“بيل وسيباستيان”.. أسطورة ولدت في المغرب وألهمت أطفال العالم
لا أحد يعلم من أين جاء بيل يسعى إلينا
يوم لاقى سيباستيان سار معه في كل مكان
ما أحلاه.. بيـــل
ما أوفاه.. بيــــل
فلينجح في كل ما يفعل بيل وسيباستيان…
هذا مطلع الأغنية التي تشكل مقدمة لحلقات مسلسل أنمي ألهم جيلا كاملا ممن عاشوا طفولتهم في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وتحوّل إلى قطعة من خيال وأحلام وتمثلات هذا الجيل للعالم والحياة.
بدأت قصة هذه السلسلة من الرسوم المتحركة بمشهد مطاردة مثيرة يتعرض لها كلب أبيض يبدو تائها ومتهما -عن باطل- بارتكاب جرم ما، ثم يظهر في المشهد الطفل “سيباستيان”، ويساعد الكلب على النجاة، لتصبح منذ ذلك الحين علاقة إخلاص ووفاء متبادل.
“إن كنت في خطر داهم يأتي بيل حالا إليك
ينقذك ويدور حولك إنه يخشى عليه
في السهول والجبال
في الحقول والمروج..”
هكذا تضيف المقدمة الغنائية ملخصة جل أطوار الحلقات التي يزيد مجموعها عن الخمسين حلقة.
قيم الخير المدفونة في ثنايا الأنمي.. صناعة القدوة الحسنة
بدأ عرض مسلسل الرسوم المتحركة “بيل وسيباستيان” (Belle & Sebastien) في اليابان وإيطاليا وفرنسا (مدبلجا) سنة 1981، قبل أن يعرض في بريطانيا بعد نحو ثلاث سنوات، ومن ثم ذاع صيت هذه السلسلة وترجمت إلى كثير من لغات العالم، بما فيها اللغة العربية.
وأكثر من مجرد التشويق والإثارة، تقدم شخصية الطفل “سيباستيان” والكلب “بيل” دروسا عدة للناشئة في الوفاء والتمسك بفعل الخير مهما كانت ظروف العيش صعبة وقاسية، ومعاملة الآخرين ظالمة. كانت الحلقات الكرتونية التي أنتجت وبثت لأول مرة بداية الثمانينيات تحمل في كل مرة درسا في الإيثار وركوب المغامرات من أجل مساعدة الآخر، حيث يكون هذا الآخر أحيانا هو الخصم الذي يحاول الإيذاء، لكن فطرة الخير تنتصر على محاولات ارتكاب الشر في كل مرة.
فإلى جانب الأسرة والمدرسة والمحيط العائلي والجيران، لعبت مسلسلات الكرتون دورا أساسيا في تنشئة جيل الثمانينيات والتسعينيات في العالم العربي، إذ كان أبطال هذه المسلسلات -وإن كانوا ينحدرون من سياقات ثقافية وحضارية أجنبية- يجسدون قيم الصدق والإخلاص والاستقامة، وتتحول إلى قدوة ومثال لدى الأطفال، وكانت الموضوعات تختلف من بطولة رياضية أو موهبة فنية أو عبقرية ذهنية لدى البطل، لكن القاسم المشترك بين جل تلك الشخصيات هو الأخلاق الحسنة والمهذبة، وتحدي الصعاب والإصرار على تحقيق الأحلام والطموحات، وهو ما ينطبق على الطفل “سيباستيان”.
جبال البرانس.. لقاء الطفل اليتيم والكلب المطارد
تجري أطوار القصة في إحدى قرى الجنوب الفرنسي، وتحديدا في جبال البرانس الواقعة في الحدود مع إسبانيا، وأرادت كاتبة القصة أن تكون بدايتها مع المطاردة المخيفة لكلب أبيض كان قد تلقى تدريبا على إنقاذ الناس، بينما اعتقده سكان القرية كلبا شريرا فحاولوا قتله.
