المسرح المغربي.. ثورات وانتكاسات على الخشبة المتحركة

أنتجت الجزيرة الوثائقية سلسلة من الوثائقيات التي تناقش ملف “المسرح العربي” وتبحث نشأة المسرح العربي والقُطري في معظم البلدان العربية التي اشتهرت بهذا النوع من الفن ابتداء من الحكواتي أو القصّاص مرورا بمسرح خيال الظل ثم القاراقوز وأخيرا باعتلاء خشبة المسرح التي جاءت تتويجا لكل التقنيات البسيطة التي سبقتها، وكيف تنوع شكل المسرح بتنوع الثقافة والقُطر الجغرافي، وما هو نصيب اللغة العربية الفصحى على ذلك المسرح.
وتستعرض الحلقة الثانية التي جاءت بعنوان “المسرح المغربي” تاريخ المسرح في المغرب وكيف عرف المغاربة فن المسرح ومارسوه مباشرة بتلقائية قبل أن يعرفوا قواعده ويتعلموها، فقد عُرف المسرح في المغرب من دون خشبة، وهذا النوع لم يمت حتى بعد دخول المسرح الحديث، وبقي يقام في الأسواق والبوادي والحومات والمدن العتيقة.
المغرب جوهرة أفريقيا وبلاد السحر والجمال تميزت بتنوعها وأرثها الحضاري، تداخلت الثقافات على مدنها الساحلية لتمتد في عمقها مكونة فسيفساء ثقافية منوعة وزاخرة، أبدعت في فنون المسرح.
في هذا الفيلم التسجيلي الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية نتعرف على المسرح المغربي من بدايات نشأته وحتى الفترة الحالية، والمراحل التي مر بها صعودا وهبوطا، وأبرز الفرق والأعمال الفنية التي قدمت في هذا المجال.
“صلاح الدين الأيوبي”.. خشبة المسرح ضد مدفعية الاستعمار
عرف المسرح المغربي بأشكال عدة، فهناك مسرح الحلقة ومسرح سلطان طلبة ومسرح البساط ومسرح سيدي الكتفي، وكلها اعتمدت كبدايات للمسرح المغربي، وفقا للباحثة لطيفة بلخير. أما البداية الأولى على المسرح بشكله الحديث فكانت سنة 1907، حين أُسس مسرح “سيرفينتاس” في مدينة طنجة، التي كانت ترزح تحت الاحتلال الإسباني، فقد كان المغرب يخضع لاحتلال دولتين هما إسبانيا وفرنسا، وقد كان لهما مسارح متطورة، لكن المغاربة لم يتبعوا أيا من المسرحين إلا بإطار ضيق.
بعد ذلك توافد على المغرب العديد من الفرق المشرقية، وكان أولها فرقة محمد عز الدين المصرية، وقدمت مسرحية “صلاح الدين الأيوبي” في عام 1923، كرمز من رموز المقاومة الإسلامية لتتماشى مع واقع المغرب المقاوم زمن الاحتلال، وتوالت الفرق المسرحية إلا أن زيارة فرقة فاطمة رشدي المصرية عام 1932 كانت الأهم، فقد قدمت فنّا مغايرا.
وبعدها تأسست أول فرقة مسرحية مغربية على يدي تلامذة ثانوية مولاي إدريس بمدينة فاس وسميت بجوقة المسرح الفاسي، وكان من أعضاء الفرقة البارزين المهدي المنيعي وعبد الواحد الشاوي ومحمد المقري الذي كان من المناضلين المسرحيين وقدم الخطاب السياسي ضد المستعمر على خشبة المسرح مما عرضه للسجن والنفي.
ركود المسرح السياسي.. فرنسا تسلط زبانيتها
فُتن المغاربة بالمسرح وأصبح ذا جماهيرية وشعبية واسعة، وتبنت الحركة الوطنية المسرح مما جعله مركزا للمقاومة ضد المحتل، وكانت مسرحية “طرتيف” -وهي في الأصل رواية اجتماعية للفرنسي “موليير”- أول بواكير العمل المسرحي المغربي، فقد قدمت نقدا لمجموعة من رؤساء الطرق الصوفية الذين يسيرون في ركب الاستعمار.

