المسرح التونسي.. مسرح الحرية والثورة والبوليس السياسي
أنتجت الجزيرة الوثائقية سلسلة من الوثائقيات التي تناقش ملف “المسرح العربي” وتبحث نشأة المسرح العربي والقُطري في معظم البلدان العربية التي اشتهرت بهذا النوع من الفن ابتداء من الحكواتي أو القصّاص مرورا بمسرح خيال الظل ثم القاراقوز وأخيرا باعتلاء خشبة المسرح التي جاءت تتويجا لكل التقنيات البسيطة التي سبقتها، وكيف تنوع شكل المسرح بتنوع الثقافة والقُطر الجغرافي، وما هو نصيب اللغة العربية الفصحى على ذلك المسرح.
وتستعرض الحلقة الرابعة المسرح التونسي، إذ تعتبر تونس من الدول المغاربية البارزة في مجال المسرح كتابة وتأليفا وتمثيلا وإخراجا ونقدا، وقد شهد المسرح التونسي طوال تاريخه مجموعة من المراحل الفنية والجمالية والدرامية الأساسية.
تونس الخضراء بلاد الياسمين التي ملئت جمالا وسحرا، بين ربوعها نشأت الحضارة والثقافة وترعرع الفكر والفن، وقد شهدت انفتاحا فكريا غير مسبوق لتأثرها بالثقافة الغربية، وعرفت تلك البلاد المسرح منذ القدم، فالمسارح الرومانية كمسرح قرطاج خير شاهد على ما مضى.
أما في العصر الحديث، فتعتبر التجربة المسرحية في تونس تجربة ريادية مميزة وخاصة، فهي ذات طابع متفرد وناضج فكريا وثقافيا، فقد دخل المسرح بشكله العصري إليها عن طريق الفرق الإيطالية والفرنسية التي كانت تجوبها زمن الانتداب الفرنسي.
في هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، نستعرض قصة المسرح الحديث في تونس منذ النشأة وحتى الفترة الحالية، ويسلط الضوء على محطات النجاح والإخفاق.
فرقة النجمة.. فاتحة المسرح التونسي
شابان شغوفان بالمسرح يعملان في القنصلية الإيطالية، هما محمد بن تركي والهادي أرناؤوط، قررا مع مجموعة من الشباب إنشاء فرقة مسرحية سميت فرقة النجمة، كانت هذه البداية عام 1908.
وفي نفس العام قدِمت فرقة عبد القادر المغربي وهي أول فرقة مشرقية دخلت تونس، بعدها توالى توافد الفرق المشرقية على البلاد، ومن أبرزها فرقة سليمان القرداحي وكان لها الأثر الكبير في إرساء معالم المسرح التونسي.
يقول المؤرخ المنصف شرف الدين: قدّم القرداحي العديد من العروض منها مسرحية “صلاح الدين الأيوبي”، وهي أول مسرحية تقدم بالفصحى على أرض تونس، وبعد وفاة القرداحي عاد جزء من الفرقة إلى مصر وبقي آخرون، ومنهم تكونت فرقة الجوق المصري التونسي عام 1909، ولأول مرة يتشارك التونسيون والمصريون خشبة المسرح سويّا.
بعدها تأسست فرقة الشهامة العربية وفرقة المستقبل التمثيلي وبقيت الفرق الثلاث تعمل ثم اتحدت فيما بعد تحت اسم الاتحاد المسرحي.
دعم سياسي للمسرح التونسي.. خطاب بورقيبة
بعد الاستقلال عام 1957 وإلغاء النظام الملكي أضحت تونس جمهورية وأصبح الحبيب بورقيبة رئيسا لها، وقد أدخل البلاد في طور الحداثة والتحديث فكان يعتبر الثقافة أهم ركيزة للخروج بالمجتمع من مرحلة التخلف.
يقول المخرج محمد فرحات: كانت رؤية بورقيبة في بناء المجمتع هي فكرة تكاملية تشمل الاقتصاد والتربية والصحة وكل مكونات الحياة لتصبح مشروع للحياة.
كان بورقيبة مغرما بالمسرح مؤمنا به ورأى أن دخول القرار السياسي لا بد منه لارتقاء المسرح، وألقى خطابا بهذا الصدد في عام 1962 قال فيه إن المسرح هو أساس تكوّن الشعب التونسي الجديد، وهو مرآة المجتمع وبرلمان الليل الذي يلتقي فيه الناس بتاريخهم ومشاكلهم وآمالهم، وقرر أن ينشئ في كل معهد ثانوي فرقة مسرحية، كما أشرك الفتاة التونسية في العمل المسرحي.
