في الموسيقى السودانية عاصم الطيب القرشي الفكرة بشكل مفصل، ويقول إن أي مؤلف موسيقي لا بد أن يمر بمراحل مختلفة من بداية العمل إلى نهايته، أي عرض فكرة أو لحن صغير يعاد عرضه لتثبيت الفكرة، ثم تنميته بزيادة النوتات، ثم توزيعه.

ووقع الاختيار على أغنية “جدودنا زمان” وخصوصيتها تكمن في التوثيق للسودانيين عبر الموسيقى وحفظ التاريخ والوطن، ثم يكمل أن الفكرة دائرية بسيطة جدا، فهي تتكون من المخرج الموسيقي أو مهندس الصوت والآلات الشعبية بالإضافة للأداء الخماسي السوداني، ثم التدرج حتى الوصول إلى نقطة معينة يحصل فيها كسر للريثم والإيقاع عن طريق الزيادة في شدة الإيقاع، وهذا يقودونا إلى المضي غربا حيث إيقاع التَعايْشة المعروف في دارفور غرب السودان.

غرب أو شرق.. ما في فرق

ينتقل بنا عاصم الطيب إلى الغرب حيث دارفور المربوطة بالجبل والغابة والبحر والنهر والصحراء، وهذه التضاريس المختلفة للبيئة التي أنتجت إيقاع التعايشة، ويعتقد الطيب أن إيقاع التَعايْشة له علاقة بطيور معينة وحركة أجنحتها، ورقصة هذا الإيقاع تشبه إلى حد بعيد حركة طائر يرقص هذه الرقصة.

من دارفور غربا إلى كردفان جنوبا حيث تكتمل الرحلة هناك مع رقصة “الكمبلا ” وإيقاعات المارش العسكري، وهنا يظهر شباب من ولاية جنوب كردفان يؤدون رقصة الكمبلا.

إيقاع التَعايْشة له علاقة بطيور معينة وحركة أجنحتها
إيقاع التَعايْشة له علاقة بطيور معينة وحركة أجنحتها

يظهرون باللباس الخاص لرقصة الكمبلا الذي يشرحه أحد أفراد راقصي الكمبلا حيث يقول “في بداية الخريف نقطع جريد الديليب الذي يصنع منه الكشكوش، ثم يوضع تحت الشمس حتى يجف ويحفظ حتى وقت رقصة الكمبلا، نربط الشوالات حول القدمين ثم يربط فوقها الكشكوش ثم يربط الرحط حول الخصر وهي تشبه تنورة من القش الناشف ثم يربط الأذناب وبعدها توضع القرون فوق الرأس وتثبت”.

يقول إن القرون والرحط والأذناب والكشكوش هي أصل “الكمبلا” وباقي الأشياء والإكسسوارات هي فقط للزينة.

يقول عاصم الطيب “إن هذه الرقصة عبارة عن مارش عسكري فانتازي أو تشريفي، الهدف منه استعراض القوة، فالكمبلا على حد قول أحد المغنيين أغان لتدشين الشباب في مرحلة انتقالهم من مرحلة الصِبا إلى الرجولة، إنه معسكر تدشيني يغنون فيه أغاني الكمبلا وهم يحاكون أبقار الوحش”.

أغاني النوبة بشكل عام، كلها مربوطة بإظهار القوة، وعند الانتقال من جنوب كردفان إلى شمالها كأنما نتمدد ونخرج من الأثر الزنجي في الموسيقى إلى الأثر العروبي الذي يتمثل في قبائل البقّارة، وهي قبائل رعوية ترعى البقر.

ومن إيقاعاتها المردوم والدرملي، تطورت هذه الإيقاعات فأخرجت آلات جديدة مثل نقّارة البقّارة، التي تضاهي في سرعتها سرعة نقّارة الكرن لدى قبائل النوبة؛ وهذا يدل على التقارب والتزاوج بين القبائل المختلفة.

لوحة ملوّنة نهائية

الجانب الآخر وهو الجانب البصري، وهو ما يلبسه الراقصون من ألوان مختلفة وأزياء البقّارة المزركشة، وهذا يدل على التنوع الثقافي، ثم تنوع الأداء من النقاقير الكبيرة إلى النقاقير الخفيفة، مما زاد في رشاقة الرقص. وتعتبر النقّارة في منطقة البقّارة كشعار، حيث إنها تمكنت من جمع القبائل المحلية في بوتقة واحدة.

عند الانتقال من جنوب كردفان إلى شمالها كأنما نتمدد ونخرج من الأثر الزنجي في الموسيقى إلى الأثر العروبي الذي يتمثل في قبائل البقّارة
بالانتقال من جنوب كردفان إلى شمالها كأنما نتمدد ونخرج من الأثر الزنجي في الموسيقى إلى الأثر العروبي

الحفل الختامي امتزجت فيه كل الآلات الشعبية النقّارة والطنبور والوازا، وبعض الآلات الحديثة، وإيقاعات مناطق السودان المختلفة ورقصاتها وأزيائها الملوّنة المزركشة.

كانت لوحة موسيقية مدهشة، طارت بالجمهور المتفاعل في كل سماء السودان باختلاف ثقافاته ومناطقه ومزاجاته الموسيقية وتضاريس سُلّمِه الموسيقي الغنيّ المتنوع، لتشكّل نموذجا أوليّا بسيطا له مستقبل واعد لتكوّن سمفونية السودان.


إعلان