وشكلت هذه المسرحية أول أزمة سياسية أحدثها المسرح ومُنعت من العرض، وبعدها صدرت مذكرة من سلطات الاستعمار الفرنسي ينبّه العسكريين مما يقدمه المسرحيون، واجتاحت المسرح موجة من الركود لغاية عام 1949 حين أسست فرقة التمثيل الإذاعي التي قدمت مجموعة من الروايات كأعمال مسرحية إذاعية، ومن تلك المسرحيات “الرشيد والبرامكة” و”طبيب رغم أنفه”.
وفي عام 1952 عملت وزارة الشبيبة والرياضة على تكوين مجموعة من الشباب الهواة من عاشقي التمثيل وإخضاعهم لدورات تدريبية، وقد كان لـ”أندريه فوازان” (Andre Voisin) الفضل بتدريب هؤلاء، بالإضافة لعبد الله شقرون.
يقول الفنان محمد الجندي: “كان لـ”أندريه فوازان” أثر مهم في مسرحية “الشطاب لموليير” التي شارك فيها الطيب الصديقي وأحمد العمري والطيب العلج.
مسرحية “الشطاب”.. انتقال مبكر إلى العالمية
انتقل المسرح إلى طور جديد، حين انتقلت مسرحية “الشطاب” إلى مهرجان الأمم في باريس بـ”مسرح سارة بيرنار”، كان هذا حدثا هاما وله دلالة كبيرة في مسار المسرح المغربي، فقد لاقت المسرحية استحسان الصحافة الفرنسية، وكتبت عنها كل الصحف، كما قدمت فرقة المعمورة مسرحية “عمايل جحا”، لكن منعت عروض الفرقة عام 1962.
أكمل الطيب العلج والطيب الصديقي مسيرهما، والثاني يعتبر علما من أعلام المسرح المغربي والعربي، ومن أهم أعماله مسرحية “بديع الزمان الهمذاني” واستطاع بذكائه وثقافته الواسعة أن يقود التراث المغربي لخدمة المسرح، فقد قام باستحضار التراث في أعمال منها “السلطان طلبة” و”البساط”.
يقول نقيب المسرحيين محسن مهتدى: الصديقي له أفضاله على المسرح المغربي من خلال تصوراته السينوغرافية والجمالية والرؤيا التي أعتمدها.
لقد كان فنانا تشكيليا حاضرا بقوة على المسرح فضلا عن كونه مخرجا وكاتبا تعددت عطاءاته، ويعتبر الأب الروحي لكل ممثل في المسرح المغربي، أما على المستوى العربي فيعتبر أحد أهم الركائز الناجحة لبدايات المسرح العربي.
“جحا والناس”.. مسرح بسيط بين الهواة والمحترفين
أما أحمد الطيب العلج فهو من الرواد، وهو اتجاه ومسار مسرحي قائم بحد ذاته يفرض نفسه، وكانت تجربته ملفتة من خلال ما كتبه أو ما اقتبسه.
يقول العلج عن تجربته وفنه: “أنا أقدم مسرحا بسيطا سهلا يفهمه الجميع غير معقد ولا شائك ويحاكي الذائقة المغربية”، وقد استطاع الطيب نقل التراث الشعبي لجمهوره وهو مؤسس المآسي الضاحكة.

يقول إن مسرحيته “جحا والناس” كانت بسيطة وقصيرة، ثم أضاف لها كونها قصة شعبية، وما زال العلج يذكر أصوات التصفيق له عند انتهاء العرض ويشعر بالفخر لما قدم.
إلى جانب المسرح الاحترافي كان هناك مسرح الهواة، وقد تشكل من محبي المسرح الذين لم يجدوا فرصة لتعلم المسرح لغياب المؤسسات التي تعنى بذلك، وبالرغم من هذا فقد استحوذوا على المشهد المسرحي، ومن أهم تلك التجارب تجربة عبد الحق الزروالي الذي تربع على عرش المسرح الفردي المنودرامي.
أبو الفنون.. سوسة المسرح التجاري
يقول الباحث حسن اليوسفي: كان عبد الحق الزروالي ظاهرة متميزة في تاريخ المسرح المغربي لأنها تأسست على العمل الفردي، كان ممثلا ومخرجا وكاتبا يملك مواهب متعددة كمبدع يستقطب كل مواهبه ويسخّرها في خدمة العمل، كان يتنقل بسيارته حاملا متاعه وإكسسواراته وديكور مسرحه، يتجول في المغرب ليوصل فنه لشرائح واسعة من المجتمع المغربي، وبالإضافة إلى ذلك كان صاحب رسالة وفنه هادفا.