ارتقت هذه التجربة للقيام بأعمال مسرحية مدرسية تقدم بمهرجانات على مستوى المحافظات وتمنح الجوائز لأفضل الفرق، وكانت أول مسرحية تنال تلك الجائزة هي مسرحية “أوديب الملك” التي قدمتها فرقة المعهد الصادق، كما يقول وزير الثقافة الأسبق عبد الرؤوف الباسطي، وكان الموهوبون يحصلون على منح للمشاركة في أكبر المهرجانات العالمية مثل مهرجان “أفنينيون” الفرنسي الذي يعتبر واحدا من أكبر مهرجانات المسرح وتقدم فيه أقوى العروض المسرحية العالمية.
بعد ذلك أقام بورقيبة المسرح الجامعي، الذي احتضنه الاتحاد العام للطلبة، وحقق نقلة نوعية بالمسرح وطرح قضايا المجتمع وهمومه بصورة جريئة وقوية.
ويشير هنا مدير مهرجان قرطاج محمد المديوني إلى أن علي بن عياد كان أستاذ هذا الجيل، وهو الذي دفع المسرح التونسي خطوات واسعة للأمام من خلال فرقة مدينة تونس، وقد تولى رئاستها عام 1967، ووضع خطوطا عريضة للمسرح المعاصر من حيث الإخراج والإضاءة والسينوغرافيا، كما أنه اهتم بالملابس والتدقيق والمؤثرات وقدم للمسرح مجموعة من الممثلين واستعان بكتّاب غربيين ثم بكتّاب تونسيين، وسعى لترميم الفضاءات المسرحية وتشكيل ثقافة معاصرة.
فكر بن عياد.. رياح المسرح الجهـَوي
رغم النقلة التي أحدثها بن عياد فإن المسرح التونسي لم يستمر رهينة لفرقة مدينة تونس، بل دفعت الدولة باتجاه مسار جديد وهو المسرح الجهوي، وقد جاء المسرح الجهوي كرد فعل متمرد على فكر بن عياد ومسرحه، وابتعث الكثيرين للخارج وقتها، وكان هذا المسرح في نهاية الستينيات بمثابة الدعامة والمكمل لما بدأه بن عياد.
وقد أنشئ المسرح الجهوي في عدة مناطق بدءا من صفاقس ثم الكاف، وتكونت فرقة جهوية أخرى في القفصة أنشئت في 1973 وكان معظم أبطالها من خريجي أوروبا، وكانوا أصحاب مسرح موهبين وشغوفين.
ويعتبر المتحدثون في الفيلم أن هذا الجيل المسرحي ضحّى من أجل هذه الفكرة ونجاحها، ولكن لم يكتب لها الدوام، وذلك لأنه لم يكن لأفرادها الضمانات القانونية والتنظيمية لجعلهم محترفين حقيقين.
في تلك الفترة برزت الحاجة لإطار جديد يخرج الحركة المسرحية التونسية من مأزقها، ويطرح صيغة تتلائم وهياكل المونتاج المسرحي ومستوى الخيارات الجمالية والفكرية وكانت الدولة هي المتحكم في ذلك.
المسرح التونسي.. فرقة المسرح الجديد
تأسس في هذه الأثناء المسرح الجديد وهو أول مسرح تونسي مقاوم، وكان المسرح مبنيا على الصورة والإيقاع والإضاءة بالإضافة إلى كونه يرتكز على فن الخطابة والكلمة والحداثة. ومن أهم أعماله “مسرحية العرس” وهي مقتبسة من المسرح الفرنسي، وأقيم أول عرض لها في قاعة الفنون التشكيلية، وقاد الفرقة الفاضل الجعايبي.
ومن المسرحيات المهمة أيضا مسرحية “عرب” التي أقيمت في كنيسة قرطاج، لكن الرقابة كانت مشددة مما اضطر الفرقة للعرض في حي شعبي، وفي تلك الفترة أيضا عرضوا مسرحية “غسالة النوادر”.
بعد ذلك واجهت فرقة المسرح الجديد مشكلة انتحار أحد أفرادها حبيب المسروق، وانسحاب محمد إدريس بعد شعوره بغياب الحريات في تونس، ومن تلك الفرقة تشكلت فرقة فاميليا، وأقامت عرضا بنفس الاسم عام 1993، وظهرت بصورة أكثر تطورا من حيث الفكر والتكنولوجيا.
ومن أعمالهم في هذه المرحلة مسرحية “جنون” التي تتحدث عن الانفصام الشخصي، وكانوا يقصدون به المعنى الأشمل وهو الانفصام الجماعي والمجتمعي، وقد عُرضت المسرحية في العديد من الدول مثل كوريا واليابان وفي مهرجان أفينيون.
المسرح التونسي.. مسرح الحمراء
توالت تجارب عديدة ومهمة في المسرح التونسي مثل مسرح “فو” لرجاء بن عامر والمنصف الصايم، ومن مسرحياتهم “السكة” التي عُرضت بفرنسا وألمانيا. تقول رجاء: أردنا أن نقول شيئا مختلفا بلغتنا التونسية الدارجة كلغة وليس كلهجة.