تقود الحبكة هذا الكلب إلى لقاء أول مع الطفل “سيباستيان” في عز تلك المطاردة، وكأن الكاتبة حاولت المطابقة بين الطفل والكلب، سواء من حيث العمر (ست سنوات) أو حالة الضياع التي كان كل منهما يعيشها وحيدا، فقد كان سيباستيان يتيم الأب وفاقدا لأمه التي تركته في عهدة رجل طيب على أن تعود بعد حين، لكنها لم تعد لأسباب غير معروفة.
وفي تقاطع درامي بين قصتي الطفل والكلب، يدخل الصديقان معا في رحلة طويلة يعبران فيها جبال البرانص، غايتها البحث عن أم سيباستيان، وفي الوقت نفسه تهريب بيل من الصيادين الذين يبحثون عنه للسيطرة عليه واستغلاله أو بيعه مقابل مال وفير.
يودع الطفل “سيباستيان” كلا من الجد “سيسيل” وحفيدته “أنجولينا” التي كانت تحنو على الطفل المهمل وتشعره بالأمومة، ويمضي في سبيل البحث عن والدته المفقودة، فيقطع الحدود الفرنسية الإسبانية ويصادف في رحلته هذه كثيرا من الأحداث والشخصيات، وفي كل محطة كانت السلسلة تقدم حزمة من العبر والنماذج، وتبيّن للناشئة وجهي الخير والشر في الحياة والسلوك البشريين. ولم يكن ثالث “بيل” و”سيباستيان” سوى الجرو الصغير “بوتشي” الذي كان الطفل “سيباستيان” يحمله في جيبه، أثناء رحلة المغامرة هذه التي كانت الشرطة الإسبانية تقوم فيها بدور المطاردة، استجابة لطلب نظيرتها الفرنسية.
جبال الأطلس.. ميلاد بطل النسخة الأولى من السلسلة
قبل أن تخرج الصناعة الفنية اليابانية إلى الوجود هذه السلسلة الكرتونية التي اشتهرت عالميا وعربيا، كانت جذورها الواقعية قد نبتت في عمق جبال الأطلس المغربية، حيث أتت كاتبة القصة -وهي أديبة فرنسية- وتزوجت ابن أحد أشهر وأقوى القادة المحليين للمغرب في عهد الحماية الفرنسية، وهو الباشا الكلاوي الذي كان متحالفا مع فرنسا ضد السلطان المغربي.
هناك ولد حفيد الباشا، وهو المهدي الكلاوي الذي سوف تجعله الكاتبة بطلا للنسخة الأولى من سلسلة “بيل وسيباستيان” التي اكتسبت شهرة وصيتا كبيرين في الستينيات، قبل أن تصبح سلسلة للرسوم المتحركة في وقت لاحق.
فالشق الواقعي في قصة “بيل وسيباستيان” كان قد بدأ في جبال الأطلس المغربية، في خمسينيات القرن العشرين حين نشأت علاقة بين واحد من أبناء الطبقة البرجوازية التقليدية وقتها، وهو ابن باشا مدينة مراكش الشهير، الباشا التهامي الكلاوي، وبين ممثلة فرنسية حلت بالمغرب لتصوير أحد أعمالها السينمائية.
كان لقاء إنسانيا شبيها بالقصص التي تصورها أعمال الخيال السينمائية عادة، حيث التقت فتاة منحدرة من أصول برجوازية فرنسية تدعى “سوسيل أوبري”، بابن الرجل الأقوى في المغرب وقتها، والذي كان له دور حاسم في عزل السلطان محمد الخامس ونفيه عام 1953، حيث كان مواليا للاستعمار الفرنسي ومستفيدا من نفوذ داخلي كبير.
فخلال وجودها في المغرب لتصوير فيلم “الوردة السوداء”، نشأت علاقة بين الممثلة الفرنسية الحسناء وبين القائد إبراهيم بن الباشا الكلاوي، وسرعان ما تزوج سليلا الأسرتين البرجوازيتين سنة 1956 التي شهدت استقلال المغرب، ونتج عن هذا الزواج -الذي لم يدم طويلا- طفل اسمه المهدي (ولد يوم 26 مايو/أيار 1956)، وسيكون بطلا لأول نسخة من عمل “بيل وسيباستيان”، حين تابع الفرنسيون منتصف الستينيات سلسلة تلفزيونية تروي قصة علاقة صداقة ووفاء خاصة بين كلب وطفل.