يقول الزروالي: استمرت ممارستي للمسرح الفردي من عام 1961 إلى غاية 1976، لكن كنت أدور حول نفسي وليس هناك آفاق لهذا الفن الملتزم بقضايا الجماهير لمواجهة السلطة، وقفت أمام مفترق طرق بترك المسرح أو أن يلهمني الله اتجاها آخر، لكن المسرح هو أبو الفنون.
قدم عبد الحق الزروالي ثلاثين مسرحية منودرامية منها “الريق الناشف” و”ضريبة العشق” و”رماد وأمجاد”، وكان يرى أن هذا العدد من الأعمال أكثر مما كان يحلم به، ولكن في الوقت ذاته يرى في نفسه أنه لم يبدأ بعد.
مسرج تجاري.. فكاهة وتسلية
ويرى المتحدثون أن المسرح المغربي منذ 1960 وحتى عام 1990 بتجاربه وأسمائه ونقاده وأيديولوجياته كان مسرح هواة، وبينما كان ذلك المسرح مستمرا ظهر المسرح التجاري الذي كان خاليا من أي حمولة فكرية وثقافية وكان هدفه ربحيا مما جعله عرضة للانتقاد. يقول الزروالي: أمام مسرح الهواة الشرس والسياسي صاحب القيم والمعاني، ظهر المسرح التجاري البسيط لإضحاك الناس وتسليتهم.

يقول حسن اليوسفي: ظهر هذا المسرح في نهاية الستينيات في الدار البيضاء ومراكش وكان مقتبسا من المسرح الفرنسي “البوليفار” أي مسرح الشارع الكبير، وكان يقوم بجولات ليطال جميع الشرائح المجتمعية، وكانت الفرق تروج لعروضها عن طريق الغناء والرقص وإحضار البهلوانات من أجل استقطاب المتلقي.
ولمواجهة حالة التدهور التي مر بها المسرح المغربي، ظهرت العديد من المبادرات التي أسست لجيل جديد من المسرحيين، ومنها تأسيس المسرح الوطني لمحمد الخامس، وتأسيس المعهد العالي للفن المسرحي.
مهرجان فاس للمسرح الجامعي.. ثورة الهواة
مع تأسيس المعهد العالي للمسرح، ظهر وليد آخر من رحم الجامعة وهو المسرح الجامعي في الدار البيضاء بقيادة حسن صميلي، ليخلق فضاء يجمع بين المحترفين والهواة. يقول الباحث عز الدين بونيت: جاء المسرح الجامعي بمحض الصدفة في نفس الوقت الذي تفكك فيه مسرح الهواة، وقتها احتضن المسرح الجامعي أولئك الهواة.

لكن المسرح الجامعي يعتمد الطرق الأكاديمية والنصوص القوية على عكس مسرح الهواة، وقد أدخل مسرح الجامعة روبورتوار (مكتبة مسرحيات قديمة معادة) قوية وهو إضافة ثمينة للمسرح المغربي.
تطورت حركة المسرح الجامعي حتى أنها أطلقت مهرجان فاس للمسرح الجامعي، وقد شكلت المهرجانات إثراء كبيرا للحركة المسرحية المغربية، كما أنها أمدّت المسرح بالعديد من المواهب الشابة الواعدة، التي تفاعلت داخل أروقة المهرجانات الجامعية، وخلقت جوا من المنافسة وإثبات الوجود، فكانت المهرجانات قاطرة تجرّ كل الإنتاج الدرامي خلال السنوات الأخيرة.
أما مهرجان أغادير فكان له الأثر الكبير في الارتقاء بالمسرح يقول د. بن ياسر عبد الوهاب مدير مهرجان مراكش: لقد قاد د. محسن بن حكيمة مع مجموعة من الغيورين على المسرح والحراك الثقافي ركب المهرجان في تلك المدينة ذات الطابع السياحي، لقد كان المسرح الجامعي حاضنة للهواة الذين تخرجوا ثم التحقوا بمسارات للمسرح الاحترافي والتلفزيون والسينما.
هوية المسرح بين عصرين.. صراع الأجيال
يعيش المسرح حاليا بدينامية جديدة مغايرة لما كان عليه سابقا، مترافقة مع تنوع البيئة المغربية، وبفضل سياسات الدولة في دعم الحراك الثقافي تنشطّت هذه الحركة، مما أضفى على المسرح تنوعا وحراكا مهما، وظهر جيل جديد مجدّد برهن أن له تصورا واضحا ومسارا مشرقا، لكنه ورث إرثا ثقيلا بغياب الهيكلية المؤسساتية للمسرح.
يقول الباحث رشيد بناني: شهد المسرح انتعاشة من خلال المهرجانات التي تدعمها الدولة وهيئات المجتمع المدني والبلديات والجامعات، وعوضا عن الفردية في الماضي أصبحنا نعيش التعدد الإيجابي.

