المسرح العراقي.. فن الحضارات القديمة
أنتجت الجزيرة الوثائقية سلسلة من الوثائقيات التي تناقش ملف “المسرح العربي” وتبحث نشأة المسرح العربي والقُطري في معظم البلدان العربية التي اشتهرت بهذا النوع من الفن ابتداء من الحكواتي أو القصّاص مرورا بمسرح خيال الظل ثم القاراقوز وأخيرا باعتلاء خشبة المسرح التي جاءت تتويجا لكل التقنيات البسيطة التي سبقتها، وكيف تنوع شكل المسرح بتنوع الثقافة والقُطر الجغرافي، وما هو نصيب اللغة العربية الفصحى على ذلك المسرح.
وتستعرض الحلقة السابعة نشأة المسرح العراقي وتطوّره وإرهاصاته والأحداث التاريخية التي أثرت فيه، وأهمّ المسرحيين العراقيين والأعمال المسرحية التي قُدمت في حقبة طويلة من الزمن.
لا يمكن أن يُذكر العراق دون أن تقفز إلى الذهن مباشرة تلك الحضارة القديمة العظيمة حضارة ما بين النهرين دجلة والفرات، وأقدم اللغات المعروفة المكتوبة (السومريّة)، ولا يمكن أن نمرّ بسهولة دون أن نتوقف طويلا عند الأدب البابلي، كيف لا و”ملحمة جلجامش” التي كُتبت في اثني عشر كتابا شاهد على ذلك.
وما بين بغداد والبصرة والموصل وبابل ظلت المدن العراقية مصدر إشعاع حضاري وثقافي كان للمسرح نصيب كبير منها.
المسرح العراقي.. ميلاد في الكنيسة
كانت النشأة الأولى للمسرح العراقي في القرن الثامن عشر في مدينة الموصل، وذلك من خلال تقديم بعض العروض المسرحية في الكنائس والمدارس الدينية.
وكما يذكر المتحدثون في الفيلم ومنهم المخرج والممثل المسرحي د. سامي عبد الحميد ومحسن العزاوي أن المسرح وصل عن طريق القساوسة الذين كانوا يسافرون إلى أوروبا وتعرفوا على الثقافة الأوروبية، وجاءوا بنصوص مسرحية تُرجمت الى العربية، وقدّموها في الكنائس.
وكانت أهمّ تجربة مسرحية حقيقية على يد القس “حنا حبش” الذي كتب كوميديا “آدم وحواء” و “يوسف الحسن” وكوميديا “طوبية”، فكانت هذه النصوص الثلاثة هي البداية الحقيقية للمسرح العراقي، ثم انتقلت هذه الحركة المسرحية إلى بغداد في المدارس المسيحية واليهودية ثم إلى المدارس الإسلامية التي كانت تتحفظ على مثل هذا النوع من الفن على أنه خروج عن المُثل الدينية.
المسرح العراقي.. “وامعتصماه”.. مسرح الثورة الكبرى
كان لثورة عام 1920 ضد المستعمر الإنجليزي تأثير كبير وبالغ على تطور المسرح في العراق، حيث ظهرت حركة مسرحية تواكب الثورة وتعبر عنها من خلال الفرق المسرحية الشبابية، وكان من أهمها الفرقة الوطنية المسرحية التي أسسها حقّي الشبلي حوالي عام 1927 حيث كانوا يقدمون مسرحياتهم في المنتديات والنوادي الاجتماعية، ومنها مسرحية “شهيد الدستور” ومسرحية “وامعتصماه” و”صلاح الدين الأيوبي” وكلها عناوين تحمل نفَسا وطنيا ثوريا وتدعو إلى التحرر ودحر الاستعمار.