يُمضي بيل وقتا طويلا، باحثا بين الثلوج
يُـنجد الضائعين، يرشد التائهين
ما أوفاه ، ما أحلاه
فلينجح في كل ما يفعل، بيل وسيباستيان
حفيد الباشا المغربي.. عزلة البطل الحقيقي مع الكاتبة المتفرغة
كانت هناك نقاط تقاطع بين القصة كما كتبتها “سوسيل أوبري” وبين الواقع، ذلك أن ابنها المهدي الكلاوي سيفقد والده بعد وقت قصير من ولادته، حيث انفصلت عنه قبل إتمام العام الأول من زواجهما، ثم سرعان ما توفي الأب إبراهيم الكلاوي عام 1971، دون أن تكون للابن فرصة التعرف على والده أو مصاحبته. كما يوحي اختيار جبال البرانس الوعرة باستعادة صورة جبال الأطلس المغربية التي نشأت فيها علاقة الحب التي ستثمر الطفل المهدي ليصبح بطلا حقيقيا لقصة “بيل وسيباستيان”.
يبدو الأمر كما لو أنها اختارت تكريس نفسها لابنها، فقد اعتزلت “سوسيل أوبري” التمثيل والفن، وتفرغت للكتابة ورعاية ابنها إلى جانب والدتها التي كانت قد انفصلت أيضا عن والد “سوسيل”.
حولت “سوسيل” ابنها المهدي إلى بطل لأول أعمالها التلفزيونية التي قامت بكتابتها وإخراجها، فقد عملت على تدريبه في سن مبكرة جدا على الوقوف أمام الكاميرا، وسجلت له أعمالا قصيرة أولها حين بلغ عامه الثالثة، ليصبح في عام 1965 بطلا لفيلم “بيل وسيباستيان” المقتبس من سلسلة قصص الأطفال بالعنوان نفسه، والتي ستتحول إلى شبه أسطورة تتناقلها الثقافات واللغات المختلفة.
تحوّل فيلم “بيل وسيباستيان” إلى سلسلة تلفزيونية كان يتابعها الفرنسيون ليلة كل أحد، باللونين الأبيض والأسود، ولاقت التجربة نجاحا كبيرا تطلب إنتاجها في موسمين مختلفين، ليعرض المسلسل في صيغة الإنمي أول مرة في اليابان عام 1981، وفي غياب معلومات موثقة، تقول بعض المصادر إن عدد الحلقات الأصلية يفوق ستين حلقة، بينما لم يصل منها إلى العالمية سوى بضع وخمسين حلقة تُرجمت إلى عدة لغات، كانت أولاها الفرنسية والإيطالية.
“بيل”.. كلاب بيضاء منتقاة لخلافة البطل الأول
أثناء التحضير لتحويل القصة المكتوبة إلى فيلم، كان لدى “سيسيل أوبري” الممثل المؤهل للعب دور الطفل “سيباستيان”، ولم يكن سوى ابنها المهدي الكلاوي، لكن رحلة البحث عن الكلب المؤهل للعب دور البطولة الى جانبه لم تكن سهلة، بل تطلب منها الأمر زيارة عدة ملاجئ خاصة بإيواء الكلاب المتخلى عنها. كما عمدت إلى نشر إعلانات مدفوعة تطلب من الأسر التي تربي كلبا تتوفر فيه مواصفات شبيهة بمواصفات “بيل” أن تقوم بترشيحه للمشاركة في الفيلم.
وقع الاختيار على كلب ضخم الحجم أبيض اللون رشحته إحدى الأسر الفرنسية، وبعد الرحيل المبكر لهذا الكلب كان على المهدي الكلاوي (سيباستيان) إتمام رحلة السلسلة مع كلب مختلف في كل مرة، فقد تعاقب على دور “بيل” عدد من الكلاب المنتقاة بعناية.