ويرى الكاتب عبد الكريم برشيد أن المسرح كالسوق والدكاكين والبضائع يعطي الجمهور حرية الاختيار ويقرب إليه الإبداع وهو ضروري.
ومن المبدعين الشباب الذين برزوا في الساحة المغربية المخرج حسن هموش الذي التحق بالمسرح عام 1991، ويقول عن تجربته: وجدتُ نفسي أغرد خارج السرب أنا وزملائي الخريجين، فنحن جيل لا نشبه من سبقنا من المسرحيين، لقد كانت خبراتي متواضعة لأني كنت أنتمي لمسرح الهواة، والتحقت بالمعهد العالي ثم التحقت بالمسرح بمراكش، وشاركت بالمهرجان الوطني الأول بمكناس، بدأت بمسرحية “مرسول الحب” ثم توالت الأعمال مثل “ناكر لحسان” و”ودارت فينا الدورة”، حيث طرحت أعمالنا قضايا أسرية بقالب كوميدي لتضيء على المجتمع المغربي بكل مشاربه وهواجسه.
يحاول هذا الجيل وضع بصمته الخاصة في المسرح من خلال ترسيخ دور المعرفة في تقوية التجربة الإبداعية والانفتاح غير المشروط على كل التجارب المسرحية ويضع لمساته في اللحظة الراهنة على مفهوم صناعة الفرجة إذ أنهم لا يعتمدون على النص فقط بل على أداء الممثل والاعتناء بالفضاء المسرحي والصورة.
منزلة بين منزلتين.. آفاق المسرح المستقبلية
رغم حيوية المسرح المغربي الحديث فإن القطيعة وعدم التواصل بين الأجيال تعتبر أحد المشاكل التي يعاني منها المسرح، فقد كانت عناصر القطيعة أكبر من عناصر الالتحام والالتحاق بين الأجيال لأنه ومنذ الاستقلال لم تتوفر مسارح ولا معاهد ولا مخرجين أو كتاب، لذا انسحب الرواد من حياة المسرح الذي لم يحقق لهم الاستقرار، كما أن الشباب يرون أنهم تلقوا تكوينا معرفيا يمكّنهم من القيام بالمسرح، خاصة أولئك الذين تخرجوا من أوروبا.
يقول المخرج ربيع الإدريسي: كل من الجيلين يجد أن له الأحقية في التصدر، فالشباب يمتلكون الوسائل والتقنيات والتكنولوجيا التي تمكنهم من تقديم رؤيتهم.

ويرى بن ياسر عبد الواحد أن من المجازفة أو من الادعاء وصف المسرح المغربي بأنه على ما يرام وجدليا ليس في حالة مرض عضال، وإنما هو بين المنزلتين.
ويراه آخرون مثل الألعاب النارية؛ كلما تفجرت أعطت ألوانا وأشكالا مختلفة، وهو بوابة للمجتمع المغربي نحو الحداثة، وهو رحلة البحث عن الهوية وهو كائن حي ومن أعظم مكوناته إيمان شبابه به. ورغم الاختلافات فالمسرح خَلق وإبداع وفن يضع فيه المبدعون مواهبهم وآفاقهم وفكرهم وثقافتهم لتزهو الحياة وتزهر.