وهناك أيضا تجربة عز الدين قنون الذي أسس مسرح الحمراء، ويقول إنه يؤمن بدور المثقف العضوي داخل المجتمع التونسي، فهو معني بهمومه ومشاكله. وقد قام بعروض عديدة في الدول العربية وأفريقيا، وأدرك وقتها أن أضعف حلقة في المسرح في تلك الدول هو التكوين، لذا قام بإنشاء المركز العربي الأفريقي للتكوين المسرحي الذي يعنى أيضا بالبحوث المسرحية، وقام بتخريج عدد من الشباب وتأهيلهم للتمثيل والكتابة المسرحية، وبدورهم فتحوا معاهد للتدريب حول العالم.
يقول المخرج الفضل الجعايبي: رغم التطلعات المتواضعة للجيل الجديد فإن هناك تجارب تدعو للكثير من التفاؤل، وهناك العديد من التجارب الواعدة، ومن هؤلاء الشباب الشاذلي العارفي ومن أهم أعماله “الرغبة” و”لغار”.
ويقول عن غرامه بالسينما والسينوغرافيا على مستوى الصورة: أحببت إدخال أدوات سينمائية داخل المشهد المسرحي، وتمكنت منها لخلق مسرح جاد فيه عمق وبطريقة صحيحة.
“فيس بوك”.. يوم حرق البوعزيزي نفسه
وفي ذكرى الاستقلال قام الجعايبي في 2006 بعمل مسرحية “خمسون” التي تحدثت عن خمسين عاما من السياسة في تونس بكل عناصرها، كما تحدثت المسرحية عن البوليس السياسي والإسلاميين واليساريين والمواطن العادي، لكن المسرحية مُنعت من العرض ستة شهور، وحدث خلاف مع وزير الثقافة الذي حاول حذف جزء من النص، لكن الفرقة رفضت. كان البوليس السياسي يحاصرهم أثناء العرض داخل المسرح وخارجه، لكن “خمسون” استطاعت طرح الواقع بجراءة وأجرت جماليات الايحاء والرمز.
أما مسرحية “يحيى يعيش” أيضا للجعايبي، فقد تحدثت عن تصلب النظام وعن الاختناق الذي يحدث للشعب جراء هذا التضييق، وكان البوليس حاضرا، أما الجمهور فكان مبهورا بما يسمع ويرى، وكان يحدوه الأمل لتستمر الانتفاضة وتنتقل خارج حدود المسرح.
تقول الممثلة رجاء بن عامر: كان الناس في قلق قبيل الثورة، ورغم الخوف وسطوة البوليس فإنني اكتشفت أثر الفيس بوك فعملت مسرحية “فيس بوك” وقُدمت أمام الرقابة، وبعدها بيوم حرق “بوعزيزي” نفسه، واستمر العرض ولكن أضفنا جزءا خاصا بالثورة.
“ثورة صاحب الحمار”.. أشواك في طريق الربيع العربي
يحاول جيل المسرحين الرواد إيصال فكره للجيل الصاعد لتجديد الخطاب للمجتمع الذي شهد ربيع الحرية والديمقراطية والإبداع على كل مستوياته السمعية والبصرية والفكرية. يقول محمد فرحات: كان الهدف من مسرحية “بورقيبة.. السجن الأخير” هو الحاجة لتصفية الحساب مع الماضي والذاكرة التونسية.
ويعيش المسرح التونسي مرحلة هامة وفاصلة وحاضنة للمستقبل، فما يحدث اليوم في المسرح التونسي ليس صراع أجيال بل هو امتداد للمعرفة والتجربة وعلاقة تواصل بين الماضي والحاضر الذي تنبأ بغد مشرق.
يرى الفنان الشاب هيثم حضيري أن صفة التواصل في المسرح التونسي مستمرة ولا يوجد قطيعة رغم الاختلافات الفكرية، ومن أهم المسرحيات الحديثة “ثورة صاحب الحمار”، التي ألفها عز الدين المدني وأخرجها الفاضل الجزيلي، وتتحدث عن الانقلاب ما بعد الثورة وهو إسقاط لواقع تونس والمخاطر التي قد تتعرض لها الثورة.
تتقدم الحركة المسرحية التونسية تصاعديا وبتطور ملحوظ لتصبح أكثر إقناعا ونضجا، وهي رحلة نضالات لأجيال تلاحقت لتصنع الفكر والمجد. والمسرح التونسي صورة ذهنية متلألأة بأنوار مسرحها تشبه ما قاله شاعر تونس الشابي:
ورفرف روح غريب الجمال
بأجنحة من ضياء القمر
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر