المسرح العربي.. قبل أن يعرف العرب فن المسرح الغربي الحديث

أنتجت الجزيرة الوثائقية سلسلة من الوثائقيات التي تناقش ملف “المسرح العربي” وتبحث نشأة المسرح العربي والقُطري في معظم البلدان العربية التي اشتهرت بهذا النوع من الفن ابتداء من الحكواتي أو القصّاص مرورا بمسرح خيال الظل ثم القاراقوز وأخيرا باعتلاء خشبة المسرح التي جاءت تتويجا لكل التقنيات البسيطة التي سبقتها، وكيف تنوع شكل المسرح بتنوع الثقافة والقُطر الجغرافي، وما هو نصيب اللغة العربية الفصحى على ذلك المسرح.

وتستعرض الحلقة الأولى التي جاءت بعنوان “المسرح العربي.. الظواهر المسرحية” معظم هذه الظواهر، وحاولت من خلال استطلاع آراء النقاد والكتّاب والمختصين التوصل إلى مقاربة حاولت فيها التفريق بين ما يمكن أن نطلق عليه ظاهرة مسرحية حسب توفر العناصر المطلوبة، وبين ما يمكن أن يمثل ظاهرة فنية أخرى لا تنطبق عليها معايير المسرح.

تعد العناصر الأربعة التالية مجموعة الشروط أو الضوابط أو المعايير التي توافق عليها المنظِّر الغربي والعربي، بحيث إذا وجدت في شكل فرجوي أو ظاهرة، يمكن أن يقال عنها إنها مسرح:

–         المكان، سواء كان خشبة مسرح أو مساحة في سوق أو منصة في زقاق (حارة).

–         المؤدّي.

–         الجمهور.

–         النص أو القصة أو الحدث.

فإذا وجدت هذه العناصر في شكل من أشكال الفُرجة، أمكن أن يسمى فنا مسرحيا، وفيما يلي نسلط الضوء على بعض هذه الظواهر، ونرى مدى قربها أو بعدها عن المسرح:

خيال الظل.. ابن دانيال إذ يُشخّص الفساد

برزت هذه الظاهرة إلى الوجود لأول مرة متعاصِرة في مكانين مختلفين، في الحضارة الصينية، والحضارة الفرعونية. وقد سُجِّلت إشارات، وهي عبارة عن أبيات شعرية، تشير إلى أن هذا الفن كان موجودا في القرن الخامس الهجري.

ثم تلا ذلك وجود هذه الظاهرة في العصرين المملوكي والأيوبي، وبعدها العثماني عندما شاهد السلطان سليم الأول عرضا متكاملا لخيال الظل عندما زار مصر، وكان ذلك مشهد إعدام “طومان باي”، حيث دُهش السلطان لهذا العرض، واصطحب الممثل معه إلى الأستانة، ومنها انتشر هذا الفن في سائر أنحاء أوروبا.

لقطة من مسرح خيال الظل

ويُرجِع الكثير من النقاد الفضل في مأسسة هذا الفن إلى “ابن دانيال” الذي هاجر من العراق أيام غزو المغول، وطاف ببلاد الشام واستقر في مصر، حيث قدّم ثلاثة عروض في الخيال والظل ينتقد فيها بعض الظواهر الاجتماعية والفساد، واستمرت هذه الظاهرة في الانتشار، فحمل القرن العشرون معه دُورا ثابتة لعرض خيال الظل، وكانت هنالك أيضا عروض متنقلة تجوب سائر مدن وقرى مصر.

أما عناصر ظاهرة خيال الظل فهي عبارة عن رسوم مسطحة على قطع من الجلد أو الورق المقوّى أو البلاستيك، وتتصل بها أسلاك متينة أو عصيّ رفيعة، ويقوم العارض بتحريك هذه الرسوم على شاشة يسلط عليها الضوء من الخلف، ويصاحب حركة هذه الرسوم أو العرائس سرد قصصي يقدمه الراوي بأصوات مختلفة بشرية أو حيوانية تحاكي طبيعة تلك الرسوم، وقد تصحبها أصوات موسيقية أحيانا كالدف والطبلة والربابة والناي، وتطورت هذه الظاهرة مع تقدم الزمن، فصارت الرسوم تظهر بالألوان المختلفة، وصارت عدة شخصيات تؤدي العمل بأداء أقرب إلى التمثيلي من ذلك السردي القديم.

ويمكن تصنيف ظاهرة خيال الظل على أنها مسرح متكامل، حيث تتوافر فيها عناصر الأداء ووجود الشخصيات والجمهور واستخدام الإضاءة والأزياء، وهذه هي عناصر الأداء المسرحي. ولا يمنع عدم وجود ممثلين حقيقيين أمام الجمهور من أن تكون هذه الظاهرة مسرحا، فالأصوات المؤداة بشكل درامي، وحركة الرسوم المتوائمة، وتفاعلها في ذهن المشاهد الذي يكمل الصورة بتخيل شخصيات الحكاية وكأنها ماثلة أمامه، يعطي العمل شكلا مسرحيا تاما.

ظاهرة الحكواتي.. إسقاطات سياسية في زمن الكبت

الحكواتي هو ذلك الحكّاء الجالس على مكان مرتفع وحوله جمهوره، وهذه كانت من أوائل الظواهر العربية التي يمكن أن تمثل شكلا مسرحيا، فكانت رواية الشعر في أسواقه المعروفة ثم رواية أيام العرب والأمم الأخرى، إلى حكاية قصص قصيرة تعتمد على الإضحاك والإثارة، وتكون أسطورية مكذوبة في أكثر الأحيان، ثم تطورت إلى القصص الطويلة التي تحكي عن شخصيات معروفة في التاريخ مثل الزير سالم والمهلهل يسردها الحكواتي بأسلوب مشوّق مثير، بحيث يبقى انتباه السامعين منجذبا له، وقد يرافق ذلك استخدام بعض الموسيقى البسيطة كالربابة والدف أحيانا.

اشتهرت ظاهرة الحكواتي في العصرين المملوكي والعثماني، وكانت تعتبر متنفسا للجمهور، من حالة الكبت السياسي والاجتماعي والعزلة عن العالم الآخر التي كان يعانيها، وخصوصا في عصر العثمانيين.

حكواتي الربابة يحكي قصة فيها تنويع من الأداء الصوتي

كان الحكواتي يجلس للناس في السوق أو المقاهي، ويغيِّر طريقة صوته حسب الشخصية التي يحكي عنها، ويحرك جسده ويديه حسب ما تقتضيه السردية، كأنه يجسد شكلا من أشكال “المونودراما الحديثة”، وبالتالي فهو شكل من أشكال الدراما لكنها فردية، بحيث يخرج عن أسلوب الأداء، إذا توفرت الحبكة والصراع بين الشخصيات المختلفة التي يؤديها.

حكواتي لبنان شكل من أشكال إحياء التراث المسرحي العربي في بداية السبعينات، ويعتبر روجيه عساف مع رفيق أحمد رواد هذا الإحياء، حيث حاولا خلط المونودراما الغربية الحديثة مع شخصية الحكواتي العربي بشقيها السرديّ والتمثيليّ، ليقدما أعمالا غلب عليها الطابع السياسي أو النقدي الاجتماعي والوجداني أحيانا، ويكون الجمهور على صلة تفاعلية وثيقة مع المؤدي بحيث يمكن أن يشاركه في الأداء.

وكواحد من أشكال بعث التراث ظهر “السامر الشعبي” أو السيرة الشعبية في مصر، كمحاكاة لظاهرة الحكواتي في لبنان، وهو عرض موضوع في قالب احتفالي، ويؤدي فيه ممثلون حقيقيون، ويعتمد على الارتجال غالبا.

مسرح الحلَقة في المغرب.. صناعة الفرح

مسرح الحلقة -ويسمى أيضاً مسرح البساط- هو فُرجة معروفة عند المغاربة، قبل أن ينتقل إليهم المسرح بنمطه الغربي، وجاءت كلمة البساط من البسط أي السرور والفرح، وردّها بعضهم إلى البِساط، وهو الفراش الذي يوضع على الأرض، ويلعب عليه الممثلون.

مسرح الحقلة المغربي سيمي بهذا الاسم لأن الناس تتحلق فيه حول مقدمي الاستعراض

ويكون البساط غالبا بالليل، ويستحضرون من العروض والألعاب والتشخيصات ما يدخل البهجة والسرور على المتفرجين، ويكون فيها بعض النقد الاجتماعي أو السياسي. وتعتبر ساحة مسجد الفناء في مدينة الرباط من أشهر الساحات التي قدمت عليها الفرجة المغربية منذ تاريخ بعيد، وتشتمل عروض الحلقة على بعض الألعاب البهلوانية الشيقة والعروض التمثيلية الفكاهية، وبعض ألعاب الخفة والسحر وألعاب الحيوانات والأفاعي.

وقد استمدت الحلقة اسمها من شكلها الدائري، حيث يتجمع الجمهور ويلتفّون على شكل حلقة، ويتركون مقدمي الفقرات في وسط هذه الحلقة، ولا تخلو الفقرات من اندماج تفاعليّ بين الجمهور ومجموعة المشخصين، فهي ليست أداء جامدا في اتجاه واحد، ثم بعد انتهاء الفقرات يقوم المشخصون بجمع النقود التي يتبرع بها المتفرجون.

القاراقوز (الأراجوز).. حين تخلق العزلة السياسية الإبداع

سبب تسمية “القاراقوز” راجع إلى عين الدمية السوداء الواسعة، وترمز إلى العين التي كانت ترى كل شيء، وهو اسم تركي، وقد يكون الاسم تحريفا لاسم الوزير الأيوبي “قراقوش” الذي تميزت أحكامه بالغلظة والعنف والتعسف، مع ما كان يصاحبها من فكاهة وتندر في صفوف المواطنين المصريين.

وفي فترات القهر والعزلة التي عاشها المصريون أيام المماليك، وبعد منع استعراضات الدمى الكثيرة في خيال الظل، استعيض عنها بدمية واحدة في صندوق صغير تؤدي عرضا متكاملا، بحيث يحركها المؤدي بأصابعه، مع ما يصاحب العرض من أصوات خاصة يقدمها المؤدي باستخدام أداة معينة تسمى “الأمانة”.

القراقوز هي دمية لها عين سوداء واسعة ترى بها كل شيء

وربما جاء اسم “الأمانة” من أن هذه الأداة كان يورثها الآباء للأبناء وتحمل “سر المهنة”، وهما قطعتان من الفولاذ الذي لا يصدأ على شكل مربع بطول 2 سم تقريبا، يوضع بينهما شريط من مادة وبرية، تعالج بنقعها لمدة ثلاثة أيام في منقوع الشاي، ثم يضعها في فمه بحيث تكون في مجرى الهواء الخارج من الجوف، فيتغير الصوت بمروره من خلالها، ويصير طفوليا مضحكا.

وقد تعددت الشخصيات في عروض الأراجوز مثل زوجته وشيخ الخفر والعمدة، إلى أن استحدثت شخصية “المِلاغي”، وهو شخص عادي يقف خارج صندوق العرض، وتكون مهمته إحداث نوع من التحدي والتحفيز بين جمهور المتفرجين والأراجوز، بحيث تصبح بين الطرفين أسئلة ونقاشات وأخذ وردّ بطريقة فكاهية ممتعة يحبها الصغار.

شكوكو.. الفنان الأثير

ثم ظهر الفنان محمود شكوكو في الخمسينات ليجسد شخصية الأراجوز ويخرجها من الصندوق الضيق إلى العروض التلفزيونية والسينمائية واسعة الطيف، حتى أن شخصية شكوكو غلبت فيما بعد على فن الأراجوز بحيث انطبعت صورة شكوكو نفسه في أذهان المتفرجين على أنه هو أصل الأراجوز، ثم تطورت فكرة الأراجوز إلى مسرح العرائس، وهي مجموعة الدمى التي تُحرك بواسطة الخيوط التي يمسك بها المؤدون من سقف المسرح.

إبداع “شكوكو” بتقديم شخصية الأراجوز طبعت في أذهان المتفرجين أنه هو أصل الأراجوز

كانت بداية هذا الفن في تركيا العثمانية، ثم انتقل إلى مصر ومنها إلى المغرب، ثم إلى أوروبا مرورا بإيطاليا، وتبنتها القديسة مارية، ليعاد إنتاجها باسم جديد وهو “الماريونيتا”، التي أعيد تصديرها إلى مصر في العصر الحديث.

مأتم عاشوراء.. مسرح الآلام ولطميّات الندم

مأتم عرض مسرحي يقدمه الشيعة في إطار مسرح يعرف بمسرح التعازي، وهو طقس احتفالي يبدي فيه الشيعة ندمهم على تخاذل أجدادهم عن نصرة الحسين رضي الله عنه في يوم مصرعه عشية عاشوراء في موقعة كربلاء، وهو قائم على فكرة الآلام والندم، آلام الحسين في مصرعه، وندم الشيعة على خذلانه وعدم نصرته، وهي سردية تعتمد على النص الذي يشارك في قراءته الجمهور، إضافة إلى استخدام الطبول والدفوف والمشية العسكرية.

المأتم هو طقس احتفالي يبدي فيه الشيعة ندمهم على عدم نصرة الحسين يوم مقتله في كربلاء

وهو احتفال ممتد على مدى أيام، ومنضبط إلى أقصى درجات الانضباط، وهو إلى ذلك يتمتع بكل مقومات المسرحية القصيرة؛ فهنالك حدث مخصوص وشخصيات معينة تؤدي وجمهور يشارك ويتفاعل، وهنالك مكان مخصوص تدور فيه هذه الطقوس.

صندوق الدنيا.. تجسير الهوّة بين المسرح والسينما

ظاهرة صندوق الدنيا هي أبعد الظواهر عن المسرح الحديث، فلا يوجد فيها شخوص مؤدية وإنما هو جمهور من آحاد يعزلون أنفسهم في صناديق صغيرة مظلمة، ويُعرَض عليهم شريط من الصور الصامتة، ولكن الشخص الذي يحرك الشريط هو الذي يقوم برواية الحكاية، فهي ظاهرة بعيدة عن المسرح في حقيقتها، بل وأقرب إلى بدايات السينما، ولكنها خليط من فنّين؛ الحكواتي وخيال الظل.

صندوق الدنيا هو شريط من الصور الصامتةلا يوجد فيها شخوص مؤدية

ويمكن القول بأن صندوق الدنيا هو اختراع مصري خالص، وقد كان بامتياز بداية ثورة السينما الحديثة.


إعلان