وبزيارة فرقة “جورج أبيض المسرحية” المصرية للعراق وحاجتها بالمصادفة لممثل لعب دوره “حقّي الشبلي”، فقد اطَلعوا على موهبته وقاموا بدعوته لمرافقتهم إلى مصر مع الفرقة للعمل والدراسة، وهناك تطورت موهبة حقّي الشبلي ونضجت، وعندما عاد ابتعثته الحكومة آنذاك إلى فرنسا للدراسة، وعندما عاد من فرنسا أسّس فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة.
وبعد أن تخرّجت المجموعة الأولى من معهد الفنون الجميلة، تكّونت فرقة سُمّيت “الفرقة الشعبية للتمثيل” كان من مؤسسيها إبراهيم جلال وجعفر السعدي، وقدمت عملا واحدا هو “في سبيل الوطن”، بعدها تأسست فرقة المسرح الفني الحديث عام 1952، وبدأت هذه الفرق تقدم نشاطاتها المسرحية المنقولة عن المسرح الأجنبي.
وبتفاعل الجمهور مع المسرح في المعهد، شجع الفرق المسرحية للخروج إلى مسارح تعمل بشكل يومي خارج نطاق المعهد، فكان أن أسس الأستاذ جلال مسرح بغداد الذي كان عبارة عن مخزن (دكان) جهزه وأعده ليصير مسرحا.
“ستة دراهم”.. مسرح شعبي ساخر
كان للنكبة الفلسطينية ولثورة الأحرار في مصر تأثير كبير في الطابع السياسي لحركة المسرح العراقي، ففي الخمسينيات ظهر الكاتب المسرحي يوسف العاني وهو نموذج للكاتب السياسي الساخر الذي قدم مسرحيات انتقادية لاذعة وأسّس لظاهرة المسرح الشعبي الكوميدي، ومن مسرحياته “ستة دراهم” و”رأس الشليلة”، وقد شكّل ثنائيا مميزا مع الدكتور جلال في مسرحية “النخلة والجيران” والكثير من المسرحيات التي كانت ذات مضمون سياسي وطني بشكل انتقادي.
وفي عام 1958 تأسست مصلحة السينما والمسرح، وكان أول مدير لها الفنان يوسف العاني، وبتأسيس هذه المصلحة أصبح هناك رافد آخر للمسرح العراقي يحفز على التنافس في العروض.
كما برز أيضا الممثل والمخرج المسرحي سامي عبد الحميد الذي عمل مع الأستاذ حقّي الشبلي مدير مصلحة السينما والمسرح في عام 1964، وأنتج معه أربعة عروض مسرحية باسم “الفرقة القومية للتمثيل”، ونالت إعجاب الجميع. وفي المقابل كانت هناك فرق مسرحية عديدة مثل “فرقة 14 تموز” و”فرقة مسرح اتحاد الفنانين” وأكثر من اثنين وعشرين فرقة أخرى إضافة الى “فرقة الحكومة المسرحية”.
وبعد فرقة الفنون الشعبية للرقص والغناء تأسست “الفرقة القومية للتمثيل” عام 1968 باندفاع وحماس من حقّي الشبلي، وذلك على غرار المسرح القومي في مصر لتستقطب هذه الفرقة فنانين متميزين كثر من جميع أنحاء العراق مثل عزيز عبد الصاحب ومحسن العزاوي الذي يقول إنه بنى آماله على خريجات معهد الفنون الجميلة، وكان له دور في إقناع عوائل أولئك الخريجات ليعملن في المسرح القومي.
وكانت فاطمة الربيعي التي تتحدث في الفيلم من أول المؤسسين من العنصر النسائي في “الفرقة القومية”، وكان من الأسماء النسائية المهمة التي غيّرت النظرة الاجتماعية للعنصر النسائي في المسرح السيدة “آزادوهي” أول ممثلة تتخرج من معهد الفنون الجميلة، وهي من عائلة مسيحية، وكان يطلق عليها لقب راهبة المسرح، ويعرض الفيلم لها مقطعا من مسرحية “النخلة والجيران”.