ينتمي “بيل” إلى فصيلة من الكلاب، تستوطن المنطقة الجبلية الحدودية بين فرنسا وإسبانيا، حيث يعتبر من الكلاب المفضلة لدى الرعاة نظرا لذكائه الحاد ووفائه الكبير للإنسان. وتتميز هذه الفصيلة من الكلاب التي يطلق عليها في فرنسا اسم “كلي كراند”، بضخامتها، حيث تبلغ في المتوسط وزن 50 كيلوغراما، وبكونها تلتحف بلون واحد هو اللون الأبيض، مع بعض البقع السوداء أحيانا، خاصة حول العينين أو الأذنين.
غنوا معنا.. اهتفوا معنا
يحيا يحيا الصديقان
بيل وسيباستيان
سماء النجومية.. تحليق الطفل اليتيم بعيدا عن أمه
شارك المهدي الكلاوي لأول مرة في تصوير عمل سينمائي عام 1957، وكان في عامه الثاني فقط حين جعلته والدته يتقمص شخصية في فيلم قصير قامت بإخراجه، ثم تتابعت مشاركاته في الأعوام التالية، وكان عام 1960 عام مشاركته في أول مسلسل تلفزيوني، وهو ما جعله منتصف الستينيات مؤهلا تماما للعب دور “سيباستيان” بكل ثقة وإتقان.
وكانت آخر مشاركات المهدي الكلاوي الفنية تحت أضواء والدته “سيسيل أوبري” في عام 1973، تزامنا مع خروجه من حضن والدته بحثا عن شخصية وتجربة خاصة به.
واصل المهدي الكلاوي إثر ذلك مسيرته الفنية مشتركا في أفلام ومسلسلات ومسرحيات إلى جانب مخرجين آخرين، قبل أن يدشن مساره الخاص كمخرج منتصف عقد الثمانينيات، حيث نال جائزة “سيزار” للفيلم القصير سنة 1985.
تتالت مشاركات المهدي الكلاوي الفنية، إلى أن ظهر من جديد في نسخة جديدة من فيلم “بيل وسيباستيان”، من إنجاز المخرج “نيكولا فانيي”، فتقمص دور شخصية بالغة تلتقي في أحد المشاهد بالطفل “سيباستيان”.
“سيسيل أوبريت”.. إرثان فنيان عظيمان في مسار طويل
لم تخل الحياة الحقيقية لـ”سيباستيان” (المهدي الكلاوي) من مشاكل وأزمات لم تسلم منها علاقته بوالدته، حيث تتضمن سيرة حياته -كما رواها بنفسه في كتاب- أزمة عاشها خلال فترة مراهقته، جعلته يبتعد عن أمه.
فقد كان المهدي الكلاوي في بدايات شبابه يبحث عن شخصيته المستقلة بعيدا عن ضيعة الأم والجدة والعالم الجميل التي كان يحيط به، لكنه كان يبحث أيضا عن مرجع يسترشد به في حياته كرجل، في ظل غياب والده إبراهيم الكلاوي الذي فارق الأسرة مبكرا ثم سرعان ما فارق الحياة كلها. وبعد مرحلة من البحث عن الذات، خاصة بعد وفاة والده واستحالة لقائه به من جديد، عاد المهدي الكلاوي ليرتبط بوالدته من جديد في العقود الأخيرة من حياتها.
توفيت “سيسيل أوبري” مبدعة قصة “بيل وسيباستيان” عام 2010 وقد أكملت ثمانين عاما، مخلفة هذه القصة الملهمة لأجيال من الأطفال، وإلى جانب قصتها الأسطورية تركت ابنا موهوبا في مجال الفن والسينما هو المهدي الكلاوي الذي عاد بعد احتجابه لعقود طويلة عن الأنظار، ليقدم أعمالا سينمائية كمخرج يعد بمواصلة المسار الذي بدأه إلى جانب والدته وهو صبي صغير.