حقبة السبعينيات.. نهضة المسرح العراقي
في مرحلة الستينيات أُوفِد عدد من المسرحيين إلى دول أوروبا وأميركا ورجعوا بثقافات جديدة ومدارس جديدة لتبدأ مرحلة جديدة في المسرح العراقي على يد إبراهيم جلال وقاسم محمد الذين انتبها أكثر للموروث الشعبي العراقي وأدخلوه في تجاربهم المسرحية، كما في مسرحية “بغداد الأزل بين الجدّ والهزَل”.
وفي السبعينيات من القرن الماضي كان العصر الذهبي للمسرح العراقي، حيث ظهرت وازدهرت فرق مسرحية عديدة مثل “فرقة المسرح الشعبي” و”فرقة الرسالة” و”فرقة المسرح الفني الحديث”، هذه الفرق كانت بمثابة معاهد وبوابات لتطوير الظاهرة المسرحية في العراق وبوابات للعبور من الفرق المسرحية الخاصة إلى الفرقة القومية للتمثيل، مما أحدث منافسة كبيرة بين الفرق المسرحية الأهلية وفرقة الدولة.
وفي هذه الحقبة من الزمن أيضا، تطورت التقنيات المسرحية كثيرا وأصبح الاهتمام بالديكور والسينوغرافيا والزي والألوان والأضواء أكبر، أي أن السبعينيات شهدت نهضة المسرح العراقي وكان من أهمّ العروض في هذه الفترة مسرحية “البيك والسائق” عن نصّ الكاتب المسرحي الألماني “بريخت”، وقد كتبت عنها الصحافة وبالتحديد في مجلة “روز اليوسف” ما نصه: جاء المسرح العراقي ليوقف المسرح المصري.
تأثر المسرح العراقي بسبب الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت لثماني سنوات، وتذبذب بين الإيجابية والسلبية، ومرّ بمرحلة تناقضات بين مؤيد لهذه الحرب ومعارض، فالمسرحي “عزيز خيون” مثلا كانت وجهة نظره ضد الحرب بعكس توجه الدولة، لذلك واجهت مسرحياته المنع.
بعيدا عن عين السلطة.. ظاهرة المسرح العراقي التجاري
تحت ضغط الرقيب على المسرح والمسرحيين، كان لا بدّ من البحث عن أساليب جديدة أساليب رمزية احتيالية ليستطيع الفنان تقديم وجهة نظره، وكان لا بدّ للدولة في فترة الحرب من صرف نظر الجمهور عن ما تسببه من مآسي وآلام، ولهذا فقد ظهر نوع من الأعمال المسرحية (المسرحيات التجارية) تكون في غالبها كوميدية، مثل مسرحية “بيت وخمسة بيبان” التي استمر عرضها لمدة سنتين في مسرح المنصور، وقد وجدت جمهورا واسعا.
تأرجحت في المسرح التجاري الآراء بين معارض يعتبره تدجينا وتسطيحا وحقنا تخديرية لتحمّل مآسي الحرب، وبين مؤيد يقول إنها كانت عروضا نظيفة حاولت أن توازن بين المسرح كفنّ، وحاجة الناس إلى عرض مضحك ومريح.
جاءت بعد ذلك مرحلة مهرجان بغداد المسرحي التي استمرت أربع سنوات، ومهرجان منتدى المسرح الذي استمر لـ17 دورة، وخرج كثيرا من المسرحيين والممثلين والمخرجين، وقد أسسه وأداره المخرج الفنان مقداد مسلم.
المسرح العراقي.. مرحلة الصدام مع الدكتاتورية
في عام 1990 وبدخول العراق إلى الكويت وفرض الحصار الدولي على العراق، دخل المسرح العراقي في مرحلة جديدة يمكن تسميتها مرحلة الصّدام مع السلطة، وكان لـ13 سنة من الحصار أثر كبير على المسرح العراقي جعلته معزولا عن تطورات المسرح في العالم، وأُنتجت عروض في هذه الفترة سميت عروض الحساسية الجديدة، وكانت غير متماشية مع النظام والرقيب.
ومن رواد هذه المرحلة حيدر منعثر الذي يتحدث في الفيلم ويقول: “إن من قَدره أن يكون دائما في منطقة الممنوع، وأنه يفهم المسرح على أنه منبر للمشاكسة وقول المسكوت عنه في حياة الناس”، ولذلك لُقّب بالفنان المشاكس في كل مسرحياته؛ ومنها “سور الصين العظيم”، ومسرحية “ملك زمانه” التي غيّرت خارطة المسرح الشعبي بتقديمه لها بشكل جديد في الطرح والمضمون والعرض والأداء التمثيلي، لقد كانت مجازفة نجحت نجاحا كبيرا على المستوى الجماهيري، وجريئة لحدّ أن تتعرض لموضوع الدكتاتورية.
ومن روّاد هذه المرحلة أيضاً المخرج عزيز خيون الذي حاول خلال الحصار دفع المسرح العراقي إلى الخارج؛ إلى مهرجان قرطاج ومهرجان القاهرة ودول الخليج والمغرب العربي، واستطاع أن يقدّم عروضا مسرحية في إيطاليا ومنها نصّ “أبحِر في العينين” الذي عُرض في ثلاث مدن إيطالية، وكانت أول مجموعة مسرحية تحطّم جدار الحصار وتخرج إلى العالم.
“خرجت من الحرب سهوا”.. فرقة الناجين
خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما صاحبه من الدمار والغزو والظروف الصعبة التي مرّ بها المجتمع العراقي، ظلّ المسرح العراقي يقوم بدوره في مقاومة الاحتلال خلال وبعد الغزو، فظهر ما يمكن تسميته بالمسرح المقاوم، وظهر هذا جليا عندما قدّمت مجموعة من الشباب عرضا ارتجاليا على مسرح الرشيد، وأطلقوا على أنفسهم اسم فرقة الناجين.
أما مواضيع المسرح ما بعد الغزو فكانت مؤلمة وقاسية، وتتمحور حول النظام السابق والسجون والمقابر الجماعية والحرية والاستقلال؛ فهذا المخرج فلاح إبراهيم في مسرحيته “خرجتُ من الحرب سهوا” خير دليل على ذلك، حيث تتحدث المسرحية عن شاب لم تسمح له ظروف الحرب بالتعرف على فتاة، والمرأة الوحيدة التي تعرّف عليها في حديقة عامة يكتشف أنها مفخخة، في إشارة رمزية إلى أنه حتى الأحلام التي نطمح إلى تحقيقها تكون مفخخة وقابلة للانفجار، لقد حاول فلاح إبراهيم في هذه المسرحية تفكيك مشاعر الإنسان الحاقد والإنسان المحب، ليكتشف أن الحرمان وفقدان الحب هما السبب وراء الحقد والتفكير بالقتل.
وكذلك في مسرحيته “قلب الحدث” التي تتحدث عن ثلاث أشخاص من عامة الناس يموتون في انفجار في شارع في بغداد، فيتحدثون إلى بعضهم في لحظة الموت، ويطرحون أسئلة كبرى حول هذه الأحداث.
يعتبر المسرح العراقي ما بعد 2003 مسرحا جريئا وواضحا، لأن الإبداع الحقيقي يولد من رحم المعاناة، وما أكبر المعاناة وما أقسى المأساة التي تعرّض لها العراق خلال سنوات الحصار والغزو الأمريكي الغاشم. وعلى الرغم من ذلك كله يبقى المسرح العراقي مسرحا كبيرا عظيما بفنّانيه ورجاله، ويحقق الحضور والجوائز أينما وُجد بإرادة وذكاء وشجاعة صانعيه من مخرجين وكتّاب وفنانين قادرين على تمرير رسالتهم وخطابهم، فالمثقفون في الزمن الرديء هم المسؤولون عن صمتهم أمام الأجيال القادمة.